قاسم حداد ورثاء ذات الأمس...قراءة في (خروج رأس الحسين من المدن الخائنة)

Friday 11th of March 2011 06:54:37 PM ,

منارات ,

علي وجيه
- غموضٌ مشترك -
في كتاب (سيرة الذئاب) لقاسم حدّاد وهو أحد كتبه التي يتكلم فيها عن تجربته الشعرية يقول حداد:"ليس الغموض الذي نصادفه في الفن من اجتهادات الفنان ، على العكس ، إنه الدأب الدائم الذي يبذله الفنان في الكشف عن اسرار تجربة الحياة وفضح الكامن والمتماري فيها ، وإتاحة أكبر قدر من مساحة المتعة أمام ذاته ، لمعرفة هذه المهزلة الدموية التي تورط في اجتيازها بكامل الحساسيات التي تتصل بمعنى الحياة" ،

ويضيف حدّاد في مكانٍ آخر :"ما يسمّونه غموضاً يكمن في درجة الاستعداد الثقافي لدى الفنان والمتلقي بحيث تكون العملية مشتركة بين أطراف متكافئة لتحقق المتعة لنعرف أن الغموض هو الفجوة التي علينا أن نجتازها معاً".
هذان المقطعان من رأي "شخصيّ" في السيرة الشعرية رُبّما من شأنهما أن يشرحا الكثير من تجربة قاسم حدّاد الذي ظلّ أميناً لهذا الكلام ؛ فالشاعر (الدؤوب) الذي أصدر أكثر من 25 كتاباً يخصّ الشعر بين تأليف ونقدٍ وشذرات ظلّ حريصاً على شيء يُدعى (المتلقي) في وقتٍ اتجه فيه أغلب الشعراء العرب الى منطقة اللامفهوم واللاسياق في القصيدة ضاربينَ بعرض الحائط ذائقة القارئ ، فهو يكرّر وفي أكثر من مكان قوله بضرورة عدم مجانيّة قصيدته وفي نفس الوقت عدم انغلاقها واضعاً نفسه في منطقة حرجة قد لا يستطيع جميع الشعراء الولوج اليها بسهولة دون أن يقعوا في التقريرية من جهة ؛ وفي الطلاسم من جهة أخرى...
- حُسينان -
لا بُدّ لنا من التساؤل عند قراءة أيّ مجموعةٍ شعريّة أو أيّ نصٍ بصورة عامة ؛ هل الكتابة فعلٌ ذاتيّ محض؟ أم أنه نقطة التقاء بين الذات والعوامل الزمنية والتأثيرات؟ ، وهل الذات – أثناء وبعد الكتابة – تكون دافعةً لذات الشاعر تجاه ما يحيطه أم هي عمليّة لتذويب المحيط في هذه الذات؟ ، بعد هذه التساؤلات يبرز السؤال الأهم : لِمَ يستدع الشاعر شخوصاً مرّتْ عليهم السنوات ليستحضرهم بنصوصٍ في الألفية الثانية؟...
الشاعر البحريني قاسم حداد في ديوانه (خروج رأس الحسين من المدن الخائنة – 1972 – دار العودة ، بيروت) يحاكي غربةً ذاتيّة لا تستقرّ في سياق زمنيّ محدّد ؛ إذْ أنّه يجسّد – وبطريقةٍ واضحة – أهمّ الخسارات الكونيّة في تراثه الشخصيّ ، فالخسارات تُجسّد بعددٍ من الرموز الدينية والتأريخية والشعريّة عبر نصوصٍ مطوّلة ضمّها هذا الديوان فـ(الحسين بن علي ؛ الحجّاج وغيرهما ) بالإضافة الى عددٍ ممّا يُمكن أن نسمّيه "ظلال أصوات" شعريّة مثل (بريخت ، السيّاب ، لوركا وغيرهم) ، هذا كلّه عمد الى خلق توليفةٍ من الأصوات والأمكنة و الأحداث والخسارات المتشابهة ما بينها...
في زمن صدور الديوان (1972) كان الرّائج حينها من ضمن الأساليب البنائيّة – التعبيرية للقصيدة هو تقنيّة القناع التي اشتهرت لدى عددٍ من الشعراء المؤثّرين بقاسم حدّاد كـ(أدونيس ، يوسف الصائغ ، السياب والبياتي وغيرهم) الأمر الذي بدا واضحاً على عددٍ من تجارب حدّاد المهمّة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي...
يفتتح حدّاد ديوانه بنصّ حمل عنوان (صدأ السيوف في الغمد المألوف) ، وليس بعيداً عن القارئ الدلالة الصوتيّة – السجعيّة في العنوان الذي يذكّرنا فوراً بعناوين الكتب الدينية – التأريخيّة بطريقةٍ أراد بها حدّاد وضع المتلقي أمام 3 محاور كونيّة مهمّة :
1 – الدين بوصفه طريقاً الى السَّماء
2 – الشّخصية الدينية – التأريخية بوصفها "حدثاً" مؤثراً في (الذاكرة) الحاليّة
3 – الشخصيّة الدينية – التأريخية بوصفها قناعاً لمأساةٍ مشابهة لما يحدث في زمن الكتابة
فالحُسين لدى حدّاد صوتٌ متكرّر في كلّ الأزمان (كما هو مشهور لدى الذّاكرة الإسلاميّة) ، وهو يستدعيه – في هذا النصّ – بطريقة المتكلم (التي لم تكن رائجة في وقتها!) :
تجاسرتُ ؛
ألغيتُ كلّ مواعيد قتلي
ولذتُ بصدر الطفولة
دخلتُ كتاب النبيّين قسراً
ومن بابه المستباح
وكان الصباحُ غبيّا ، ونحنُ سيوف القبيلهْ
صرختُ : افتحوا
حاورتني عيونُ الضغينهْ
ومرّت علينا الحوافرُ ، ليلاً
تجاسرتُ ، لم أترك السيف يمضي
تيممّتُ بالجُرح
كانتْ مياهُ المدينة سمّاً وقارا
تتجلّى حرفنة قاسم حدّاد الشعريّة في هذا الديوان بمسألة ارباك المتلقي ، حتى ليغدو (الحسين الإمام) و (الحسين القناع) متمازجيْن في لحظة ، فحدّاد لا يجعلُ القارئ يطمئنّ الى النصّ دون أن يحفّز مخيّلته ، فكلّنا نعرف أنّ الحسين ما كان ليقول (دخلتُ كتاب النبييّن قسرا) ؛ إذن : فالحسينُ هنا قناع ، أمّا حداد فهو يعود ليُربك قارئه ويقول : (صرختُ افتحوا / حاورتني عيون الضغينهْ ، ومرّت علينا الحوافرُ ليلاً) بصورةٍ تذكّرنا كثيراً بأحداث اليوم التاسع والعاشر من محرّم 41 هـ في واقعة الطفّ الشهيرة...
تتعدد الخسارات الكونية في هذا الديوان – الصرخة ، فالحسين و غرناطة يحضران على أغلب مفاصل الديوان ، بالإضافة الى وحشةٍ من واقع يتسم بالمظلومية الهائلة تأريخاً وحاضراً ، فهو يصدّر قصيدته (كلمات جندي رهن الاعتقال) بمقطع لبرتولت بريخت :
"حين يفرغ الحاكمون من كلامهم ، سوف يتكلم المحكومون"
ويبدأ حدّاد قصيدته بـ:
" كُنتُ واحداً من الذين يمسحون جبهة البنادق
انحنيتُ عندما لطخني الضابطُ بالشتائم الصفراء"
بهذا المفتتح الذي يبتدئُ بـ"كُنتُ" نحنُ أمامَ خذلان يبدو للمرة الأولى أنه من قبل الجندي ، الا ان اكمال القصيدة يوضحُ شيئاً آخر :
"ممنوع عني الخبز الأحمر
ممنوع عني الماء الرائق في صحراء معسكر
ممنوع...
لم يبقَ لدينا في الخيمة
لم يبقَ سوى تلك النجمة
أما أن آكل من كتفي
أو : أبقى في الصحراء ؛ وأكفر"...
خذلانٌ هائل يحتفي به هذا الديوان على عكس الدواوين الأخرى لحدّاد والتي تنبئ بأغلبها عن وجود قوّة داخلية داخل (الشاعر ، الرائي) إلاّ ان هذه النصوص احتفلتْ بالخسائر كأتمّ ما يكون من الفجيعة ، فحدّاد ؛ حتى حين يتكلم على لسان الحجّاج (الطاغية الهائل) يتكلم عنه بصفة المخذول، على الرغم من أن سيرة الحجاج لا تشير الى ايّ خسارة مرّ بها الحجاج (عدا انسانيته بالطبع!) فهو يقول :
"وضعتُ العمامة لكنهم جهلوني
وردّوا السيوف لنحري
وهزّوا عروش الخليفة"
ذواتٌ عدّة مرّ بها الديوان محاولاً اختزالها بطريقةٍ أو بأخرى ؛ إلاّ ان ذلك لا يكشفُ – مع نهاية الديوان – سوى وجود ذاتٍ واحدة ؛ هي ذات الشاعر ، التي تقمصت الحسين والحجّاج ، غرناطة والأمل ، بريخت ولوركا ، وفي النهاية لا يكون الديوان سوى ديوان رثاء لهذه الذات التي تجوّلت في الزّمن الآفل كي تكشفَ أخطاءً كونيّة مرّ بها التأريخ...
"آه ادركونا ؛
جاءتْ رسائلكم ، حملناها ، خرجنا من سماء الضوء
أدخلنا عواصمنا الى أرض الغرابة
وتوضّأنا برمل الشهداء
وعرفنا كيف في غرناطة تبكي سحابهْ
كيف صارت فجأة ، كيف استحالتْ
بعد أن كانتْ خرابهْ
جاءت الياء تزحفُ في جسد المستحيل
تسمي البغايا بأسمائهن ، ترى المفردات الغريبة
توزع نار المحبة والأصدقاء
وتمحو تقاويم عصر المرابين ، نكتبُ عصر النقاء"..
...
ويبدو أنّ قاسم حدّاد ؛ وبتجربته التي تتسعُ يوماً بعد يوم ؛ يكتبُ نقاءً شعريّاً ينبع من علاقته بالمتلقي والتي تتصفُ باحترام ، عكس الإهانات العقلية التي يوجهها لنا أغلب الشعراء اليوم!.