الاستنجاد المستحيل بالعذراء في رواية يا مريم

Saturday 29th of October 2016 06:27:40 PM ,

ملحق اوراق ,

ناطق خلوصي
يتخذ سنان أنطون من نداء " يا مريم " عنوانا ً لروايته الثالثة، وهو نداء استغاثة يائس ومستحيل يستنجد فيه بطل الرواية يوسف بمريم العذراء، (ولنلاحظ دلالة الاسمين والمغزى الكامن وراء استخدامهما)، لتنقذه هو ومن معه من المحنة التي وجدوا أنفسهم فيها فجأة وهم في مواجهة الموت، لكن صوت الموت كان أسرع من صوت بطل الرواية هذا، فظل النداء غير المكتمل معلقا ً في فراغ الفضاء الذي بدأ يمتلىء بأزيز الرصاص ودوي الانفجارات ورائحة الدم والبارود.

تنحو الرواية منحى ً دينيا ً ينطوي على بُعد سياسي فتتعرض لما تعانيه الأقليات الدينية، ومنها المسيحيون (دون أن تتجاهل الإشارة إلى غيرهم)، فتستلهم أحداث الهجوم على كنيسة سيدة النجاة مثالا ً لذلك. وعلى الرغم من أن الروائي كتب ملاحظة تفيد بأن " أحداث الرواية تتقاطع مع حادثة الهجوم على كنيسة النجاة في بغداد عام 2010 ولكن النص وشخصياته من نسج الخيال، وأي نطابق أو تشابه في الأسماء غير مقصود " (ص 157)، فإن الفصل الذي يحمل عنوان " الذبيحة الإلهية "، ينطوي على توصيف دقيق لما حدث في الكنيسة فعلاً جاء في شهادة مها (وهي الشخصية الثانية في الرواية) التي أجبرها الإرهابيون الذين اقتحموا الكنيسة، على أن تدلي بما أملوه عليها، عبر الهاتف الخليوي المرتبط بإحدى القنوات التلفزيونية العربية وورد اسم (كنيسة سيدة النجاة) صريحا ً وبالتالي فإن محاولة الروائي التعتيم على ذلك تفقد ضرورتها ولا تجد ما يبررها عندئذ.
يرتكز مبنى الرواية السردي على الاسترجاع الذي يغطي مساحة واضحة منها، ويقوم الاسترجاع على ركيزتين: الذاكرة والصور العائلية المعلقة على الجدران، ويجري على لسان بطل الرواية الذي يستعرض سيرة حياة عائلته من خلال ذلك مع التوقف عند تفاصيل تقاليد وعادات دينية للطائفة التي تنتمي إليها الشخصيات، إلى جانب استعراض بعض الأحداث العامة التي وقعت في الزمن الذي عاشته تلك الشخصيات.
بدأ بطل الرواية وراويها (يوسف) عملية الاسترجاع، معتمدا ً على الذاكرة، بشخص أخته "حنّة " التي بدت شديدة التدين وقد حولت غرفتها في البيت إلى ما يشبه كنيسة مصغرة فقد كان جزء من الغرفة " مكرسا ً للأيقونات والتماثيل وتذكارات العذراء ويسوع الصغيرة التي كانت تهوي جمعها... كنت أحيانا ً أشاكسها وأقول لها أن كل ما ينقص غرفتها لكي تكون كنيسة مصغرة هو المذبح والبخور " (ص 18) ويشي سلوكها بتعصبها لديانة طائفتها ولكنيسة معينة دن غيرها واعتبار الإنجيل الكتاب الإلهي الوحيد، بأنها تقدم نموذجا ً للتزمت الديني الذي، على ما يبدو، لا تخلو منه طائفة من الطوائف وفي مختلف الأديان .
وتلعب الصور دورا ً كبيرا ً في عملية الاسترجاع، وهي صور لها خصوصيتها لدى بطل الرواية: " وقفت أمام أرخبيل الصور. كنت فد انتقيتها بنفسي منذ سنين طويلة وأطّرتها وعلّـقتها بعناية " (ص 34)، يسترجع من خلال إحدى الصور المعلقة على الجدار، ذكرى أخيه جميل " الذي هرب من العراق عام 1969 بعد أن أعدموا صديقه بتهمة الماسونية وخافت زوجته اللبنانية من أن يلاقي هو نفس المصير " (ص 18)، ويستذكر أباه وأخوته واحدا ً واحدا ًوأخواته واحدةً واحدة، فيقدم بذلك جردا ً متكاملا ً لسيرة العائلة. ويرد اسم مها للمرة الأولى عند استذكار الراوي لحرب 1991 (وكانت طفلة في حضن أمها آنذاك، وستكبر وتلعب دورا ً في أحداث الرواية فيما بعد)، ويصف إحدى ليالي الحرب وهم في الملجأ " كانت الطائرات الأمريكية تدك بغداد ليلتها في قصف شديد يهزّ الأرض ومها في حضن أمها تبكي " (ص 28). ويعيدنا هذا الاستذكار إلى تلك الأيام، أيام الحرب القاسية الحافلة بالمواجع حيث " كان الماء يجيء تقريبا ً مرّة كل ثلاثة أيام " (ص 31)، فتصبح وظيفة الاسترجاع هنا سردية ـ توثيقية لسيرة العائلة ولأحداث الحرب معا ً، في هذا التفصيل وفي تفاصيل غيرها في الرواية.
ويستذكر الراوي أيام طفولته مع عائلته، من خلال إحدى الصور المعلقة على الجدار، دون أن تفوته الإشارة إلى نمط الأزياء التي كانت سائدة آنذاك . إنه يمنح المكان، والأزياء أيضا ً، وظيفة الكشف عن أعمار أفراد العائلة وطبيعة أماكن سكناهم،لينتقل إليه هونفسه شخصيا ً. فيواصل توظيف الأزياء في الكشف عن التحولات التي مر ّ بها في حياته: " يوسف في العاشرة يرتدي قميصا ً أبيض وقد رُبط حول ساعده الأيمن شريط أبيض....... " (ص 40)، وحين " يضع يوسف نظارات شمسية ويرتدي قميصا ً أبيض مع بنطلون رمادي. يده اليسرى في جيب بنطلونه واليمنى على جذع نخلة باسق " (ص 46)، فإن هذا يشير إلى أنه أصبح يشغل وظيفة على علاقة بالنخيل فهو الآن" يرتدي بدلة داكنة وربطة عنق ويجلس وراء مكتب اصطفت فوقه ملفات وأوراق " (ص 45).. وهنا يعاود سنان أنطون توظيف الشجرة رمزا ً لديمومة الحياة حيث كان قد وظفها في رواية " إعجام "، وشجرة الرمان في رواية" وحدها شجرة الرمان " وهاهو يعاود توظيف النخلة بشكل خاص في هذه الرواية ويعتمدها رمزا ً للوطن هذه المرة ويكرر الإشارة إليها في أكثر من موضع بهدف الإيماء إلى قيمتها وأهميتها. ويلاحظ أنه يوظفها هنا ببعدها الديني أيضاً ً حيث يسترجع النص القرآني في الآية الكريمة " وهزّي إليكِ بجذع النخلة تُساقِط عليك رطبا ً جنيّا " ليؤكد من جديد سعة اهتمامه بالثقافة الدينية الإسلامية مما يشي بانفتاحه الديني والفكري معا ً. وإذا كان سنان أنطون قد هاجر إلى الولايات المتحدة بعد حرب الخليج عام 1991 وأكمل دراسته العليا وحصل على الدكتوراه في الأدب العربي هناك، فإنه لم يقطع جذور انتمائه للعراق الذي يتخذ من النخلة ببعدها التاريخي نموذجا ً له ويمنحها أكثر من مرة، وببعدها التاريخي هذا، اهتماما ً خاصا ً فيقول عنها أنها كانت " تحتفظ بمكانة مقدسة فتوجد نقوش ورموز تمثلها في هياكل بابل وآشور وعلى جدران المعابد ومداخل المدن والعروش والتيجان " (ص 45) بما يجسد البعد التاريخي للعراق حسب اعتقادنا.
تقع الرواية التي صدرت عن دار الجمل(بيروت) عام 2012، في 159 صفحة من القطع المتوسط، تتوزع على خمسة فصول يحمل كل منها عنوانا ً وينشطر كل فصل إلى مقاطع عديدة يحمل كل منها رقما ً. صورة الغلاف لألفريدو بيكوندوا، وقد حولت دار النشر الغلاف إلى لوحة إعلانات للترويج للرواية. زمن الرواية لا يزيد عن يوم واحد هو اليوم الذي حدثت فيه مجزرة سيدة النجاة، دار خلاله جدل ساخن بين يوسف ومها انتهى بانسحاب مها وهي في حالة توتر وقد فاجأته بالقول أنه يعيش في الماضي وقد أحزنه ذلك، وانتهى ذلك اليوم بحادث الهجوم الإرهابي على كنيسة سيدة النجاة. كان الحكم بإعدام طارق عزيز هو الذي فجّر الموقف بين مها ويوسف، فهي ترى أن الحكم صدر عليه لمحض كونه مسيحيا ً يؤيدها في ذلك زوجها لؤي، في حين يرى يوسف، وهو يوظف حكمته وعقلانيته، سببا ً مغايرا ً يردّه إلى موقف عزيز السياسي، فيتوتر الموقف بين الطرفين.