إيريك فروم ونقده مجتمع الاستهلاك.. الملل مرضاً للعصر

Tuesday 27th of September 2016 06:26:35 PM ,

منارات ,

محسن المحمدي
قام عالم النفس وعالم الاجتماع «ألتون مايو» بتجربة شهيرة بطلب من مصانع هاوثون بشيكاغو، التي كانت تريد تحسين أداء العاملات الأميات لديها، والتجربة هي كالتالي:
إن العاملات الأميات الموجه إليهن التجربة، كن يقمن بعمل بسيط ورتيب، وهو حل ملفات الأسلاك، وهو شغل لا يحتاج إلى جهد كبير. كان الاعتقاد السائد، أنه يمكن تحريك طاقة عمل العمال، بإعطائهم مكافآت، من قبيل استراحة

إضافية مع قهوة الصباح مثلا. وذلك ما قام به ألتون مايو أيضا. في البداية، جعل استراحة شرب القهوة بعد الظهر، مما أدى إلى ازدياد إنتاجية العاملات. ثم أضاف استراحة أخرى قبل الظهر. ومن جديد، جرى تسجيل إنتاجية أكثر.
وهكذا جرى تأكيد أنه مع كل إثارة تتم الاستجابة. فتحسين حياة وظروف العمل يكون حافزا للمزيد من العطاء. فقدم العالم مايو تقريره إلى رئيس الشركة، ناصًحا بأن خسارة عشرين دقيقة لاستراحة القهوة، توفر للشركة أرباحا كبيرة.
لكن ألتون مايو سأل نفسه، بعد ذلك، بطريقة افتراضية: ماذا سيحدث لو جرى إلغاء الحوافز والمزايا معا؟
فأعاد التجربة من جديد وذلك كالأتي: إلغاء استراحة قبل الظهر. لكن العجيب هو أن الإنتاج استمر بالوتيرة نفسها، مما يعني أن هناك محركات أخرى للعمل.
هذه التجربة قدمها الفيلسوف «إيريك فروم»، في كتابه «الحب أصل الحياة». وهو الكتاب الذي ترجمه ناصر ناصر، ونشرته دار الحوار للنشر والتوزيع عام 2013،ويؤكد على أن الحافز لتحسين المردودية، يكمن بالأساس، في
الرغبة في العمل نفسه أكثر مما هو في زيادة فترات الراحة، أو زيادة الرواتب، أو تأمين وسائل التسلية. فالسلوك الإيجابي الذي أبدته العاملات، يرجع إلى عوامل ذاتية وداخلية. بعبارة أخرى، يمكن القول إن ما يجعلك منتجا وحيويا
ومخرجا لطاقاتك الحيوية، هو محركاتك الباطنية، وهي الرغبة في الشيء الذي تنجزه. يؤكد إيريك فروم، على أن الحيوية المنبعثة من دواخلنا، هي التي تنشط وتقوي القدرة على الحياة. في حين أن كل خمول وكل غياب للرغبة،
إيريك فروم ونقده مجتمع الاستهلاك.. الملل مرضاً للعصر
ينتج الكبت واليأس، بل يولد مشاعر الكره أحيانا. وهو الأمر الذي قد يدفع لغياب المعنى أصلا.
إن إيريك فروم، وهو المنتمي لمدرسة فرانكفورت الألمانية، التي ألقت على عاتقها نقد التجربة الحداثية، ونقد مجتمع الاستهلاك، وإعلان صرخة الإنسان المعاصر المسحوق والمستلب من طرف ماكينة الرأسمالية، يؤكد على أن حقيقة
حضارتنا الحالية هي: أن الناس ليسوا سعداء. ليس لأنهم لا يملكون أو لا يتوفرون على الأشياء، بل لأن الملل يخترق حياتهم. فعندما لا يعرف المرء كيف وماذا يفعل ومن أين يبدأ؟ نقول إنه أصبح لا يملك في نفسه الدوافع، لكي يفعل.
ما هو ذو قيمة، أو ينتج شيئًا يخلق المعنى لديه. عندئذ يشعر بالملل والخواء، ويكون مضغوطا عليه كأنه يحمل أثقالا. يقول إيريك فروم في كتابه المشار إليه أعلاه: «إن الملل والخواء الشخصي، هو العذاب النفسي الخطير». إننا في عصرنا هذا، نصنع الكثير والكثير كي نتغلب على غول الملل الذي أصبح مرضا. فالمرء قد يقتني ويعيد اقتناء أشياء لطرد الملل. كما أنه قد يأخذ حبوبا مهدئة، أو يتناول الخمرة، أو يحضر من حفلة لأخرى، أو يخلق متاعب وخصامات من هنا وهناك، أو يقوم بنشاطات جنسية، فهذه الأمور هي كلها إغواءات لطرد مرض الملل وهيهات ذلك. إننا نتحرك بكل حيوية لنسحق الملل الذي يتملكنا.
والغريب العجيب في الإنسان المعاصر، هو أنه يفعل الكثير من أجل توفير الوقت وإنقاذه، لكن بمجرد حصوله على ذلك يقتله بدم بارد.
يرفض إيريك فروم إذن، توجهات المدرسة السلوكية في علم النفس، ويراها غير صالحة لدراسة الإنسان، الذي لا ترى فيه إلا استجابة لمثيرات خارجية. وبعبارة أوضح، الإنسان عندها، مجرد آلة مبرمجة تعمل فقط طبقا لمتطلبات
فيزيولوجية ونفسية. فالمرء يريد أكلا وشربا وجنسا ونوما.. وإذا ما أمنا له ذلك، خف توتره وقلقه وأصبحت أموره بخير. يفترض إريك فروم ما هو عكس هذه الفكرة، ليبرز لنا أن الإنسان ليس محكوما بالدوافع الخارجية، بل محكوم
بدوافع ذاتية. فهب أننا حققنا جميع متطلبات المرء، فهل سيكون المرء بحالة جيدة؟ يجيب فروم: «ليس بالضرورة. فكونه ظاهريا، يحصل على كل شيء، لا يعني أنه مطمئن وسعيد. لأن المرء يحتاج شيئًا آخر يسميه فروم الحيوية. أي
تلك القوة الكامنة والتي تساعد في إخراج وولادة المقدرات والكنوز الخبيئة لدى الإنسان».
ولمزيد من تأكيد أطروحته، يضرب فروم مثالا بتجربة أخرى أجراها بعض العلماء: «تصور أننا أخذنا إنسانا وقمنا بعزله في غرفة منفردة، تبقى حرارتها ثابتة ومضاءة بشكل جيد. ويجلب له الطعام ويقدم له أوتوماتيكيا. لكن لا يوجد
أي محرض أو دافع من أي نوع لأي شيء. إنه وعلى الرغم من أن متطلباته الحياتية مؤمنة، فإن الجو السلبي أمامه، والروتين القاتل المخيم عليه، كفيلان بجعله يسقط مريضاً».
إن إيريك فروم يحاول جاهدا إظهار أن الإنسان لا يحتاج إلى الخوف والثواب ليحظى بطاقة حيوية، بل يمكن تحقيق ذلك بطريقة أفضل إذا توفرت الرغبة وحب الشيء.
من المعروف أن الزيادة في الشيء خير، لكنها أصبحت في مجتمعنا المعاصر، شًرا إلى درجة أصبح السؤال يطرح وبإلحاح قصد المعالجة: هل تقود الوفرة والرفاهية الزائدة والفيضان عن الحد إلى سعادة المرء، أم هي سبيل نحو
القرف والملل والخمول؟
إن إيريك فروم، وهو الممثل للجانب النقدي للحضارة المعاصرة في شقها النفسي، يرى أن الإنسان المعاصر أصبح مستهلكا على الدوام وفوق حاجاته الأساسية، مما سبب له متاعب نفسية مقلقة. ويضرب لذلك مثلا طريفا هو: عندما تراقب شخصا يأكل ويلفت انتباهك، ويتأكد لك أنه يأكل كثيرا، إلى درجة أنه يتناول الطعام من هنا وهناك، وكيفما اتفق، وكلما سنحت له الفرصة، يلتهم الحلويات بخاصة وباستمرار، فإن هذه الشراهة والاستهلاك المفرط لا يكونا
من أجل تحقيق الإشباع الفسيولوجي وضمان البقاء، بل هما من أجل طرد الخواء والإحساس بأننا من دون قيمة. إن الشراهة هي محاولة للتحرر من الضيق الداخلي. فالمرء الذي يعاني الملل، يحس وكأنه فارغ لا قيمة له، وكأن شيئاً ينقصه كي ينشطه، فيستجيب لأكل الطعام، وكأنه يقول في نفسه: إنني شخص أمتلك شيئًا، إنني لست لا شيء. ويعمل على المزيد من ضخ الطعام لطرد الخواء. باختصار، الفراغ مفزع، والأكل المبالغ فيه ما هو إلا محاولة
بائسة لطرد هذا الفراغ. بعبارة أخرى، الاستهلاك الكبير هو إعلان أن الإنسان فاقد لقيمته.
نخلص إلى أن الإنسان لا يبحث عن شيء في الحياة إلا عن نفسه. أي إثبات ذاته ككائن مطلق. لأنه باختصار، كائن يتجاوز المادية، ومحركاته لا يمكن أن تكون فقط فسيولوجية أو نفسية أو اجتماعية. فهناك عوامل.
عن/ جريدة الاتحاد الاماراتية