هناك وقفت... وألقيت قرنفلة على فرناندو بيسوا

Tuesday 23rd of August 2016 06:40:23 PM ,

منارات ,

نجم والي

معرفتي بفرناندو بيسُوا قديمة، تعود إلى أيام الدراسة في جامعة بغداد، المرة الأولى التي سمعت فيها مقطعاً شعرياً له، أنشدته زميلة لي درست الأدب الأسباني الذي كان أُنشئ حديثاً في كلية الآداب عام 1977. وأعتقد أن الأساتذة الأسبان هم الذين نقلوا لنا الشاعر البرتغالي، ربما لأنهم ظلوا أمينين لثقافة شبه الجزيرة الإبيرية التي ضمت مع بلادهم البرتغال أيضاً. ربما ضاع بيسُوا مني زمناً، لكنه ما لبث أن عاد من جديد، أولاً في 1985،

عندما زرت البرتغال للمرة الأولى، وثانياً، منذ أيام إقامتي الأولى في مدريد (1987 - 1990). كان شاعر «الأنوات» المنقسمة والانشطارات حاضراً في أحاديث صالونات الأدب ومقاهيه. ومن يعش هناك، لا بد له من أن يفكر بزيارة البرتغال، لشبونة بالذات، على الأقل من أجل البحث عن الآثار التي تركها بيسُوا. فلشبونة لا تبعد أكثر من خمس ساعات بالسيارة عن مدريد. ومنذ ذلك الحين ما مر عام لم أزر فيه لشبونة، خصوصاً في أيام الشتاء. بعد نهاية الخريف تحمل المدينة نكهة خاصة، روائح السمك والثمار البحرية في كل مكان، فيما تبعث موسيقى الفادو «التي تغني الفقدان» صدى ميلانخولياً يختلط مع الضوء الفضي الممزوج بلون ذهبي تعكسه مياه الخليج أوقات المساء، يضيع في الأفق البعيد ويمتزج مع روائح معلبة برطوبة المحيط. كل الروائح هذه يصعب للزائر شمها في موانئ أخرى، رائحة البحر الممتزجة مع رائحة بُن حُمِّص للتو، وتبوغ ما زال يُمكن شم نداوتها، رائحة بهارات وأعشاب يابسة وأسماك مجففة، روائح تُذكر بمدن بعيدة، نامت في ذاكرة الإنسان.

في كل زياراتي للمدينة، وجولاتي الطويلة عبر أزقتها وأسواقها ومطاعمها وحاناتها، خصوصاً الحانات والمقاهي في لشبونة التحتية، فكرت به، فرناندو بيسوا. إذ من الصعب على واحد مثلي، جوال آفاق، ألا يفكر بقرابة روحية لصديق مثله؟ كنت أراه واضحاً أمامي، مثل الضوء، يتحرك بنظراته الميلانخولية، يتجول يومياً عبر شوارعها، يتنقل بين مقاهيها في الحي القديم الملتصق بالبحر، أو يصعد سلالمها إلى حي الفاما المشهور بحانات الفادو. «طفلتي الحبيبة، صغيرتي! إنني في مارتينو دي آركادا، أنها الثالثة والنصف، وعمل اليوم قد أُنجز!» أتذكر تلك الجملة التي كتبها في رسالة لحبه الوحيد والقصير أوفيليا كيروز، وأعرف أن عمل اليوم كان بالنسبة إليه هو الحصول على قوته اليومي من طريق عمله مراسلاً تجارياً ومترجماً في مكاتب شركات الاستيراد والتصدير في الحي القريب من الميناء «بايشا. وما كان يكسبه لم يكن يكفي حقيقة، حتى لدفع ثمن علبة دخان. أفكر به، كيف عاش طوال حياته فقيراً، مستأجراً ثانياً في غرف مؤثثة. كانت الشوارع والحانات والمقاهي هي بيته الحقيقي، هناك واظب على قتل الوقت والجوع. أما وطنه فكان اللغة البرتغالية. وعمله الحياتي - بعد أن يكون قد أنجز عمله الوظيفي - هو كتابة الشعر. حينذاك كان يجلس غالباً في المقاهي. في «مارتينو دي آركادا» أو في «براكا ديل كوميرسيو». هنا كتب الكثير من قصائده ورسائله الغرامية لأوفيليا، في مقاهيه التقليدية الأخرى الصغيرة التي كان يمر بها في شكل عابر في طريق تنقله بين مكان عمله ومقهى آركادا، في مقهى «غاف دي أورو» و «المارتينو»، في مقهى «جيلو» و «باستيليريا ماركيز»، في مقهى «لايتراريا دي جيادو»، أو في «البرازيلية» في الحي القديم «الجيادو»، المقاهي التي تحمل الكثير من بهاء القرون الماضية، التي انقرض بعضها وبعضها لا يزال. في كل تلك المرات، رأيته إلى جانبي، وأنا أصعد مدرجات شوارع لشبونة العالية، نسير معاً، ندخل مقهى أو نشتري علبة دخان. في كل المرات تلك، لم أره ينطق كلمة أو يُصدر حركة تعبر عن ضيق.
أراه يفكر بهدوء. ربما فكر بحبه الوحيد «أوفيليا»، بالرسالة التي سيكتبها لها بعد حين. ربما فكر بأشباهه، بأندانده المُخترعين، أولئك الذي أطلق المتخصصون بدراسة أدبه، «الشعراء الأسطوريون»! ربما فكر بطفولته البعيدة التي قضاها في سنواته الأولى تحت رعاية أبيه، يواكيم دي سيابرا بيسُوا، الموظف المتعلم والمثقف الذي كتب النقد الموسيقي، وأمه ماريا ماجدالينا نوغييرا، إبنة الطبقة الأرستقراطية البرشلونية! ربما فكر بطفولته اللاحقة بعد وفاة أبيه عام 1893 نتيجة مرض السل وفي الثالثة والأربعين، وعيشه وله من العمر خمس سنوات فترة قصيرة مع جدته التي ماتت مجنونة؟ ربما فكر بطفولته اللاحقة في مدينة «دروبان» في جنوب أفريقيا، حيث عمل زوج أمه الذي تزوجته بعد سنتين من وفاة والده، الجنرال خوا ميغيل دي روسا قنصلاً هناك! ربما فكر بأيام تعليمه الأولى في دير «ويست ستريت» في دروبان، حيث تلقى تعليمه الإنكليزي الأول، ليدخل من ثم إلى الـ «هاي سكول»، وينهي دراسته بتفوق! وهي تلك الفترة بالذات، التي دغدغه فيها الشعور الذي قال له، بأنه «اُنتدب لكتابة الشعر».
كان بيسوا في الثانية عشرة، عندما كتب بالإنكليزية أبياته الأولى، وعندما أصبح طالباً في جامعة «كاب شتات» في جنوب أفريقيا، فاز بالجائزة الأولى للملكة فكتوريا للإنشاء الإنكليزي. ربما فكر في قراءاته الأولى التي تركزت في تلك الفترة على الشعراء الإنكليز فقط، ميلتون، بايرون، تشيلي، كيتس، وبالطبع شكسبير، قبل أن تُضاف الى هذه القائمة في أعوام لاحقة أسماء شعراء وفلاسفة من بلدان أخرى ومن كل العصور، قبل أن يعتقد أنه ودع مرحلة القارئ الذي لا يشبع، وأنه كفّ عن قراءة أي كتاب تقريباً، لأنه اكتشف أن الأدب هو خدمة الحلم، و «لتحقيق ذلك لا يهم الكفاح الدائم الممتزج بالشدة والقوة، ولكي يصبح كاملاً، ليس هناك كتاب ينفع»، كما كتب في 1910! ربما فكر بعودته إلى لشبونة قبل كتابته تلك الجملة بخمس سنوات، عندما جاء إلى مسقطه وتسجل في قسم الفلسفة في جامعتها، ثم ليتركها مبكراً عام 1907؟ كانت تلك الفترة التي قرر فيها أن يشق بنفسه طريقه في الحياة، ويشترى آلة طباعة، كانت تعمل كما وصفها هو «بوجع رأس»، ثم ليبدأ عمله كـ «مراسل» لشركات أجنبية حتى وفاته، ربما فكر بأصدقائه الذين شاركوه جلساته في المقاهي، الشاعر ماريو سان كارنيثيرو والرسام والكاتب خوزيه دي ألميدا نيغريروس (الذي يعتبر أبا الحداثة البرتغالية)، وهما كانا في هيئة تحرير مجلة «أورفيو» ذات الأهمية الكبيرة على الرغم من صدور عددين منها فقط وتوقفها عن الصدور عام 1915، لأنها كانت إشارة لبروز جيل أطلق عليه في البرتغال «حركة الطليعة»، وبخاصة صديقه الأول، كارنثيرو، الذي انتحر في 1916 في باريس بعد وقت قليل من إعلانه ذلك في رسالة بعثها إلى بيسُوا، الهزة التي أحدثتها المجلة والمعلم الحاسم الذي تركته في الأدب البرتغالي وشخصيته، وقد عمل فيها محرراً (كان أحد مؤسسيها)، كل ذلك ترك ظله حتى فترة لاحقة، وكان أحد أهم الأسباب التي قادت إلى الحماسة لنشر مجلد أعماله اللاحقة التي تركها كلها تقريباً من دون نشر حتى وفاته. وفي عام 1942 لم ينجح أصدقاؤه إلا باستلال بعض من كوم دفاتر مليئة تركها في صناديق ازدحمت بالمخطوطات، لأن بيسُوا الزاهد، لم ينشر في حياته إلا القليل، مسرحية واحدة هي «البحار» وبضعة قصائد، نشرها تحت أسماء «منتحلة» أخرى!
ربما فكر بيسُوا بهذا أو ذاك أو ربما فكر بهذا كله. ولكن مهما كانت قدرته على الاختراع، فإنه لم يتخيل، أن أحداً سيأتي من بلد بعيد أسمه العراق للقائه وحسب، يصعد شوارع لشبونة وينزل، يسير على خطاه، يبحث عن آثار تركها وراءه، كأنه لا يصدق أن صديقه مات، وأن مَنْ مات في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 1935 بتشمع الكبد، هو أحد الأشخاص الذي اخترعهم بيسُوا على هواه، والذين وُلدوا من عقله وقلبه، وعاشوا معه جنباً مع جنب: البرتو كائيرو، ريكاردو رايس، ألفارو كامبوس، أنتونير مورا، فرناندو سواريش، بيثينته كيديس، الكسندر سيارج، وآخرون تركهم تباعاً، أو أماتهم مبكراً. ولكن يظل الثلاثة الأوائل هم الأشخاص الأقرب إليه. الشعراء الثلاثة هؤلاء الذين انبثقوا من داخله كما لو كانوا شخصيات اختلقها روائي. هذا ما أراده الشاعر أو على الأقل كما نراه نحن من دون أن نجعلهم متماثلين معه كما سعى هو دائماً، تطابقاً مع ما كتبه ذات مرة، الى أن «يصبح الشاهد الوحيد للحياة من دون أن يمتزج معها» محاولة غير نافعة، فبيسوا في النهاية هو كائيرو، كامبوس، رايس، مثلما يكونون هم معاً، هذا الـ «بيسوا» الذي من خلالهم حقق نفسه كي ينسى وجوده الميتافيزيقي في الحياة، قبل أن يموت وكان أتم للتو السابعة والأربعين.
وقفت عند قبر فرناندو بيسُوا في لشبونة، كي أنثر الزهور عليه على عادتي كل عام، القرنفل الذي أحبه بالتحديد، كي أحكي له أيضاً عن أصدقائه الجدد الذين انطلقوا بالبحث عنه، أصدقاء وقف في طليعتهم، يوسف ماني، الذي سار في متاهة شوارع بغداد يشكل صورته، «صورة يوسف» وبكل ما حوته من تصدع وأنوات، ففي النهاية، نحن كما ردد هو نفسه بيسُوا، وأنشده بعده صديقه في «صورة يوسف»، نحن، ليس سوى «حيوات تروي حكايات بعضها»، حيوات... تتوزع في كل مكان.