ذكريات عن السلطان عبدالحميد

Monday 30th of May 2016 06:13:51 PM ,

كان زمان ,

كان العالم الفلسطيني الاستاذ اسعد الشقيري من اعضاء الوفود العربية في تأبين المغفور له احمد شوقي بك، وقد كان سيادته في وقت ما من امناء مكتبة السلطان عبد الحميد الثاني، فانتهزنا فرصة وجوده في مصر وسألناه ان يحدثنا عن بعض ذكرياته عن ذلك العهد فحدثنا حديثا طويلا اقتطفنا منه ما يلي:

ما كاد السلطان عبد الحميد يعتلي الاريكة السلطانية حتى وجه عنايته الى استطلاع الاخبار وتسقطها في داخل السلطنة وفي خارجها فبث العيون والارصاد في كل مكان وبذل الاموال الطائلة في هذا السبيل فمكنه ذلك من الوقوف على كل كبيرة وصغيرة مما كان يهمه معرفته في الدوائر السياسية والاجتماعية، وكانت التقارير التي يعدها جواسيسه ترد الى ديوانه يوميا، فترفع اليه كل ليلة فيمضي وقتا غير قصير في مراجعتها فاذا تعب من قراءتها امر احد ابنائه بتلاوة ما بقي منها على مسامعه فلا يدخل مخدعه الا وقد احاط بجميع الحوادث الداخلية والخارجية.
ولما خلع السلطان عبد الحميد وجدوا بين اوراقه ودفاتر حساباته ما يفيد انه كان قد عين مخصصات سنوية للارشدوق فردينان ولي عهد النمسا الذي اغتيل في سراييفو في شهر يونيو يونيو سنة 1914.
وقد عين له عظمته هذه المخصصات في مقابل الاخبار التي كان يوافيه بها.
فاذا صدقت هذه الرواية فانها تكون اكبر دليل على ما وصل اليه السلطان عبد الحميد من البراعة في تنظيم الجاسوسية لمصلحته.
ولما تقرر ان يزور الامبراطور غليوم الثاني الاستانة زيارته الرسمية التاريخية امر السلطان عبد الحميد اعوانه في برلين ان يرسلوا اليه في الوقت المناسب بيانات وافية عن الجناح الخاص بسكنى الامبراطور والامبراطورة في القصر الامبراطوري في برلين، والح عظمته بان تكون البيانات مفصلة تفصيلا دقيقا فتشمل نظام كل حجرة من الحجر التي يتألف منها ذلك الجناح، والاثاث الذي اثثت به والفراش التي فرشت بها.
وما كاد عبد الحميد يتلقى هذه البيانات حتى اتى بعدد كبير من الصناع والعمال الفنيين وامرهم بتحويل جناح في القصر الذي تقرر ان ينزل الضيفان فيه على ضوء البيانات المذكورة بحيث تصبح حجره مشابهة لحجر الجناح الخاص في القصر الامبراطوري تمام المشابهة.
ولما وصل الامبراطور غليوم الثاني والامبراطورة الى الاستانة استقبلا بحفاوة واكرام عظيمين ورافقهما السلطان الى القصر الذي اعد لنزولهما فيه ثم ودعهما وقفل راجعا الى قصره تاركا كبير امنائه يصحبه جلالتيهما ليريهما الجناح الذي هيأه عظمته لهما.
وفي استطاعة القارئ ان يتصور مبلغ الدهشة العظيمة التي استولت على الامبراطور والامبراطورة حين دخلا جناحهما فوجداه صورة طبق الاصل لجناحهما الخاص في القصر الامبراطوري في برلين.. بل كم كانت دهشتهما اعظم حين اقتربا من السريرين ورأيا ان (البياض) الذي جلب لهما من نوع"بياض"فراشيهما في برلين وان الحرفين الاولين من اسميهما مطرزان عليه.. تماما كما هو في برلين!.
***
واتصل بالسلطان عبد الحميد في احدى السنين ان حكومة اجنبية كبيرة رات ان تسترد سفيرها من الاستانة لانه يمالي السلطان وانها قررت ان تستبدله بسفير آخر قوي الشكيمة شديد البأس
ووصل السفير الجديد الى الاستانة فحدد له موعد ليتشرف هو وزوجته بمقابلة السلطان. فلما مثلا في حضرته بالغ في الاحتفاء بهما وبعد ما حادث السفير مليا التفت الى قرينته وقال لها انه يود ان يريها الحر ملك فاجابت انها تقابل هذا العطف بالسرور والامتنان فاستأذن عظمته من السفير واستصحب قرينته الى دائرة الحرملك. وبعد ماطاف بها بعض قاعتها وحجراتها مرا بقاعة كبيرة فقال لها:"هذه قاعة المجوهرات فهل تحبين ان تلقي نظرة عليها؟"فدخلاها واخذت زوجة السفير تسرح الطرف في كنوزها ونفائسها، ثم وقفت طويلا امام عقد ثمين قديم العهد استوقف نظرها بجماله ورونقه فتناوله عظمته واتظاهر بانه يريد ان يشرح لها كيفية لبسه ووضعه في عنقها ثم قال لها:"كم هو جميل في عنقك يا سيدتي"فاغتبطت بهذه التحية الرقيقة وارادت ان تنزع العقد لتعيده الى مكانه فاستوقفها عظمته بقوله ان هذا لا يليق وانه مادام العقد قد اعجبها فهو يسره ان يقدمه لها.. وكان يساوي من خمسة الاف الى سبعة الاف جنيه!..
وعاد السفير وقرينته بعد ذلك الى دارهما وهما ينوهان بذكاء السلطان ولطفه وبما يضمره لبلادهما من ود وصداقة!
***
وقال الاستاذ الشقيري ردا على سؤال لنا ان كثيرين يعتقدون انه كان لبعض المحيطين بالسلطان عبد الحميد والمقربين اليه تأثير عظيم عليه، بيد ان الحقيقة تخالف ذلك فانه كان يعرف حقيقة امر كل فرد منهم تمام المعرفة، ويعلم دخائله وسرائره، وان تظاهر بعكس ذلك فلاجل تحقيق بعض مطامعه او اغراضه فقط.. فقد كان شديد الذكاء فطنا واسع الادراك يقظاً واهتم عبد الحميد بتنظيم حرسه اهتماما كبيرا ظنا منه ان يكفيه في ساعة الخطر فجعل عدد رجاله ثلاثة الاف ولكنه اخطأ التقدير في هذه المسألة فتحمل عاقبة سوء تدبيره.. فانه اهمل الجيش ولم يكترث لتذمر رجاله من عدم قبض مرتباتهم كاملة في مواعيدها كما انه لم يبال بشكواهم فلما انفضوا عليه بايعاز من زعماء الاتحاديين لم يتجه حرسه من المأزق الذي بات فيه فلم ير مندوحة عن الادعان للامر الواقع فتنازل عن عرش ابائه واجداده.
***
وقد قلنا آنفا ان الاستاذ اسعد الشقيري كان من امناء مكتبة السلطان عبد الحميد وقد روى لنا سيادته ان السلطان دخل المكتبة يوما مع كبير امنائه وسأل عن خارطة قديمة كان في حاجة اليها فقال امين المتكبة الاولى انها موجودة، فطلب السلطان رؤيتها فاضطرب امين المكتبة الاول وسأل الاستاذ اسعد الشقيري عن مفاتيح الخزائن فاعطاء اياها فاخذها وفتح الخزانة الاولى فلم يعثر على الخارطة ففتح خزانة ثانية فلم يعثر عليها ايضا وهنا عيل صبر السلطان فالتفت الى الاستاذ اسعد الشقيري وقال له:"لماذا انت واقف هكذا لاتتحرك.. الا تعلم اين توجد الخارطة التي اريدها!"فقال سيادته:"انني اعرف مكانهما يامولاي، واسرع الى احدى الخزائن وفتحها فوجد الخارطة في داخلها فتناولها وحملهاالى السلطان بينما كان امين المكتبة الاول يرتجف من الخوف والفزع.
وبعد ما اطلع السلطان على الخارطة نهض منصرفا ولما مر بامين المكتبة الاول قال له:"وهل تغضبون بعد ذلك اذا استخدمت العرب.."ثم سال عظمته الاستاذ اسعد الشقيري هل له اهل في عكا مسقط رأسه فقال سيادته ان والدته لا تزال على قيد الحياة.
وبعد مدة قصيرة علم الاستاذ اسعد الشقيري ان والدته تسلمت مبلغا من المال من الوالي الذي ابلغها ان المبلغ هبة من ولي النعم.
ويقول الاستاذ الشقيري ان السلطان عبد الحميد كان شديد الهبة والوقار وان رجال بلاطه كانوا يرتعدون عند رؤيته ويحسبون اكبر حساب لغضبه.
***
ومن المراسيم التي ابتدعها لزيادة تأثيره في النفوس حفلة السلاملك عندما كان يخرج للصلاة يوم الجمعة، فكان الجنود يصطفون على جانبي الطريق من القصر الى المسجد ليؤدوا له التحية في الذهاب والاياب، فاذا ما انتهت الصلاة وعاد عظمته الى السلاملك استقبل السفراء الاجانب وعقيلاتهم ومن يكون في الاستانة يومئذ من عظماء الاجانب وكبارهم ثم ينصرف الجميع وهم يتحدثون بعظمة السلطان وابهته.
ومما يروي عن دهاء السلطان انه ما كاد يرتقي الاريكة السلطانية حتى وجه همه الى الانتقام من المسؤولين عن مقتل عمه السلطان عبد العزيز لا حباً بعمه ولكن خوفا من مكايد قاتليه فاحالهم الى المحاكمة بعد ما اعد عدته لكي يحكم عليهم بالاعدام.
فلما صدر الحكم باعدامهم وحملت صورته اليه ليصدق عليه قال انه ليس ابغض اليه من سفك الدم ولذلك يشق عليه التصديق على هذا الحكم ويستبدله بالسجن المؤبد لبعضهم وبالنفي المؤبد للبعض الاخر. فقابل الانس هذا العطف بشكر المراحم العلية وكان اهل المحكوم عليهم واقاربهم في مقدمة الشاكرين.
***
ثم حدث ان غضب السلطان على الاستاذ الشقيري فابعد من الاستانة لدسيسة دسها له احدهم عند السلطان.
ولما اعلن الدستور انتخب الاستاذ اسعد نائبا عن عكا في مجلس المعبوثان فلما وصل الى الاستانة قابل السلطان كما قابله سائر النواب. ويقول الاستاذ اسعد انه سمع السلطان يقول لرجال الحاشية الذين كانوا محيطين به وهو يشير اليه:"هذا ربيب نعمتنا"كأنه اراد ان يقول ان هذا الذين ربيناه اصبح الان نائبا من نواب السلطنة.
كل شيء والدنيا /كانون الاول- 1932