التقنية المُراوِغة في مصائر ربعي المدهون

Saturday 25th of June 2016 08:00:54 PM ,

ملحق اوراق ,

لندن: عدنان حسين أحمد
يُكرِّس ربعي المدهون روايته الثانية "مصائر. . كونشرتو الهولوكوست والنكبة" لفلسطينيي الداخل والخارج، فالذين بقوا في الداخل يعانون من "انتماء" مُزدَوج، والذين هاجروا إلى المنافي يحاولون العودة إليها بطرقٍ فردية لا تخلو من المخاطر.

اعتمد ربعي، كما يقول، في بناء الهيكل الخارجي لروايته على الكونشرتو الذي يتألف عادة من ثلاث حركات، سريعة، بطيئة، وسريعة مرحة وأحيانًا من أربع حركات كما هو الحال في كونشرتو "الفصول الأربعة" لفيفالدي، واتخذ من هذا الشكل وعاءً لأحداث روايته التي تدور في تسع مدن عربية وعالمية.
تضم الحركة الأولى أحداثًا كثيرة يمتد بعضها إلى زمن الانتداب البريطاني لفلسطين لكن المرتكز الأساسي للأحداث الروائية يبدأ منذ النكبة عام 1948 حيث تهرب إيفانا أردكيان، الفلسطينية، الأرمنية المقيمة في عكّا القديمة وتتزوج من جون ليتل هاوس، الطبيب البريطاني الذي يخدم في صفوف قوات المملكة المتحدة في زمن الانتداب على فلسطين. تُنجب إيفانا عشية النكبة ابنتها جولي وتُوصيها لاحقًا بحرق جثتها، ونقل رمادها أو إعادة قسم منه إلى منزل والديها في عكّا القديمة أو إلى منزل أي عائلة مقدسية توافق على الاحتفاظ بقارورة رمادها.
تُعدِّل إيفانا في وصيتها وتطلب من جولي أن تنثر نصف رمادها على نهر التيمز وأن تأخذ النصف الآخر إلى منزل والديها في عكّا القديمة. نفذّ وليد وجولي نصف الوصية ونثرا بعض رمادها فوق التيمز وجعلا من فضاء لندن نصف مثواها الأخير. وفي عكّا لم تقل جولي الحقيقة كلها حيث أخذت نصف الرماد المتبقي في تمثال خزفي جميل والتمست من سكّان البيت أن يضعوا هذا التمثال في بيتهم لكنهم رفضوا وطرودها شرّ طردة.
اقترحت جولي على وليد أن يبيعا بيتهما في لندن وينتقلا للعيش في عكّا ولن تعترض إن هو اشترى قطعة أرض في المجدل عسقلان، مسقط رأسه. تُرى، ما الذي حفزّها على هذا الاقتراح؟ هل هو زيارتها لبيت جدها الذي هربت منه والدتها قبل سبعة عقود، أم زيارة العشرة أيام التي لم تشبع نهمها من عكا وحيفا ويافا وكل المدن الفلسطينية الأخرى؟
يستذكر وليد بيتهم بكل تفاصيله ويشعر بالغربة والاغتراب في آنٍ معا فيحسم الأمر في نفسه حينما يقول: "لن أعود إلى البلاد لكي أعيش فيها غريبا"(ص65).
تشتمل الحركة الثانية على كل الأحداث التي أحاطت بشخصيتي جنين وباسم، فلقد عادت جنين لبلادها بجواز سفرها الإسرائيلي عبر مطار بن غوريون في اللدّ، وعاد باسم بجواز سفره الأميركي عن طريق عمّان، الضفة الغربية، بيت لحم ومنها إلى الرملة حيث خطب جنين وتزوجها وبعد عام من الزواج بدأ يشعر بالملل والغربة والضياع فهو لا يمتلك ضمانًا صحيًا أو اجتماعيًا ولا يحق له العمل في إسرائيل، ومع ذلك فإن جنينًا تطلب منه أن يقتدي بأميل حبيبي الذي زيّن قبره بوصية "باقٍ في حيفا". تتفاقم الأمور لدى باسم فيطلب منها أن تذهب معه إلى بيت لحم وتعيش هناك لكنها إن ذهبت إلى هناك فإنها ستخسر كل شيء، الوظيفة، والتأمين الصحي، والاجتماعي وما إلى ذلك. وإذا بقيت هناك فإنه سوف يظل يعاني من البطالة الإجبارية ولا يستطيع أن يبيع حتى الفلافل، أو يقود سيارة، أو ينظِّف الشوارع، والأمرّ من ذلك كله أنه لا يقبل بالعيش مُتطفلاً على تعبها!
أرسلت جنين القسم الأكبر من روايتها "فلسطيني تيس" إلى وليد دهمان فأعجب بها جدًا وأثارته أسئلة عديدة في الرواية من بينها: "هل أنّ "باقي هناك" هو والدها محمد إبراهيم دهمان نفسه؟ لأن الكثيرين مندهشون من قدرة محمود على العيش بين اليهود. وحينما احتلت إسرائيل في عام 1967 ما لم تحتله في عام 1948 تسلل محمود إلى الضفة الإسرائيلية وتزوج من امرأة رملاوية.
لم تتوفق جنين في علاقاتها الخمس المتتالية فهي كاتبة مثقفة، وإنسانة متحررة لا تقبل أن تتحجب أو تتنازل عن جنسيتها الإسرائيلية أو تنتقل للعيش في بيت لحم أو نابلس أو أم الفحم أو حتى أميركا نفسها!
لا تحفل الحركة الثالثة بأحداث كثيرة حيث يجلس وليد في الطائرة إلى جانب أدوارد الأميركي المتخصص في صيانة جرّافات كاتربِلر الشهيرة التي غيّرت خريطة الضفة الغربية وقطاع غزّة، ويمطره بأسئلة متلاحقة لا تنطوي على أي نوع من البراءة، كما أنه ضيّع نصف ساعة من وقته كان قد خصصها لقراءة رواية "فلسطيني تيس" لجنين دهمان، بينما كانت زوجته جولي منغمسة في قراءة رواية "في عين الشمس" لأهداف سويف.
تكشف هذه الحركة عن تسامح "باقي هناك" فلقد عفا عن أفيفا حينما حرقت بيته. وهو شيوعي معروف تعترف اللدّ والرملة بزعامته. وهو يعتقد بأن الفلسفة المادية قاصرة، ويحب أميل حبيبي الذي فاز بجائزة الدولة الإسرائيلية للآداب عام 1992. منذ انتقل "باقي هناك" إلى اللدّ بدأ يشجع حسنية على إقامة علاقات مع اليهود فلا غرابة أن تنفتح حسنية على نساء الحي وتكسب صديقات يهوديات وأولهن أفيفا، أبرز الناجيات من مذابح اليهود التي حصلت في كييف عام 1941. تنتهي هذه الحركة بحصول وليد وجولي على تأشيرتي دخول على ورقتين منفصلتين ليبدءا رحلتهما في عدد من المدن الفلسطينية التي أحباها بشكل منقطع النظير.
تتشابك الأحداث في الحركة الرابعة والأخيرة من الرواية حيث يستقبلهما سلمان في مطار القدس ويعتذر لأن زوجته عايدة لم تحضر إلى المطار، ويخبرهما بأنهما سيسهران الليلة مع الدكتور فهمي وزوجته ندى وكلاهما معجب بكتابات وليد دهمان. يؤكد الراوي وهم في طريقهم إلى القدس بأن "مذبحة دير ياسين هي التي غيّرت وجه التاريخ ورسمت الملامح القاسية لنكبة 1948" (ص182).
نستعيد من خلال زيارة الراوي وزوجته إلى يافا قصة حبهم الثلاثية التي جمعت بين جميل حمدان ولودميلا ووليد دهمان لكنها انتهت بزواج جميل من لودميلا فيما ظل وليد صديقاً لهما. أحب الراوي حيفا إلى درجة كبيرة فالإنسان الذي يزورها يخرج منها بلا عقل! ولعل الجملة الأكثر أهمية في الحركة الرابعة هي ما تفوّه به وليد حينما قال: "عليّ الطلاق عمر اليهود في هالبلد قصيرة"(217).
تتكشف عوالم رواية جنين من خلال اللقاء بالملياردير اليهودي مارك روزنبلوم الذي قدّم نفسه كفنان وروائي حوّل القلعة إلى منطقة سكنية وتجمعًا للفنانين وقد استعارت جنين بيته لبعض الوقت فتسلل إلى الرواية حتى أن وليدًا قال بأنه يعرف هذا البيت وكأنه رآه من قبل!
لابد من فكّ التشابك بين شخصيتي باسم في الرواية وفي الحياة، فالأول سوف يترك جنين ويرحل إلى أميركا بحجة أن هذا المجتمع لم ينضج بعد كي يتعايش. أما باسم الزوج فيعمل مدرسًا في بيرزيت لكنه يرفض الاستقرار في يافا وكان يقول لجنين دائمًا: "أنا حبي في يافا بس أحلامي في بير زيت" (ص255) وهي تقول العكس تمامًا. فلا غرابة أن يصبح زاوجهما ترانزيت، ونشوة الحب فيه خاطفة مثل برق خُلّب.
لعل اللحظة الدرامية الأقوى في الحركة الرابعة هي مقتل "باقي هناك" الذي كان يحمل يافطتين عليهما صورة من مذابح دير ياسين وأخرى من مذابح جرت لليهود في كييف. ينهض "باقي هناك" من موته الافتراضي ويحمل يافطتيه ويغادر الساحة وهو يردد النشيد الأممي الذي يقول: "هبّوا بجموع قوية لاح الظفر / غدًا الأممية ستوحد البشر".
يعود أحمد دهمان وجولي إلى لندن في اليوم العاشر وهو يفكر بالعودة ولكنه إن عاد سوف يعاني بالتأكيد ما تعانيه جنين. السؤال الآخر الأكثر إلحاحًا هو: أين يقيم؟ في عكّا أم في مسقط رأسه المجدل عسقلان؟ وماذا عن حيفا التي جعلته يصرخ: "ولكْ آآآآخ عَ هالبلاد، ولك ما بَعرف كيف ضيعناها" فيرد عليه كثيرون في المطعم: "لك آخ وميت آخ"(263). فحيفا تأخذ العقل وقد جننت كل الفسلطينيين كما يزعمون.
عودًا على جولي التي أخفت حقيقة ما جرى لها في بيت جدها مانويل أردكيان إذ رفض المستوطن أن يضع التمثال الخزفي المعبأ بالرماد في بيت أبويها إذ قال لها: "لا نقبل غرباء في بيتنا. . هيا هيا. . انصرفي" وقذف التمثال فوق رأسها ثم انكسر فتناثر الرماد وراح يختفي في سماء المدينة. ومع ذلك فقد عادت إيفانا إلى عكّا وغادر وليد وجولي إلى لندن لكنه اتخذ قرارًا مناسبًا في دخليته وأخبر زوجته بأنهما سيناقشانه حينما يصلا إلى هناك.
الرواية لا علاقة لها بالموسيقى من قريب أو بعيد وقد استعار ربعي المدهون الشكل الخارجي الشاذ للكونشيرتو وهو أربع حركات بدلاً من ثلاث حركات "سريعة، بطيئة، سريعة مرحة" بينما يصرّ ياسر سليمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة بأن رواية ربعي المدهون تمتاز "بتقنية تستقي تموجاتها من عالم الموسيقى، لكنها لا تلبث أن تتخطى هذا العالم في حركة تجمع الشيء ونقيضه، حيث يتقاطع الداخل مع الخارج في التجربة الفلسطينية من خلال إيقاع الشتات والعودة." ويمضي أبعد من ذلك حينما يقول: " ينحت ربعي المدهون عوالمه الروائية بحرفية تخاطب القارئ بصوت آسر ليضيف ألقا متجددا إلى جائزة تتبوأ مركز الصدارة في المشهد الروائي العربي".
فيما أوجزت الناقدة الإماراتية أمينة ذيبان رأي أعضاء لجنة التحكيم في تقييمهم للنص الروائي الفائز حيث قالت: " تبتدع رواية "مصائر" نسيجا روائيًا فنيًا جديدًا يصور تحولات المسألة الفلسطينية، وتثير أسئلة الهُوية وتستند إلى رؤية إنسانية للصراع." كما أضافت قائلة: " تعدُّ "مصائر" الرواية الفلسطينية الشاملة، فهي ترجع إلى زمن ما قبل النكبة لتلقي ضوءا على المأساة الراهنة المتمثلة في الشتات والاستلاب الداخلي. إنها رواية ذات طابع بوليفوني مأساوي، تستعير رمز الكونشرتو لتجسّد تعدّد المصائر."
في الختام لابد من الإشارة إلى أن هذه الآراء النقدية العامة قد تنطبق على رواية ربعي المدهون لكن فوزها غمط كثيرًا حق طارق بكاري في الحصول على جائزة البوكر التي تستحقها رواية "نوميديا" عن جدارة لتوفرها على مجمل اشتراطات النجاح بدءًا من اللغة السلسة المنسابة، مرورًا بالشكل والمضمون الفنيين، وانتهاءًا بالبناء المعماري الرصين الذي يخلو من الإرباك والترهل والإطناب.