فيرناندو بيسوا.. أبــــــرز ممثلـــي الأدب البرتغالي المعاصر

Tuesday 23rd of August 2016 06:41:23 PM ,

منارات ,

يعد فيرناندو بيسوا أبرز ممثلي الأدب البرتغالي المعاصر إلى جانب ميغيل توغرا، وفيرجيلو فيريرا، وأجوستينا بيسالويس، وخوسي ساراماغو الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1998م، ويمثل ما يمكن تسميته في تاريخ الأدب البرتغالي بالحداثة أو المعاصرة، وهي التي مثلت القطيعة مع الأدب الوطني القومي التقليدي الذي كان إلى ذلك الوقت تحت تأثير الرومانسية والواقعية.

فمنذ 1915 بظهور مجلة (أورفي) شرعت جماعة صغيرة من الشعراء والفنانين، يقودها بيسوا في التبشير بجمالية جديدة، بل بفلسفة جديدة. وفي سنة 1927م أسس مجموعة من الشعراء الشباب مجلة (الحضور) أو الحركة التي سميت فيما بعد بالحداثة الثانية. فاكتشفوه وقلدوه معلماً لهم. أصبح بعد موته، أكثر حضوراً منه في حياته، فغدا أيقونة الشعر البرتغالي الحديث.
ولد في 13 يونيو/ حزيران 1888 بلشبونة من أب موظف وناقد للموسيقى، وأم مثقفة تتقن العديد من اللغات، وتنظم الشعر، جرح إحساسه منذ طفولته بموت أبيه وزواج أمه ثانية من قنصل للبرتغال في جنوب أفريقيا، ليقتلع من محيطه وهو في الخامسة من عمره، فيمضي سنوات تكوينه في «دروبان» وسط الإنكليز، فنشأ تلميذاً نجيباً، ينهل من الخزانة المنزلية. عاش حياة أرستقراطية في حضن أمه وزوجها، تأدب في الإنكليزية التي كانت له لغة التكوين والتثقيف، فهام بها وكتب بها أول أشعاره، بل حتى في مسوداته باللغة البرتغالية، كان يحشر غالباً ملاحظات نقدية ذاتية بتلك اللغة. تأثر بالأدب الإنكليزي الكلاسيكي ممثلاً في شكسبير، وبايرون، وكيتس، وروبرت براونينغ، وإدغار آلان بو ووالت ويتمان، وولع منذ طفولته بكل ما هو غريب وعجيب وغير مألوف، حيث تغذى في قراءاته الأولى من روايات ذات مضمون غامض أو ملغز، أو مخيف، ثم استمر هذا الولع بما هو سري، حيث اهتم بالسحر والتنجيم وعلم الفلك والماسونية والروحانيات وبالفلسفة الأصولية والكيمياء التقليدية لدرجة أن بعض مقربيه كانوا يلقبونه بالساحر.
لقد تميزت حياته منذ البداية باللافعالية والعيش في الأحلام، عانى على ما يبدو من عدم تفهم عناصر عائلته ولا مبالاتهم، كما يتضح من قوله:»ليس في عائلتي أحد يفهم حالتي العقلية، لا أحد، إنهم يسخرون مني ويتهكمون، ولا يأخذونني بجدية، بل إنهم يقولون إنني أفتعل كل شيء لأكون شخصية خارقة للعادة».
في سنة 1905 يعود إلى وطنه من دون أن يحصل على أية شهادة جامعية، وقد روى أحد إخوته أنه ترك الجامعة بسبب نفوره من المناهج الدراسية الرسمية، وليس بسبب مشاركته في التظاهرات الطلابية كما هو متداول.
عمل مترجماً للرسائل والعقود في شركات الاستيراد والتصدير بمسقط رأسه، ولم يغادره أبداً إلى أن توفي في 30 نوفمبر 1935.
ترك ورقة كتب عليها باللغة الإنكليزية: «لست أعلم ما سيجلبه الغد». وقال مرة: «من أراد أن يكتب حياتي، ليس ثمة سوى تاريخين: ولادتي وموتي، وما بينهما يخصني وحدي».
بيسوا الأديب الغامض
قرر بيسوا أن يقتحم عالم الكتابة والإبداع، فكانت البداية باللغة الإنكليزية ثم البرتغالية التي استمر بها إنتاجه الفكري والإبداعي، وذلك انطلاقاً من سنة 1912 في مجلة (حركة النهضة البرتغالية) على عهد الجمهورية التي أنشئت برئاسة «سالازار» سنة 1910، كما شغل نفسه بإصدار مجموعة من المجلات الأدبية مع مجموعة من الشعراء الشباب الطموحين إلى خلخلة القيم التقليدية والمتأثرين بالموجات الطليعية لبداية القرن: من مستقبلية ودادائية وسريالية. فكانت مجلة (أورفي) التي دشنت سنة 1915 ما سمي فيما بعد بالحداثة.
لقد فتحت مجلة (أورفي) –رغم أنه صدر منها عددان الأول 15 أبريل، والثاني في يونيو- الثقافة البرتغالية لتأثيرات أجنبية جديدة، لأن كل الشعراء والفنانين الذين تحلقوا حولها (أي المجلة) كانوا في علاقة مباشرة مع الثقافات الأخرى، لأنها توافقت مع ثقافتهم الخاصة. ويرى الباحث روبير بريشون أن تجربة (أورفي) كلها هي بيسوا بعينه، وأن الأهمية التاريخية للمجلة تتمثل في كونها احتضنت تفتحه وعبقريته.
نشر بيسوا باسمء مستعارة العديد من كتابات سردية، وشعرية، ورسائل، ومسرحيات، وكتابات حوارية، وتأملية، وسياسية، وتنظيراً فلسفياً وأدبياً، ونقداً أدبياً، ونصوصاً انطباعية شتى حول التنجيم والغنوصة، ورسائل حب، ومقالات في الاقتصاد والسحر، وحتى الكلمات المتقاطعة… وساد الاعتقاد لوقت طويل بأن بعض الأسماء هي حقيقية قبل أن تنكشف اللعبة ويتضح للجميع أن هذه الأسماء كلها لشخص واحد اسمه بيسوا. قال عنه أوكتافيوبات: (إن علاقة بيسوا بأسمائه المستعارة لا تشبه علاقة الروائي أو المسرحي، ذلك لأن بيسوا ليس مخترع شخصيات/شعراء، بل مبدعاً لأعمال الشعراء..).
وقد بلغ عدد القصائد المنشورة باسمه الصريح 327 قصيدة، وترك خلفه أزيد من 27.543 نصاً بين مخطوط ومطبوع، يحمل توقيع 72 اسماً مستعاراً تم اكتشافها في حقيبة كانت لدى أخته بعد سنوات من وفاته، فشعره وحده من بعده ملأ نحو عشرة مجلدات أو أكثر، إضافة إلى العديد من المؤلفات التي راحت تظهر رويداً رويداً، أشهرها كتاب (اللاطمأنينة) وهو أحد أكثر الروائع الأدبية غرابة وقوة في القرن العشرين، ففي هذا الكتاب ينكشف كاتب عبقري بالكامل عبر كل أقنعته، ففيه يتعقب أطوار حياته الغريبة لأزيد من عشرين سنة من 1913 إلى 1935. في الكتاب نصوص قصيرة، ولكن ذات دلالات عميقة، فيها اليومي العادي، المعقد المحرض على بحث وجري وراء المعنى في غابة كثيفة الأشجار متداخلة الأغصان.
وكتاب (إيروستراتوس)، وهو كتاب نثري كتب باللغة الإنكليزية، عبارة عن نصوص تلتزم نمط الكتابة الشذرية دون عناوين بلا نسق أو سياق صارمين سوى الشهرة والعبقرية موضوعين لها.
عاش فرناندو بيسوا في زمنه الخاص، لم يحط نفسه إلا بأسمائه المفترضة، وكانت قدرته المدهشة بالذات كامنة في خلق كون إبداعي شذري وفاجع، لم تكن الذات فيه سوى علامة على التوحد الذي نسجه مع ذوات أخرى إلى حد التماهي، فلم تكن له علاقات كثيرة، كما لم يكن يحب الأضواء والظهور في المحافل، لم يكن يبحث عن الشهرة ولم تكن لديه مشاريع في هذا الشأن، عزلته وتوحده عتما الجانب الشخصي فيه: (أشعر أن عزلتي وتهميشي ينموان يوماً بعد يوم، وشيئاً فشيئاً تتكسر جميع علاقاتي، وفي المستقبل القريب سأجدني وحيداً بالمطلق)، وهو الشعور الذي يرد في شعره:
أرى عزلة أكبر وأضخم
تدنو من قلبي الحزين
رويداً رويداً
فتعلو فوق رأسي
سحابة سوداء،
وأشعر بالنور يتقلص في عيني
وبالرؤيا تضيق
حتى يسود الظلام..
أضحى بيسوا الأكثر مدعاة للحيرة، اللامبالي، الأشد غموضاً الأكثر تناقضاً مع أناواته – (الأنا) – المتعددة الساخط على القدر، المقل في النشر، قلق الروح في عزلته، وحيداً، كثير التوتر ممتلئاً بالحياة، يحيا أكثر من اللازم.
لم يعترف به كشاعر إلا خلال السنوات الأخيرة من حياته، ولم تكن البرتغال تعرف أنها تساهم في القتل المبكر لأحد كبار أساطير الشعر في العالم الحديث، حين حرمته من منصب محافظ لمكتب متحف «ألكونت كساترو» في مدينة صغيرة، أراد أن ينهي فيها حياته بهدوء، وكان ذلك محبطاً له، وخصوصاً حين فاز بهذا المنصب رسام مغمور، وتعمق هذا الإحباط حين حرم أيضاً من المرتبة الأولى في جائزة وطنية حصل عليها رجل دين فرنسيسكي عن ديوان رديء لم يكن ذا شأن على الإطلاق في تاريخ الأدب البرتغالي. كان بيسوا يحمل بين ثناياه معاناة الشاعر العميقة والخفية، ووعيه الكامل بتحكم أناه غير المنطقية في تفكيره.