الصندوق السحري فيرناندو بيسوا.. أربعة شعراء بهوية واحدة

Tuesday 23rd of August 2016 06:32:01 PM ,

منارات ,

جوان تتر
فيرناندو بيسوا وألبرتو كاييرو وإلبارو دي كامبوس وريكاردو رييس، أربعة أقنعة، شعراء أربعة بهوية شخصية واحدة، هي فيرناندو بيسوا الشاعر البرتغالي الأكثر غموضا وغرابة، شاعر إلتبس فهمه على الكثيرين من أبناء جيله ومن أتوا بعده.فبينما بيسوا يتابع الكتابة باسمه تتوالد لديه وشائج ند آخر عليه أن يسبقه، أن يبدأ بالكتابة عنه ضمن صوغ آخر، في سياق غريب،

سيكتب بلسان آخر، أنا منفصمة إلى ثلاث شخصيات، من العبث البحث عن التشابه بين الرجال الأربعة، الشعراء الأربعة، ثمة ضبابية في تحديد السبب، تحديد المعنى، إنه لأمر غامض أن يكتب شخص بأقلام أربعة، ترى ما الذي دفع فيرناندو بيسوا إلى هكذا أمر أهو تمرين على تقمص؟تمرين على التفكير بأكثر من شكل؟، الكتابة بأكثر من شعور؟ لقد كتب فيرناندو بيسوا بأسماء مستعارة تصل إلى السبعين غير أن الأسماء الثلاثة الآنفة الذكر هي من بين أشهر الأسماء التي اتخذها بيسوا ليعبر من خلالها عن أفكاره، لم يكتف بالأسماء الوهمية بل دفعنا نحو التوهّم أكثر فأكثر بأن وصف لكل شاعر منهم ملامحه ومكان إقامته وتاريخ ميلاده ووفاته والحديث عن المقالات النقدية وتبادل الآراء فيما بينهم!!

يحدثنا بيسوا نفسه في خطاب مرسل إلى كاسايس مونتيرو بأنه في طفولته كان يقيم حوارات مطولة مع أشخاص متخيلين، لم يكن يسمعهم فحسب بل يراهم ويسميهم، كما سيشير إلى ذلك بطريقة مرمّزة في إحد مقاطعه ضمن كتاب اللاطمأنينة فيقول: "كل شيء يفلت مني، حياتي كلها، ذكرياتي، مخيلتي بما تحتويه، شخصيتي، الكل يتبخّر، أحسّ باستمرار أنني كنت شخصا آخر، وأنني أحسست وفكّرت بأنني آخر وذلك الذي أعاينه هو مشهد من سيناريو آخر، ذلك الذي أعاينه أنا بالذات"إحساسه بفراغ وتصحّر الواقع دفعه إلى ذلك، ربما؟
أربعة شعراء ولدوا في لحظات حدّدها الأب الرئيسي "فيرناندو بيسوا" لثلاثة مواليد يولدون في ظروف غامضة ويموتون في ظروف أشد غموضا، مهلا، هو ليس موتا، هو اختفاء إلى إشعار آخر، لكل كتاب دوّنه بيسوا طريقة لاتقود القارئ إلى وشائج واضحة، كتب عنه "أوكتافيو باث" ذات مرّة: ليس للشعراء بيوغرافيات، أشعارهم هي بيوغرافياتهم، فيرناندو بيسوا هذا الشاعر الذي لم تكن حياته ذات سير متغير، إنما حياة عاديّة مليئة بالرتابة، ترى هل الرتابة دفعته إلى اختراع أنداد له؟ أم أنّها لعبة ذكيّة؟ سيبقى ذلك غامضا، "بيسوا أو الصندوق السحري" هذه التسمية التي ظلّت تلاحقه حيث اكتشاف لأوراق جديدة وكتابات مختلفة بين عام وآخر ليضيف ذلك غموضا مربكا، ولد عام 1898 في لشبونة وتوفي فيها عام 1953 بعد أن أخرج البرتغال من تكرار شعري.في كتاب اللاطمأنينة لفيرناندو بيسوا هذا الأثر الذي واظب بيسوا على تدوينه مدة طويلة استغرقت عمره سنكون أمام شاعر منعزل وفاقد للأمل، نصوص قصيرة ولكن ذات دلالات عميقة، فيها اليوميّْ العادي، المعقّد المحرّض على بحث وجري وراء المعنى في غابة كثيفة الأشجار متداخلة الأغصان، سوف يتحدّث بيسوا عن اليوم والأمس، عن المسرح والمسيحيّة، عن يوميات مريبة ومريعة، في مقاطع معينة ستكون الدلالة واضحة، الدلالات متواترة ما بين سهل وغامض "مفردة " سهل " تبدو ها هنا ساذجة كثيرا" الشعر ضمن الشذرة.
إنّها "مقاطع، مقاطع، مقاطع" كما سيقول وكما سنرى مقاطعه ومضاته القصيرة ذات التكثيف في كتابه "الرباعيّات"،الشعرية في أشد اللحظات الفلسفية "دونما بوادر إقحام غير مرغوب فيها" والفلسفة في أشد اللحظات الشعرية، إنها خيمياء الكلمة ذاك التحول البديع للمعنى باستخدام المفردة ذاتها ضمن مضمار مغاير، الفكرة ذاتها بصوغ مختلف, كتاب اللاطمأنينة وثيقة فلسفية تدل على براعة كاتبها وتعمقه في الحياة اليومية للحصول على أفكار تتصل بالفلسفة.تلك الأفكار مأخوذة بعنف من الواقع، من صميم الواقع، كتابة واقعية وغير واقعية في الوقت ذاته، كتابة من الحياة لكن لا أمل في الحصول على مايشابه الكتابة المأخوذة من الواقع يجعلنا بيسوا مبهورين به، بفكرته المتكونة، كتابة بأربعة أصابع، تفكير بأشدّ اللحظات الاسترخائيّة تلك التي هي من الضرورة للإتيان بفكرة تصطحبك إلى مناطق بعيدة، مناطق خارج حدود المعلوم من لدن فكرنا الصغير، هو نجاح في اصطياد أشخاص في دماغه، أشخاص سهر على تربيتهم وتغذية ثقافتهم، تمرينهم على كتابة تدخل في الصميم، في راعي القطيع سيكون الأمر مختلفا. سيكون بيسوا شاعرا طبيعيا بالمعنى القاسي للكلمة بعد أن يختار اسما ومولدا ومكان إقامة "ذلك ينطبق على كل أنداد بيسوا".
وأخيرا بالطبع تاريخ وفاة على اعتبار الوفاة نهاية تجربة كتابية طبيعيّة "الموت فيزيولوجيا" ولكن في الحالات العادية يكون الموت عبارة عن إيذان بنهاية تجربة حياتيّة كتابيّة فكريّة غير أننا في حالة بيسوا هذه لن نكون أمام موت طبيعي مقدّر من قبل الرب إنه موت يختاره بيسوا لندّه ثم ليعتكف على عمل في نحت ند آخر يسبق سلفه.أشباح مثقفة، محيطة وملمة بكل السياسة في وقته، بالشعر المدوّن في تاريخ عيشه "الذي هو بذات الوقت تاريخ عيش الخالق فرناندو"، شاعر لا يعبأ بالتفكير "حتى التفكير هنا غير ذي فائدة" هكذا "التأمل يعتدي على الطبيعية، ثمة تصنّع مبالغ في عمليّة الإستغراق بالتأمل" كن لاشيء، لا تفكر بشيء، لا تهتم لأمر، ثم ما الفائدة التي ترجى من تأمل عقيم لا يودي سوى إلى غبار وفوضى لا تفيدها الإنتظام.أما فيرناندو بيسوا أو الندّْ ألبرتو كاييرو في "الأناشيد" سيكون الشاعر الوجودي، دعوة صريحة إلى رؤية الأشياء على أنها أشياء وكفى هكذا ببساطة دون إضفاء أي معنى فضفاض للعبارة، هادئا يرتل أناشيده بمعزل عن أي أيديولوجية أو ثقافة تعكّر صفو الشعر:

الجوهريّ أن نحسن الرؤية
أن نحسن الرؤية دون تفكير
أن نحْسن الرؤية عندما نرى
ولا أن نرى عندما نفكّر.

هنا يبقى ريكاردو رييس، الندّ الآخر لبيسوا، شاعر طبيعي، "من الطبيعة" الطبيعة كمعادل للعواطف المحسوسة تلك الكلمات التي يدونها بحسّ عالي عن أوراق الأشجار، الحيوانات ككائنات تجيد العيش والتآلف مع الطبيعة بمزاجيتها واضطرابها المستمر، لنسع معا، من خلال تفكيرنا، للحصول ليس على الحياة
بل على روح الحيوانات.. أو:
ما دمت أحس بالنسيم يداعب شعري
وما دمت أرى الشمس تشع مشرقة فوق الأوراق
فإنني لن أطلب المزيد.كل قصائد هذا الشاعر الندّ فيه إيمان عميق بالقدريّة القدر كمحرّك خفيّْ لمصائر البشر دون القدرة على ردّه أو التهرّب منه، إنه تسليم حزين عائق أمام السعادة والبهجة.في قصائد "إلبارو دي كامبوس" الندّْ تأثر واضح بتجربة الأمريكي "والت ويتمان" هذا الأخير الذي كتب كثيرا وباحتفاء عن العصر الحديث على الرغم من ضجيجه الناتج عن التطور الحاصل في صناعة الآلات، لقد ناقش دي كامبوس مواضيع العصر الحديث من وجهة نظر مستقلّة وبشعريّة لا تخلو من بعض القساوة إضافة إلى نفسه الطويل حيث القصائد تشكّل قصيدة طويلة تعطي شعور أنها كتبتْ في لحظة واحدة دونما إبطاء أو تأجيل.أربع شعراء مجتمعين في رجل واحد، لكن لا أمل في الحصول على بارقة صلة تجمعهم، على كل الصعد، شعريّا، أو من ناحية التفكير وأسلوب الكتابة، إنها لعبة غريبة، لعبة متقنة، تودي بنا إلى اليقين الكامل لمقولة أن الشاعر هو المتعدد في الواحد، إن كانت هذه العبارة وإن "بدت للكثيرين كلاسيكية" صحيحة فإن الأمر لا ينطبق على فيرناندو بيسوا لأنه لم يدع مفردة توصلنا إلى ارتباط ولو خفي، ولو بسيط، قراءة متعبة.أربعة نماذج بعيدة جدا عن السائد، طرق للكتابة تجعلنا نعيد التأمل في الكثير من الأشياء، النوم، الحب، الإسترخاء دونما تفكير بشيء يعكر صفو المزاج، لا أمل، إنه نوع آخر من الكتابة الذاتيّة هذه التي تتحول في لحظة إلى كتابة تنطبق على كل البشر وليست خاصة بخالقها كاتبها حكاية وأخواتها.