عبد القادر رسام وملامح المدرسة البغدادية الرائدة في الرسم

Wednesday 30th of March 2016 05:33:03 PM ,

عراقيون ,

عادل كامل
ان المدرسة البغدادية للفنون منذ ايام الواسطي اعادت نفض اتربة الزمن العالقة بتاريخها، لتتجدد باساليبها وخبراتها ووظائفها وتخلق تعويضا لانعدام التوازن الذي سحبته تلك الحقب التاريخية المظلمة والتي امتدت الى مئات من السنين الثقال.


يقول الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد(تبلورت الاجواء، ونضجت عندي مسؤولية التعبير بالرسم على غرار ما كان يحدث بالشعر العربي الحديث، ماحدث للشعر سنجده للفن مع جماعة بغداد للفن الحديث بعد ان نضجت فكرة تأسيسها بين عام 1950- 1951. كنا نريد ان نوضح للفنان العراقي، ولانفسنا كجماعة فنية خاصة، بان استلهامنا للتراث في الفن هو المنطلق الاساسي للوصول باساليب حديثة الى الرؤية الحضارية).
وقد اصدرت جماعة بغداد للفن الحديث بيانا فنيا، تشرح احد نصوصه مبررات انطلاق الجماعة على النحو التالي: (تتألف، جماعة بغداد للفن الحديث، من رسامين ونحاتين، لكل اسلوبه المعين، ولكنهم يتفقون في استلهام الجو العراقي لتنمية هذا الاسلوب. فهم يريدون تصوير حياة الناس في شكل جديد، يحدده ادراكهم وملاحظاتهم لحياة هذا البلد الذي ازدهرت فيه حضارات كثيرة واندثرت ثم ازدهرت من جديد. انهم لايغفلون عن ارتباطهم الفكري والاسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم، ولكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق أشكال تضفي على الفن العراقي طابعا خاصا وشخصية متميز).
فالفنان بموجب هذا البيان، مهما يكن اسلوبه، يتوخى اولا، استلهام الاوضاع البيئية والاجتماعية التي يعيشها الفرد، كما يتوخى ايضا، تصوير حياة الناس وتطلعاتهم وآمالهم وعلاقاتهم ببعضهم. وعلى الفنان حسب هذا الطرح، ان تكون ابتكاراته وابداعاته في العمل الفني، بمثابة استمرارا للتقاليد الفكرية والجمالية في بلد تعاقبت فيه اول الحضارات التي عرفتها الانسانية، لذا يتوجب على الفنان ان يمد جذوره في تربته وتاريخه وتراثه، وبالمقابل فان الفنان لايمكنه والحال هذه ان يكون بعيدا عن ما تقدمه البشرية من ثراء فكري ومعرفي وثقافي وفني.
ومن هنا جاءت اهمية اعمال الفنانين العراقيين الرواد وطروحاتهم في الرسم والنحت، فظهور الرعيل الثاني،من هؤلاء هيأ وثبة للفن العراقي في الاتجاهات السليمة، فمن الناحية الاولى، قدموا قيمة مطلقة تشير الى ذهنيات متفتحة وخيال فذ، ومن ناحية اخرى، فان قيمة اعمالهم متعددة الاوجه تتصل بتراث الفن العراقي القديم، وتعكس طموحات طبقات وفئات تريد الاستفاقة لاجل تحقيق الذات، وتوطيد قدمها في عالم معاصر متغير، وابرز مثال يقف امامنا هو الفنان الخالد جواد سليم باعماله التصويرية وعمله النحتي في نصب الحرية ببغداد، فهو(يمثل فكرا خلاقا لازمة الاسلوب التي عاناها الفنان في محاولته تحديد السمات لفن عراقي عربي، يكون في الوقت نفسه مساهمة جادة في حضارة هذا العصر. واذا اضفنا الى هذا النحت رسوم جواد في السنين العشرين الاخيرة من حياته، التي كانت الوجه التخطيطي لمحاولته الاسلوبية الدائبة، وجدنا شدة الوعي لديه.
نشأ الفن ا لعراقي الحديث في بدايات الربع الثاني من القرن الماضي، ليعتمد في نشأته وتطوره على معادلة طرفاها: التراث العربي الاسلامي، من جهة والتراث الاوربي الغربي الذي تم تركيزه في الكشوفات العلمية وثمارها التكنولوجية من جهة اخرى، وكان هذا التوفيق بطرفي المعادلة، هو اساس مشروع النهضة الفنية في العراق. وقد واجهت ومنذ البداية العديد من الفنانين العراقيين الاوائل من دارسي الفن في اوربا معضلة تتمثل بكيفية السبيل لضمان امكانية المحافظة على التوازن بين التراث الذي يتمثل في الحاق الفنان بمزوق الكتب او الخطاط، والمعاصرة بنمطيها الكلاسيكي والحداثي التي تتمثل في اعتماد اللوحة المسندية والالوان الزيتية والعديد من الرؤى الغربية في بناء سطح اللوحة والتقنيات الملحقة بها. لقد وضع الفنان العراقي نفسه وادواته ازاء تحديات داخلية وخارجية، فكان النتاج الفني ومنذ البداية بمثابة وقفة معبرة عن ثراء وقدرة المحرك المعرفي والثقافي لديه، فنجد المشهد التشكيلي العراقي، تظاهرة فنية وفكرية وحضارية، بينت وجه المعطيات التي مكنت من بروز ملامح التحول والتطور والانطلاق، لحركة بارزة في النشاط الفني العراقي والعالمي على السواء.
ان المتابع المتخصص لمسيرة الفن العراقي عليه النظر باكبار الى جهود آباء الرسم العراقي التي تركزت على ثلاثة امور جاءت استجابة واعية لمتطلبات وحاجات واقعية قائمة على:
أولا- إرساء قاعدة الانطلاق لحركة التشكيل العراقي والتأسيس لها بوضع صنعة الرسم بين ايدي من يتطلعون الى حذفها.
ثانيا- تأصيل التشكيل كخطاب جمالي بصري في الثقافة والابداع العراقيين.
ثالثا- السعي الى بلورة رؤية خاصة تقوم على استلهام الارث الفني الرافديني المتمثل بما انتجته اقدم الحضارات الانسانية، وما قدمته المدرسة البغدادية التي اشتهر الواسطي كاحد ابرز مبدعيها، وايضا التمثل السليم للمنجز الفني الاوربي، والانفتاح على روح العصر.
واقرب المؤثرات الثقافية على نهضة الفن في العراق، تمثلت بالتأثيرات التركية والبولندية. اذ انتقلت التأثيرات التركية عن طريق رسامين هواة، تعلموا الرسم في المدارس العسكرية العثمانية، وكان عبد القادر الرسام احد اهم هؤلاء، الذي اتسمت اعماله بالاصالة والغزارة الانتاجية، وترك ارثا كبيرا من اللوحات الفنية التي صور فيها الطبيعة البغدادية الساحرة والريف البغدادي. وكان الرعيل الاول يضم كل من: (عثمان بك وناطق مروة وشوكت الخفاف ومحمد صالح زكي وحسن سامي واكرم القيمقجي وناصر عون والحاج محمد سليم (والد الفنان جواد سليم) والفنان عاصم حافظ، واخرين)لم يتم التوثيق لنتاجاتهم الفنية، و(وكانت مواضيعهم تعتمد على تصوير الطبيعة والمشاهد اليومية باسلوب تقليدي او طبيعي ليس له وضوح او سمة صاغية)
. وقد بدأت عملية تأسيس حركة الفن التشكيلي العراقي الحديث على وجه التحديد، في اوائل الثلاثينات من القرن الماضي، حيث تولت وزارة المعارف آنذاك ارسال البعثات الفنية للدراسة خارج العراق، حيث تم ارسال الفنان اكرم شكري عام 1930 كأول مبعوث عراقي لدراسة الرسم في بريطانيا، والفنان فائق حسن لدراسة فن الرسم في مدرسة البوزار في باريس، وكذلك الفنان عطا صبري، والفنان حافظ الدروبي، وجواد سليم، وبعد عودة هؤلاء الى بغداد، قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها مباشرة، تم انطلاق ما يمكن تسميته ببداية عملية التأسيس لحركة فنية تشكيلية في العراق، واطلق عليها»حركة الرواد»من الرعيل الاول والثاني، باعتبارهم (جيل البحث والتطلع والتنوير)، وقد اقيم اول معرض للجماعة الفنية في بغداد ضمن المعرض العالمي للصناعة والزراعة. وفي عام 1935 صدر اول كتاب يحمل عنوان (قواعد الرسم على الطبيعة) للفنان المؤسس عاصم حافظ، وبعد ذلك بعام واحـــــــــد اقام
الفنان حافظ الدروبي اول معرض شخصي في بغداد، وفي عام 1938 عاد الفنان فائق حسن من باريس، وفي (عام 1939 سافر الفنان جواد سليم ببعثة رسمية لدراسة الفن الى باريس، وفي نفس السنة افتتح فيها فرع للرسم في معهد الفنون الجميلة وتلاه فتح فرع للنحت، وتشكلت جمعية»اصدقاء الفن»عام 1940 من بعض هواة الفن وانضم اليها المهتمون بالثقافة الفنية، واستمرت في نشاطاتها السنوية لغاية 1947)كما صدرت مجلة (الفكر الحديث) للفنان جميل حمودي بين عامي 1945- 1947 وهي اول مجلة تعنى بالفن الحديث والثقافة المعاصرة وكان صدورها يشير الى بدايات النقد الفني على بساطته). اما التأثير الثاني في نشوء حركة فنية عراقية حديثة فقد جاء عن طريق (الاتصال المباشر بعدد من الفنانين البولونيين والانكليزالذين كانوا مجندين، رافقوا جيوشهم العسكرية عند دخولها العراق اثناء الحرب العالمية الثانية عام 1942، ليعكسوا تأثيراتهم بأساليبهم ورؤيتهم الجديدة للعمل الفني، مما عجل بابتعاد الفنانين العراقيين الشباب عن الاساليب التقليدية القديمة).
فصل من دراسة موسعة بعنوان
(تاريخ الرسم في العراق)