موقف الجواهري من أنقلاب بكر صدقي عام 1936

Sunday 8th of May 2016 05:56:46 PM ,

ذاكرة عراقية ,

عباس غلام النوري
دخلَ العراق في الثالث من تشرين الأول عام 1932 عضواً في عصبة الأمم المتحدة بَعَد أن الغي الانتداب ليكون العراق دولة مستقلة رسمياً.وبوفاة الملك فيصل الأول أصبح العراق على أعتاب المرحلة الجديدة من تاريخه المعاصر بعد تقليص النفوذ البريطاني نسبياً وارتقاء الملك غازي العرش، وهو قليل الخبرة والتجربة.

وظواهر أخرى أفرزها النزاع السياسي في العراق كل ذلك فتح الأبواب أمام الصراعات الداخلية بين الساسة الذين استعانوا بالعشائر في تنفيذ مأربهم ومن ثم التجأوا الى الجيش للوصول الى الحكم إذ تحولت الوزارة الى مسرح سياسي للمجتمع جُعل منهُ أداة قوتهم وفرض سيطرتهم على السلطة التشريعية في العراق حتى أصبحت السياسة خلال ما بقى من العهد الملكي صراعاً مستمراً بين هؤلاء الساسة للوصول الى سُدة الحكم، ولم يترددوا اذا تطلب الأمر منهم اللجوء الى العنف.
لم يكن الجواهري مرتاحاً من الأضطرابات والأزمات التي عاشها العراق إثر انتهاء الانتداب بحكم ما يمتلكه من نهج ديمقراطي وتطور سلمي وبدأ الأمر أمامه قد أخذ يتراجع عن القيم الديمقراطية، لذا لم نجدهُ يؤيد حركات العشائر أيام وزارة ياسين الهاشمي الثانية"1935"وفي الوقت نفسه وقف ضد تنامي قوة هذهِ الوزارة، ولم تدم الوزارة الهاشمية وما فيها من ملاحظات حتى طرأ تغيراً في الحياة السياسية والفكرية تمثل بانقلاب بكر صدقي العسكري عام 1936 الذي أقام لعناصر اليسار والمنادين بدعوة الديمقراطية وأنصاف الطبقة الأجيرة جواً واسعاً مما لهُ الأثر البارز في أحداث العراق كل ذلك انعكس نفسياً لدى الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي نظر اليها من حيث الدوافع والنتائج.
لعبت جماعة الأهالي دوراً بارزاً في الإعداد للانقلاب وقامت بوضع صيغة البيان الذي ألقتهُ الطائرات وقعه بكر صدقي صاحب الانقلاب"قائد القوة الإصلاحية الوطنية"الذي كان يشغل قيادة الفرقة ورئاسة أركان الجيش ومن ثم الإعلان عن التشكيلة الوزارية بعد دخول الجيش الى بغداد.
ويمكن القول ان بكر صدقي الذي لم يتول منصباً وزارياً كان الرجل القوي في الحكومة الجديدة التي لم تتخذ أي إجراء دون مشاورته ومن جانبه عمل على إبعاد خصومه من الجيش من ذوي الاتجاهات القومية عن المراكز الحساسة.
أما رئيس وزراء حكومة الانقلاب حكمت سليمان فقد أكد وعود الإصلاح التي أعلنها قادة الإنقلاب من دار الأذاعة في يوم 5 تشرين الثاني 1936 وخطة الحكومة في تسيير أمور الدولة وأصدرت حكومتهِ منهاجها الوزاري في9كانون الأول1936 الذي أكد إحلال الطمأنينة ووضع خطة إصلاحية صحيحة شاملة تكون وليدة سياسة بعيدة عن المحسوبيات والمنسوبيات وغيرها، مشيراً الى تعزيز روح التآزر بين العراق وبريطانيا.
لقد كان انقلاب بكر صدقي العسكري حدثاً بارزاً في الساحة العراقية، أعقبهُ تشكيل جمعية إصلاحية من نخبة من المثقفين ولاسيما من جماعة الأهالي فضلاً عن رئيس الوزراء باسم"جمعية الإصلاح الشعبي"وكان الجواهري يتعاطف معهم ويستثمر جهودهِ الفكرية والصحافية لخدمة أغراضهم بعد أن فسحت السلطات البريطانية، ولو بشكل غير مباشر المجال أمام هذه الفئات اليسارية بعد تفاقم المبادىء النازية وغيرها من الافكار التي كانت تعادي بريطانيا.
ولم يكن الجواهري في تلك المدة من المنتمين الى جماعة الأهالي التي خططت لانقلاب بكر صدقي ومساندته وعلى الرغم من صلاته الوثيقة بعدد من اعضاء هذهِ الجماعة، لم يكن معروفاً لدى اليساريين الذين علا شأنهم بعد مجىء حكومة الانقلاب، ولو فعل ذلك لاختير نائباً في المجلس النيابي الذي اجريت انتخاباته في عهد وزارة الانقلاب على أقل تقدير ولكن هذا لم يحصل.وأدعى الجواهري انه على علمٍ سابق بالانقلاب عن طريق أحد المقربين له من أترابه الذي يسكن قرب داره أخبره عما سيحول اليه مصير العراق في الساعات القادمة وطريقة الخلاص من الوضع القائم، وكانت له صداقة مع أحد الضباط الذين أنزلوا اول قنبلة على بغداد مع عدد غير قليل من المنشورات التي عمت شوارعها أيضاً، ناصحاً الجواهري بالوقوف الى جانب هذا الانقلاب وحثهُ بعدم خروج أطفاله الى المدارس وتوتر الأحوال.
وكعادة الجواهري في الاندفاع المعهود وسرعة اتخاذ القرار نجدهُ يبدي تأييداً للانقلابيين على الرغم من كونه لايرتبط لامن بعيد او قريب لجماعاتهم كما ذكرنا ولاسيما جماعة الأهالي التي خططت للانقلاب وكانت قاعدته الجماهيرية إن صح التعبير او إحدى أهم أركان النظام الجديد، مدفوعاً"أي الجواهري"ليس بالموجة الوطنية وحدها بل بشحنة إضافية من الانفعالات والتصورات التي تتجاوز حجم الانقلاب الى ثورة وطنية واكثر من ذلك الى ثورة أشتراكية ولاسيما أن الجواهري كان ناقماً على حكم ياسين الهاشمي لما لقيه من جراء سياسة حكومته وهو في سلك التعليم كما ذكرنا، فضلاً عن رغبته بالفوز بكرسي النيابة كما وُعدَ الا أن عقبات وقفت بوجههِ حالت دون ذلك.
ويروي لنا الجواهري في مذكراته عن تلك الحقبة من تاريخ العراق"أي مدة حكم الهاشمي"وموقفه من تلك القصيدة التي نظمها في نهاية عام 1935 بعنوان"حالنا اليوم او في سبيل الحكم"التي نوهنا اليها في الفصل الأول، إذ كان لها الأثر البالغ في حمل هموم الناس فيقول:"لقد دخلت السياسة إن صحت التسمية من أبواب أخرى من باب حب المشاركة للناس، ولو كنتُ مخلوقاً لغير هذا المفهوم لعرفت طريقي اليها.
وكان الجواهري يرى في رجال الانقلاب أشخاصاً مناوئين للاستعمار وأعوانهم وهم كذلك يشاطرونه في الاتجاهات والآراء، لذلك تقدم الجواهري بطلبٍ الى وزارة الداخلية للحصول على امتياز لإصدار جريـدة مع أحد أصدقائه وهو الأستاذ الأديب"مصطفى علي"وكانت الجريدة باسم"الانقلاب"، وفعلاً حصلا على امتياز الجريدة وصدر عددها الأول في 25 تشرين الثاني عام 1936 وكانت الأعداد الأولى للجريدة تفصح عن تأييد للانقلاب ومتجهة كل الاتجاه له وناطقه بلسان صاحب الانقلاب الحقيقي ويقول عبد الكريم الدجيلي"حين حدث الانقلاب أندفع الجواهري بكل قواه لمساندته وسرعان ما أصدر جريدته تلك وكان المفروض أن يفوز بعضوية المجلس النيابي خاصة ورئيس الوزراء حكمت سليمان وجعفر أبو التمن وزير المالية على صلة وثيقة به الا ان صالح جبر، وزير العدلية، وقف نداً حال دون دخوله الى البرلمان الجديد.
كانت جريدة الانقلاب تصدر في اول الأمر ثلاث مرات في الأسبوع ومدة قصيرة جداً حتى صارت تصدر يومياً ووضع جريدته تحت تصرف الكتاب والمفكرين لكي يدلو بآرائهم، فقد ابتدات اولى مقالات التأييد على يدالكاتب السيد مرتضى فرج الله وهو يكيل المديح للانقلاب في مقالته"رسول الانقلاب"وبعد هذا المقال المدوي بدأت المرحلة الأولى من عمر الجريدة بمقالات متتالية كتبها الجواهري نفسه، وكانت واحدة من هذهِ المقالات بعنوان"كوني حازمة ياوزارة الإنقلاب"اذ يقول في هذا المقال"أيدنا وزارة الانقلاب لأننا رأينا المصلحة العامة تقضي بتأييدها، واعتقادنا بحسن قصد رجالها ولأنها تسلمت مقاليد الحكم بالكيفية التي كنا نصبوا اليها فقضت على أدوار ملتْ منها البلاد كثيراً وجزع الشعب من تصرفات المسؤولين فلم تر من الصواب أن تجابهها بغير التأييد والصبر لنفسح لها المجال والعمل"ومن المقال يتضح معالم موقف الجواهري وما يرمي أليه من تأييد مطلق للانقلابيين، مستطرقاً في الوقت نفسه بأن لايشمل تبديل الأشخاص الذين كانوا يقعدون على الكراسي بل يأمل من ورائها أن يشمل التغيير كل نواحي الحياة، ودعا في نهاية المقال الحكومة على أن تكون حازمة يقظة لقطع دابر من يريد بالبلاد سوءاً وطالب أيضاً بالأصلاح الداخلي والى زيادة حصة الشباب في البرلمان القادم ومحاربة الرجعية وجعل الصناعة ركناً من أركان النهضة، وإسقاط الأقاويل والتهم بأن العراق لايصلح الا للزراعة.
أعقبت هذه المقالة مقالة أخرى في تأييد الانقلاب، دعا فيها الحكومة الى الحزم والشدة بقوله"فلا عذر لكم في التزام اللين والهدوء، وليس للرحمة ولا للشفقة ولاللعطف ذكرُ في معجم السياسة، وقد أصيبت البلاد بنكبات واعادة الأمور تتطلب الضربة القوية الحازمة والحق المغتصب لايعود الا بالقوة فأعملوا بشدة وحزم".
ويبدو لنا من خلال هذهِ المقالات وما بعدها ان الجواهري كان مندفعاً ومتطرفاً في الدعوة للتعبير، وهذا خلاف مايحملهُ من روح ديمقراطية وقيم مؤمنة بالاصلاح السياسي السلمي، ومع كل هذا كان ذلك الاندفاع كما اتضح فيما بعد مشوباً بالحذر الشديد من الحركة الانقلابية وبروح قلقة عما سيئول له الأمر، ومع هذا استمر مؤيداً للوضع الجديد، وفي قصيدة له دعا لعدم التهاون وعلى أبناء الشعب جميعاً أن ينظموا تحت لواء الانقلابيين.
لم يدم التفاؤل بتحقيق الاصلاح،اذ لاحظ المفكرون وأصحاب الرأي أن شيئاً لم يتغير، وأن ما يطمح له الشعب من تغيير وأصلاح لم يلمسه أحد، لذا طالبت جريدة الإنقلاب وزارة حكمت سليمان بالإصلاح في كل مجال من مجالات الحياة، بدأ الجواهري بتقبيح الحالة وعلى سبيل المثال عندما قامت الوزارة المذكورة بأول تغيير ملموس وجوهري وهو حل المجلس النيابي، والشروع فوراً بإجراء انتخابات جديدة في 10كانون الأول 1936، كان لجريدة الانقلاب ومقالاتها وقفة وآراء، إذ دعت الجريدة الى مشاركة الجماهير في الانتخابات لضمان انتخاب من يمثلهم تمثيلاً حقيقياً منتقداً نظام الانتخابات المعتاد (غير المباشر) في السنوات السابقة لأنه لم يعد يلائم التطور السياسي والثقافي الذي وصل اليه الشعب، فضلاً عن دعوته لمشاركة الشباب الطموح الذي علق آماله عليهم ولأنهم اهل المسؤولية الملقاة على عاتقهم وعدم أستئثار الحكم في مناصب الدولة واقتصارها على فئة من الرجال أغلبهم من الفئة العثمانية يتناوبون الصعود الى دفة الحكم بين الحين والآخر مشيراً في الوقت نفسه الى دور الشباب بعد تأسيس جمعية الاصلاح الشعبي التي جاء منهاجهاً حافلاً مع مصلحة الشباب في إقامة النوادي وإصدار صحف ومجلات حرة وصريحة مؤكداً ضرورة الابتعاد عن النخبة التقليدية وتضمين الجسد السياسي بروح جديدة وثابتة.
عني الجواهري بنواحي الاصلاح، وبدأ يكشف لأصحاب الانقلاب تراكمات الفساد الإداري والقضائي وكيفية التعامل مع هذه النواحي عادّاًَ أياها أخذاً بتهشيم الجسد العراقي خاصةً في مرحلته الراهنة، منها القضاء على المحسوبيات والمنسوبيات وما يسميه الجواهري بالإقطاع الوظيفي المسيطر على نواحي الحياة اذ يصفهم في إحدى مقالات جريدته بالمتسلقين على أبواب الدوائر الحكومية.
لم يلمس الجواهري أي تغيير في الحكومة الجديدة، رغم مساعيه مع الآخرين في الدعوة للإصلاح وتضمين الجسد السياسي بعناصر جيدة وجادة، وبدأت الخشية والحذر تنتابه من فشل جميع المساعي الرامية للإصلاح أولاً وفشل طموحهِ في الفوز بكرسي النيابة ثانياً، وبدأ عندها يكشف عن خشيتهِ هذهِ ولاسيما في مقال أسماه"ماذا بعد خمسة أشهر"مؤكداً أن لاتغيير طرأ على البلد ولم تحرك السياسة الانقلابية ساكناً تجاه الشعب ومواقف الحياة لديهم، ورثته عن الوزارة السابقة ليذهب للقول"لكن الحقيقة مرة ولكنها على كل حال حقيقة آمال المخلصين المتعلقين بهذهِ الوزارة، وان ما كان ينتظر ان يتم على يد الانقلاب أضحى وكأنه سحابة سوداء من التشاؤم وأن من كان يظن ان الإصلاح الفعلي الذي ينال من صميم الأوضاع الاجتماعية ليحقنها ويمس حياة الفرد العراقي في كل نواحيه الفاسدة، ظل محل شك وخوف من بقاء كل شيء قبل الانقلاب".
على الرغم مما تقدم لم تدم علاقة الجواهري مع رجال الإنقلاب ودية، فسرعان ما أخذ يوجه نقده اللاذع لهم متهماً أياهم بتخليهم عن الوعود، وصادف أن حصلت قضية جعلت الشرخ واسعاً بين الجواهري والانقلابيين وخلاصتها أن حركة احتجاج حدثت بين أفراد الطبقة الفقيرة من أبناء الطائفة اليهودية في بغداد ضد ارتفاع أسعار اللحوم التي يشترونها من الجزارين اليهود الى درجة أن المحتجين هددوا بشراء اللحوم من الجزارين المسلمين فما كانَ من الجواهري الا أن يساندهم في هذه القضية، التي سميت فيما بعد بقضية"الكاشير والطاريف"فأدى ذلك الى إضراب أكثر اليهود عن شراء لحوم الكاشير ومن ثم زعزعة موقف"الحاخام"ساسون خضوري رئيس الطائفة اليهودية في العراق، فذهب هذا الرجل ليبذل كل مابوسعهِ من جهود لايقاف حملة الجواهري في أمر هذه المقالات التي شنتها جريدته وبعد محاولات متعددة فضلاً عن تلويحهِ للجواهري بالمال ليكف عن تحريضهِ لهم، أخذ الجواهري يساندهم أكثر من ذي قبل مما أضعف ذلك المسعى وحمل فضلاً عن ذلك رئيس الطائفة الى أقامة الدعوى في المحاكم ضد صاحب جريدة الانقلاب بتهمة التحريض، لتلقى تلك التهمة آذاناً مصغية لدى الحكومة المذكورة وتصادر عدد الجريدة الخاص بالكاشير والطاريف، وتلقي بالجواهري في التوقيف بتهمة إثارة الرأي العـام، ثم إن رفض رئيـس المحكمة إطلاق سـراح الجواهري بالكفالة المعتادة في كل القضايا مما يعزز القول ان توقيف الشاعر جاء بإيعاز من لدن الحكومة نفسها.
حكم الجواهري بالسجن مدة شهر بهذهِ التهمة، وعوطلت جريدته قبل المحاكمة لكن الجواهري لم يضبط أعصابه من قرار الحاكم فهتف في قاعة المحكمة أحتجاجاً على قرار المحكمة ضدهُ عاداً هذهِ المحاكمةبأنها غير عادلة بحقهِ وأنها كانت متحيزة فثارت ثائرة الحاكم فضاعف له الحكم بتهمة إهانة المحكمة الى شهرين، انقصت بعد ذلك الى خمسة وأربعين يوماً بعد أن قُدمَ استئنافاً، قضى معظمها في المستشفى لاعتلال صحته.
وصلت أنباء حبس الجواهري الى مختلف أطياف الشعب من المثقفين والمهتمين بشعر الجواهري وكذلك الرأي العام، فقد كرست إحدى جلسات المجلس النيابي في اجتماعه غير الاعتيادي لسنة1937 عن الشاعر، اذ تطرق أحد النواب سائلاً رئيس المجلس عن سبب توقيف الجواهري وعدم إطلاق سراحهِ بكفالة طوال مدة التوقيف دون توجيه تهمة محددة ومقنعة في الوقت نفسه، واثار هذا الموضوع نوعاً من الجدل بين النواب ورئيس المجلس في داخل قاعة الاجتماع وكذلك الأمر مع مدير الدعاية آنذاك حسين جميل الذي أكَدَ أنّ المقال الخاص بموضوع الكاشير غير مثير للرأي العام حتى يؤدي الى اغلاق الجريدة قبل محاكمة الشاعر الجواهري.
تعددت وجهات النظر حول سبب غلق جريدة الانقلاب، فمنهم من يرجح سبب غلق الجريدة الى تحامل حكومة الانقلاب على مقالات الجواهري الأخيرة ومن جملتها"بعد خمسة أشهر"و"حصة الشباب في عهد الانقلاب"و"قدموا أحلمكم ان صديقكم من صدقكم"ومقالات أخرى نشرتها جريدة الانقلاب بأقلام أصحابها وبأسمائهم مما أدى الى اعتقالهِ ايضاً، ويذهب آخر الى القول عن إنها المقال المنشور في الجريدة بعنوان"مذكرات سجين"لأحد الكتاب وهو سلمان الصفواني الذي تحدث عن ثورة الفرات الثانية ويرجح آخر أن السبب في حبسهِ يعود الى قضية الكاشير والطاريف وهو مخالف للرأي الأول.
وعلى الرغم مما تقدم يمكن القول إن هذهِ الأسباب وجدت طريقها لتنال من الجواهري وتؤدي الى توقيفه بسبب انقلابه على رجال الإنقلاب وسحب تأييده لهم ووقوفه الى جانب الجماهير ومطالبته بحقوقهم المشروعة فاستغلت ؛ الحكومة الموقف لكي تنال منهُ، ونعود القول أن الجواهري كان حذراً في تأييده للانقلاب ومرهوناً بما يحققه من مكاسب على الرغم من اندفاعاته الأولى، وحال انفراد بكر صدقي بالسلطة واستقالة الوزراء الإصلاحيين انقلبت مواقفهِ وأصبحت الى جانب الجماهير.
بعد فشل وزارة حكمت سليمان في تحقيق طموحاتها واستقالة"رئيس الحكومة"ومقتل بكر صدقي، شرع جميل المدفعي بتأليف وزارته الرابعة في آب سنة 1937، وأعتمد سياسة إسدال الستار على الأحداث التي رافقت حكم بكر صدقي وتناسي الأحقاد المترتبة عليها، فقد سمحَ جميل المدفعي للسياسيين خلال المدة السابقة بالعودة والعفو عن قتلة بكر صدقي( ) لذا عادَ الصراع بين اليمين القوي واليسار الذي لايملك من السلاح سوى الفكر والإصرار وهنا كتبت جريدة الإنقلاب بشأن الوزارة الجديدة مقالات افتتاحية حذرة منها"الشعب يريد الاستقرار"واتبعتها بشبيهة لهاأيضاً عنوانها"واجب الحكومة الصالحة"وكتبت مقالة ثالثة في"ضرورة تنظيم جبهة وطنية موحدة في العراق"مؤكدة فيها أهمية توحيد وجهات النظر السياسية استناداً الى تطورات العالم الراهنة التي لايمكن للعراق ان يكون بمعزل عنها وعليه يجب على "العراقيين"أن يوحدوا صفوفهم مثلما فَعَلَ الزعماء السياسيون في العالم حين وحدوا جهودهم لوقف تحركات المستعمرين ووضعوا خلافاتهم جانباً. ودعت الجريدة مرة أخرى الى ضرورة حماية الانتخابات من التشويه، وتوفير جو ديمقراطي للمنتخبين ليختاروا ممثليهم الحقيقيين.
لم يعمد الجواهري الى إصدار جريدته الانقلاب ثانيةً وبعد أن سقطت حكومة الانقلاب أصدر جريدة أخرى في 6أيلول سنة 1937 تحملُ أسماً جديداً وهو"الرأي العام"التي عرف بها الجواهري أكثر من غيرها من الصحف التي أصدرها، اذ استمرت في الصدور حتى اوائل عام 1961 على الرغم من تعرضها للتعطيل بين الآونة والأخرى، لذا برزت بلون ديمقراطي واضح المعالم ونهجت السبيل اليساري وعُرفت كذلك على المستوى العربي في لبنان وسوريا وفلسطين، علماً أن الجواهري قد أصدر صحفاً أخرى في أثناء تعطيل الجريدة وبهذهِ المناسبة أطلق الجواهري مقالته الطويلة والمستفيضة يوضح بها سبب إصدارهِ فيما مضى جريدة"الانقلاب"وما جرت عليه البلاد من تأخر وويلات وعدم إصلاح وما رامت اليه الوزارة الإنقلابية في بادىء الأمر فيقول مانصهُ"لم نكن يوم أصدرنا الانقلاب أكثر منا ونحن نكتب هذهِ السطور ولم نكن يوم 25كانون الثاني 1931 أكثر منا في يوم 6أيلول 1937 شعوراً بأن تأخر البلاد ورضوخها للأوضاع الشاذة والتصرفات الكيفية وأحتضانها بميزان القوانين والأنظمة الجائرة التي لاتصلح لضمان رفاهية الدولة العراقية"ويزيد على ذلك المقال نفسه"هكذا كان الانقلاب وهكذا كان الدافع لإصدار الجريدة لكن سرعان ما خابت الظنون وتبددت الأحلام وسرعان ما أنكشفت الصدور وانجلت الضمائر فاذا بها سوداء ملطخة واذا بالشهوات والنزعات تعصف بها عصفاً شديداً، واذا بالحديث يبتدىء همساً ويشتد فيصبح ضجيجاً، واذا القوم يخدعون من حيث لا يقصدون".
أما بالنسبة الى جريدة الرأي العام واختيارهِ لهذا الأسم فيقول"ووفاءً لهذهِ التربة ورعاية لمصلحة الشعب تُصدر جريدة"الرأي العام"التي لم تختر هذا الأسم عبثاً ولكننا اخترناها للرغبة في التعبير عن الرأي العام به"، هكذا كان الجواهري يعالج الأمور بعد الانقلاب بمطالبته بتوحيد الجهود وإجراء انتخابات نزيهة لترتقي مع البلدان المتطورة. خلافاً لسبق دعواه بعدم التهاون مع خصوم الانقلاب والضرب الموجه اليهم دون شفقة، وهو شكل آخر في الاندفاعات التي أتسمت بها شخصية هذا الشاعر والسياسي.

عن رسالة (محمد مهدي الجواهري ودوره السياسي)