جدل المراثي في .. (قبرها .. أم ربيئة وادي السلام)

Saturday 16th of July 2016 05:55:14 PM ,

ملحق اوراق ,

زهير الجبوري
يحيلنا الشاعر جواد الحطاب بين فترة وأخرى إلى قراءة منجزه قراءة مختلفة ومغايرة لما يطرح من نتاج شعري في الساحة العراقية ، ولأنه مولع بالمغايرة وكسر النسق والغور في التجريبيات ، فقد قرأنا له آخر ما اصدره وهو (قبرها أم ربيئة وادي السلام) ، متناظراً مع (بدرية نعمة) ، وهي تجربة حذرة قدمها بمهارة البناء وسلاسة المعنى.

من هو الراوي ..؟ .. الحطاب استعاد العلاقات الغيابية ، تلك التي تمسك بالمعنى والترميز ، (فهذا الدال يدل على ذلك المدلول) بحسب تودروف ، هذا البناء انطوى على مفهوم افتراضي ، مفاده أن بدرية نعمة شخصية حاضرة ومجسدة أمام ناظري الشاعر ، ليستعيد منها - صوته – ما يكرسه في نصه ، ربما ينظر لها البعض على أنها تحمل دلالات ميثيولوجية ، لكنها في حقيقة الأمر أخذت على عاتق (العتبة = القبر) ، الرجوع إلى (رحم = الأم) ، فالسلطة الخفية / الجسد / التحتاني / في لحظة هيام اعاد (جواد) قبل (الحطاب) إلى طفولته ، فوجد نفسه أمام القبر معيداً تلك اللحظات علّهاتطفئ ما سحقته سني الوجع :
هههه .. معي : بدرية نعمة
... أعرف أن الله
صديق شيلتها السوداء كأفراح القديسسين . ص12

أقترن المحسوس بالذهني والهاجسي ، هو ما أفاضته مشهدية هذا الاشتغال الشعري ، مع ما قامت به طريقة الكتابة بسياق نثري مسرود ، فلم تكن فنية الكتابة الشعرية حاضرة بالدرجة الاساس ، إنما شعرية المعنى والبناء معاً ، فنلمس علامات المكان / القبر ، ثنائية الـ (أنا) الحاضرة ، (جواد / بدرية) ، ومن ثم اللّغة مع انسراحاتها وتوهجاتها المشهدية ..
الّا اننا لو امسكنا بنصية البناء الشعري في هذا الكتاب ، لوجدنا ما تخفيه اللغة من ايقاعات خفيه ، ايقاعات لا تظهر من الوهلة الأولى سماتها الحضورية ، بمعنى أن جواد الحطاب بطريقته وسخريته المعهودة يعبر عن علامات حاضرة كإطار شكلي ، في حين ان ما تخفيه هذه العلامات من مؤثرات حسية داخلية – غير معلنة – هي ما أفاضت حدس الشاعر في الوقوف أمام قبر (الرحم / الأم)، لتصبح في وحدتها الكاملة نزعة ذاتية / حياتية / نفسية / وجودية ، فالعودة إلى الجذور ، هو الاستنهاض العنيف في رفض الواقع.
من زاوية أخرى لم تكن تجربة الحطاب هنا ، سوى صياغات لغوية / شعرية (اكسسوراية) منمقة ، كتبت بقصدية ، لنجد الملامح الظاهرة غير ما انطوت عليه خلجاته، ومكوناته ، فالنص الطويل هذا ، مفاده أن الشاعر بدأ يعلن عن حالة الرفض من كل ما يحيطه ، ليجد نفسه وجهاً لوجه أمام الأصل ، فأفاق امه بسلطة القصيدة ليكتب معها هذا النواح / الرثاء / الرفض ، ويعيش مناخه الشعري بأسلوب نادر واداء نثري واضح.
كما إن جواد الحطاب بدأ يركز على كتابة القصيدة بوعي التصميم ، ومحاولة كشف الأمكنة التي تشكل علامات راكزه ومؤثرة ، وهنا يذكرنا بما قدمه في (البروفايل / نصب الحرية)، لكن في هذه التجربة كان القبر (حيز محدود) لفضاء اوسع وادي السلام ، وقد أحالنا العنوان إلى ذلك (قبرها .. أم ربيئة وادي السلام) ، لنقرأ ما حققته حالة التوهج والتفجر في صياغة العلامات المستخدمة في النص الشعري.
قد يوحي لنا أن ما قام به الشاعر هو جزء من ممارسة شعائرية ، مع ما احتوته من دلالات وافيه لبنية شكلية (القبر) ذات عمق مخيالي واسع ، الّا ان المسألة أعمق من مرثية شعرية ، أنها مرثية الحي (جواد الحطاب) ، وإن اللجوء إلى وادي السلام بكل مساحته وشحناته المكانية ، لكتابة وثيقة رفض ، فمع الميل إلى الحالات السايكوسياسية والسايكوسوسيولوجية، ينبئ لنا النص الشعور بالاستيحاش والانفعال الداخلي ، وهذا ما جعل (بدرية نعمة) الكائن الوحيد المسافر إلى رحلة مجهولة أن يتماثل أمام الشاعر مجازاً ..
لابد من الوقوف عند بعض محطات هذه التجربة ، بخاصة إذا ما علمنا أنها مليئة بالهواجس والاحاسيس الفائضة بين طرفي (الأم - الأبن) ، فتنهض أمام القارئ الكثير من الدلالات الموحية بالاستجابة لرغبة المنولوج :
صوتك المجعد من سيكويه يا أمّ
من سيرسل هدهداتك إلى المصبغة. ص14.
الوقف عند منطقة المنادى يعطي مفهوماً دلالياً لوجود آخر (متلقي) ، فكانت (بدرية نعمة) ، لكنها شخصية متجلية داخل القصيدة ، حضرت بوصفها المعادل الموضوعي الذي يريده الحطاب ، هي ذات سمه (ميتافيزيقية) ، بخاصة إذا ما امسكنا وضوح صوت الشاعر في جميع المقاطع ، وأيضاً في المقطع الذي أمامنا (صوتك المجعد) و (من سيرسل هدهداتك) ومع حالة الاسترسال المتوالية ، أخذت شعرية النص تنحو منحى ذا إطار سيري ، والاحتفاظ بسياق الجمل بالطريقة التناصية مع الموروث التاريخي والمقدس ، وهي لعبة شعرية انمازت بنكهة مجازية القت على عاتقها العناصر ، (الهندسية = التشكيلية) و (اللغوية = الشعرية) ، بمعنى ظهور (فوتو)القبر كأرضية فوقها النص ، قد تماهى مع المعنى المكتوب ، وهي طريقة تصميمية ذكية اشبعت عين القارئ واعطته دلالة وافيه مكتملة الأبعاد ..
من ذلك ندرك أن شكل القبر بتناظره مع النص ، يعبر عن كونه الراوي الأول ، ولعل ديدن الفكرة للوهلة الأولى ، استعدادية مثلما ذكرنا ذلك ، نقرأ في المقطع (3) :
في (مسند) الحطاب
إنّ الرب وجدك نامية على ضفاف سومر
فاستخرجك من لحاء الطين
ومن نكهات القرنفل ، والقصب . ص16
كذلك نقرأ في (مسند) سومر :
يا ابنة الآلهة والكواكب التسعة
يا بنت اثني عشر ولياً
في الفالةوالنحري ، في الزهرة ورفيقتها
نقش الأجداد على جبينك مواقع النجوم . ص19.
ما يزيد تكريسه هنا ، إن النص أخذ بعداً اشكالوياً ، لكن بحدود الجملة الشعرية فقط ، وبعين الشاعر ، هنا الحطاب أصبح الراوي الثاني ، أو الراوي عن (بدرية نعمة) ، فكلمة (مسند) لها مرجعياتها بعلم الحديث ، وهي توليفة تناصية ذكية من دون الرجوع إلى نص آخر ، بل ما تأخذه سياقات البناء الشعري للإطار العام.
في القسم الثاني من هذا الكتاب قرأنا (نثار الذهب) و (بعض نثار الذهب) ، لا ادري أن شاطرني الرأي أحد بان العبارة الأولى تمهيد للثانية ، لكنها حملت سمة اغترابية واضحة ، أمّا من الناحية الفنية فهي لا تختلف عن المقاطع الشعرية المكتوبة في البداية ، أشعر أن الشاعر اتضحت رؤياه وبانت ملامحه الحسية والهاجسية من خلال شعوره بالنهايات ، ومحاولة جعل القصيدة بسماتها اللغوية والشكلية مجسدة بالمقياس الذي يراه المتلقي لوحة شعورية / شعرية، لذا نقرأ على لسان الشاعر (ذكر الكثير من النقاد ، والمتابعين لمشغلي الشعري المتواضع، أنني أعتمد على (نحت) القصيدة ، وازالة ما يعلق بجسدها من ترهلات) ص33.
أعتقد أن هذا التصنيف انصب من خلال الإمساك بثيمات علاماتية بارزة ، لها مرجعياتها ودلالاتها العامة والخاصة ، وخصوصية هذه التجربة انطوت على رؤيا ذاتية مشتركة، حيث (القبر) حيز محدود داخل (وادي السلام) الفضاء الأكبر ، ألم تكن هذه القراءة نحتاً شعرياً ..؟ بكل تأكيد ، وإن كانت مشحونة بلغة ذهنية مجردة .
كما تشكل جمل (نثار الذهب) خلاصة وافية لعصارة شعرية واسعة ، كانت في الوقت نفسه هي مشبعة باحساس غنائي ، وينتابني شعور بأنه نص داخلي ، أو منولوج داخلي ، حيث رَسْمِ المشهد ، نراه بعين الشاعر فقط ، نقرأ :
لكم يبدو سخيفاً نهار الموت
إلّا نهارك ..
كان يملك ابّهة عجيبة . ص39
هنا – بالتحديد – أفاق جواد الحطاب من صدمته ، وأصبح هو الراوي ، فما بين (نهار الموت) و (نهار بدرية) الذي له أبهة عجيبة ، ثمّة صعود متواتر في النص ، يمكن تسميته بتوتر مشهدي ، وهكذا طريقة كتابة النص عند الشاعر ، لنقرأ ما يرادف المقطع الأول :
أجفف فراقك
كما يجفف القرويون
الفواكه والسمك
(ثم) : الموت .. كتاب
بلاغته .. الجثث . ص44-45
مع وضوح المعنى وطريقة الاسترسال الواضحة ، أو الطريقة المجازية ، فإن اللّغة التي قرأناها تتنبأ عن استسلام الحطاب لواقع (الفراق) و (بلاغة الموت) ، ربما كانت استجابة المشروع هذا برمته من (اللاوعي) العاطفي والروحي للطرف الآخر / بدرية / الأم..
(استخلاص) :
في (قبرها .. أم ربيئة وادي السلام)، تطل علينا تجربة جواد الحطاب بخصوصية متفردة وكتابة شعرية لها مناخها الخاص ، فقد اثارت جواً شعرياً مشحوناً بإيقونة المكان (اولاً) ودلالة الشخصية المحورية (ثانياً) ، لذا ، ظل النص مكتفياً برؤيا الشاعر وباللّغة المفتوحة على دلالات كاشفة عن حالة البوح للآخر ، فكانت النصية الشعرية برمتها عبارة عن لعبة لغوية ، بل تداخل معها الحلمي بالرؤيوي ، لتنبثق هذه الملحمة بالطريقة المسدودة ، أو بأسلوب الشاعر الذي يتمتع بانفرادية الاداء النثري في كتابة القصيدة ..
ومن صميم هذه التجربة وحقيقة التأثر الواضحة ، نلمس أن الاشياء جميعها انطوت على جعل النص الشعري يحتمل قراءات متعددة ، إذ شكلت ثيمة (الأم) وجدل فراقها ، وثيمة (القبر) ودلالته المكانية وثيمة الـ (أنا) ودلالتها الحاضرة داخل النص ، حالات وقراءات قابلة للإضافة، أيضاً يشعرنا نص (الحطاب) بأن ما كتبه وإن تشعبت فيه الذاتية المفرطة ، الّا أنه نص كوني ، بمعنى يحمل هماً ميتافيزيقياً صيغ بطريقة اشكالوية .