الفنان والمهندس المعماري» معاذ الالوسي» في حوار خاص: هناك هجمة شرسة على تراثنا

Wednesday 2nd of November 2016 06:15:01 PM ,

عراقيون ,

حاورته: ضحى عبدالرؤوف المل
يربط الفنان « معاذ الالوسي» بين الشرق والغرب برؤية فن معماري مزجه بنفحة تراثية شرقية، حافظ على تواجدها في اعماله الفنية غالبا، فالفن المعماري هو الانضباط الايقاعي الذي يمنحه الحس الموسيقى المنسجم مع المادة جيث لعبة الزمان والمكان والابعاد هي جزء من عمله الفني.

ليستكمل هذه الامكنة بفن عمارة صاغها بأسلوب ذي نفحة شرقية، وتكنيك معاصر يواكب من خلاله اللغة العالمية لفن المعمار المقترن بالحفاظ على التجانس الهندسي والقيم الجمالية. حقيقة لا اعلم كيف بدأت هذا الحوار. الا انني لمست الاصالة العربية فيه، والتمسك بالأرض والمكان وجمالية الفكر المشبع بالادراك الفني.

-متى يتفاعل الفنان معاذ الالوسي مع المكان؟. وما هي الابعاد التي يطمح للوصول اليها؟.
في عملية الابداع، دعيني اطلق عليها الخلق الجميل، عملية تواصل مع المكان بل ومع الزمن، متوازيان متزاوجان يفرضان حالهما على المبدع. بالتالي يستحال عليه الانسلاخ عنهما، اي عن بيئته الظاهرة او الباطنة. مهما حاول المبدع النأي بعمله عن التواصل. او التجرد، وكسر الحدود وتهشيم ما يؤطر الفكر، مما يسمح للزمان وللمكان فرض وجودهما. اذن العملية هي “تفاعل” حوار متبادل بين مبدع مع مكان معين وفي زمن معين. ان المدرسة والفكر الذي انتمي اليهما وأؤمن بهما بصدق وإخلاص، فحواسي تستلهم هاجس المكان. اي مكان امارس العمارة فيه، الشرق العربي او الخليج، او في افريقيا، الكونغو برازايل السودان) او بلاد القفقاس(ارمينيا. اولوياتي في منهجية الانتاج هي البحث عن مكونات المكان، رسم جيناته، وتسلسل موروثه. ملتزم، مواكب الحالة الإنسانية السائدة ومتواصل مع المرحلة الحضارية السائدة. هنا يلعب الزمن ومجراه دوره الموازي. كما ان الابعاد المستهدفة هي الإرتفاع بالمحلية الى مستوى العالمية. محاولة ازاحة مكان في فهرسة المنتوج الانساني، للإنتاج المعماري الخاص بالمكان (المحلية) اي المشاركة ضمن التراكم الحضاري الانساني العام، مساهماً في تقدم وراحة وسعادة الإنسان أينما كان. إنه التزاوج بين العالمي والمحلي والتواصل مع ما يحيط بنا من قيم وحركات جمالية بوعي شمولي وإنساني، محافظين على الخصوصية المكتسبة. بعد اخر مستهدف هو استمرارية التعبير عن الخصوصية والتواصل مع المستقبل وتسليم الرسالة الاصيلة للخلف. عساها ان تكون اكثر من تمنيات في يومنا هذا الرديء الرجعي المرتد.

-في اعمالك نفحة شرقية ذات اشكال تتماشى مع الحداثة والفن المعاصر هل تأثر الفنان معاذ الالوسي بهذا؟.
إنها اكثر من نفحة، هذا نَفَس مسار متولد من أثر أجواء الترعرع والإنتماء للمنطقة وللبيئة بكل مكوناتها. فانا ابن بغداد، وشرقي بطباعي، ولم احاول التنصل من هذا الواقع في اي عمل اقوم به، بل العكس، لم احاول ابدا تكريس الا الذات، كما يحاول بعض المعماريون المستنسِخون. درست وبحثت كثيرا لمعرفة تفاصيل مكونات هذه الذات، ووقفت احتراما أمام إنتاج السلف المعماري، والخزين المميز له. وفي الوقت عينه محاولا الالمام بالمجريات المصاحبة لتكوين هذه المدرسة البغدادية المعمارية المتأصلة. في استلهام عناصر عمارة السلف. تفكيكها وتطويعها واعادة صياغتها، بعيدا عن نقلها الكسول، في نغم جديد معاصر مواكباً لحضارة الحاضر “ الزمن. آملاً سبغ نوع من الخصوصية، تسود فيها القيم الجمالية المتوطنة، كالتكرار والتماثل والزخرف والنهج الهندسي الخاص في المقاييس، وعناصر انشائية، وقيم اخرى كثيرة باطنة وظاهرة، تعود لهواجس المكان وتقاليده. تكسبه النفحة الشرقية، او الهوية المميزة. هي اذن عملية تأليف المفردات بنوتة جديدة حديثة معاصرة في مفهومها العام. إنها أشبه بقصيدة شعر التفعيلة الحديث بنوتات ايقاعية متنوعة. من هذه العملية التأليفية تتولد لغة على شكل موجات غير مباشرة تدغدغ وتناغي لا إرادياً مراكز إدراك المتلقي، وبالتالي ينتشي ويتواصل مع لغة غير غريبة عليه، خلالها يتحفز ويتولد له شعور الانتماء والحنو.

-اختصار حركي ملموس في اغلب اعمالك الهندسية والفنية لماذا؟ وهل تفكر بتصميم مدينة عربية يوما ما؟
الاختصار في الظاهر تراه العين فقط، ناتج من تحميل المُنتج معان أُخَر باطنة، ايماءات بموجات محفزة، غير سطحية. الهم والهاجس هو الابتعاد عن المباشرة السهلة والنقل الرخيص. اريد بالمقابل لصاحبي الآخر المشاركة في الاستمتاع، في استكشاف المضمون، حتى ولو قاده هذا التصور الى تأويله الخاص به. وفي دروب الفن حبذا ان يكون هذا التصور غير ذلك الذي انا قاصده اصلا، بذلك محاولا منع الضجر عن المخاطَب وإبعاده عن الوسطية المملة. انه الألتجاء الى صياغة حركات معمارية بقيم جمالية موروثة ومعاصرة، تخاطب كل حسب خزينه الفكري المتراكم الخاص به، اشارات وبموجات سميوطيقية تذكر بالهوية والانتماء، تلتقطها المراكز اللا واعية لهذا المؤشَر اليه، تذكره وتسبغ الحنان والتواصل والتفاهم مع ماهو متأصل ومتجذر فيه. لذلك هي محسوسة اكثر من ان تكون ملموسة كنعتك لها.

هاجسي اليوم ليس بالضرورة تخطيط مدينة المنطقة، وانما محاولة واقصى اماني هو تحديث والحفاظ على ما تبقى من مدننا الآيلة الى الزوال، هناك هجمة شرسة على نسيج وطباع مدننا الاصيلة. اخر المحق دمشق بدأً بالقدس ومروراً ببغداد، والقادمة في سلسلة التشويه كربلاء والنجف. الجميع وراء مدن اسميها « صدفة» تولد فجأة كمدن ناضجة مدن ملح بدون لؤلؤ” من رحم الصحراء، بدون طفولة ومراهقة، مدن بين ليلة وضحاها تولد كهلة بابراجها التي تتسابق في نطح السحاب، مدن تقتات على المولات، ملوثة بصريا، بدون عتق، بدون ذكريات تتوارثها الاجيال، فاقدة للجمل الشاعرية الملهمة، التي تميز نسيج وتكوين مدن المنطقة، كالدرب والزقاق والمحلة، الحي والسوق والحمّام والجيرة، مدن مستنسخة مسروقة من حضارة الغير، اللامنتمي للبيئة المهيمنة.
المدينة التي ابتغيها واتصورها، ذات مناحٍ “عربية واسلامية”، هذا العنوان، بسبب كون مدننا ذات نهج تحكمه البيئة والتقاليد، من قبل قوم قد لا يكونوا بالضرورة عرب وليس بالضرورة مسلمين، في العراق مثلا، مدن العرب والكرد والمسيحين والازيدين والصابئة ذات مقومات ونسيج واحد متوحد كتلة متراصة، مدن تعلن عن حالها المتميز، عن موقعها وتواجدها ضمن مجتمع متزاوج وبيئة واحدة.
- هل من صورة داخل مخيلتك الهندسية ما زالت تنمو ولم تخرج الى الواقع بعد؟
كان لي “فولي” فكرة مجنونة، ارقتني وارهقتني كثيرا واسعدتني وابهجتني اكثر، ولدت، نمت، وخرجت الى الواقع الملموس والمحسوس، تَمتعتُ في مناسكها لفترة قصيرة جدا جدا. فقدتها ثانية. واصبحت في المخيلة، ذكرى، انه المكعب “ اطلقت عليه هذا الاسم احدى المؤسسات المعنية بالعمارة” المكعب هو دار سكني في بغداد “ التكية”، الجالس على دجلة، انه في بيئة طفولتي، قريب من ضريح الناسك» بشر الحافي « الذي انا معجب بسيرته. في المكعب شطحات مؤسِسة للشخصية والمسلك، دار أعِدتُ فيه ذكرى الترعرع بصيغة معاصرة جدا، محاكاة فيها تجلي صوفي، وصفوه النقاد بانه محاولة في “ما بعد حداثة” بغداد، فقدته كما يبدو الى مدى عمري الفاني، قريبا سيبقى كاالاطلال، بدون من يقف عليه ويبكي.

- الفنان معاذ الالوسي متى يرسم؟ ومتى يتلاشى مع الابعاد؟.
في العمارة عملية التصميم تولد وفي كثير من الاوقات يتولد نوع من التشنج الفكري، لكثرة المعوقات والمحددات، كعدم استيعاب العميل نفسه لمعوقات مطالبه، والذي لا يمكننا تجاهله، فهو الشخص المعني والمتلقي. او تحديدات انظمة البلدية، وحتى معوقات الموقع والبيئة. تشنج ذو شحنات سلبة يستوجب تفريغها، وتصبح الحاجة ماسة للجوء إلى أي أنواع المهدئات أو مفرغات التوتر، لذا في كثير من الاوقات التجيء خلال عملية التصميم الى الموسيقي وبانواعها.عند قصور هذا النوع من العلاج، التجيء الى علاج جذري، وهو ترك العملية برمتها ومحاولة تفريغ الشحنات السالبة المنغصة. عندئذ انتقل الى باب اخر من ابواب صنعة الجمال، الرسم والتصوير والكتابة. والعميل المتلقي هنا غير معرٌف، لا معوقات ولا انظمة بلدية، حرية مطلقة في التعبير عن الكوامن. وتفريغ ما هو سالب منغص. الى ذاك اليوم الالتجاء كان نوع من البطر المختار، الى ان أُغتصبت مدينتي، بغدادي التي ترعرعت فيها، المدينة الرَحم تحرق وتهان، حينذاك اتخذ الفن منحى آخر وابعاد اخرى، منحى الاحتجاج والحزن. صراخ بالالوان، ونبرة غضب بالفورم، والعملية هذه مستمرة لان الهدم والمحق لاصالة مدينتي مستمر. احتجاج اعبر فيه عن غضبي وحزني واستهجاني وتحديي للحدث، هذا هو سلاحي في تحد الجهل، هي مشابه لصرخة الرسام النرويجي ادوارد مونش.
- بمن تأثرت في الحياة بشكل عام؟ ولمن تقرأ؟ وما هو الكتاب الذي تبحث عنه باستمرار؟
تأثرت بمعلين اكفاء في جميع مراحل دراستي، ان كان في الاعظمية او في انقرة او في لندن، تاثرت بزملاء العمل في فرانكفورت وبغداد وبيروت واثينا، كل بقدر ما له من تاثيرات اعتبرتها حميدة، بالطبع والديَ ارضعوني كثير من القيم التي احمله اليوم، منه احترام الغير والقناعة والحنو على الضعيف والمحتاج، من الوالد تعلمت الرسم، ومن الوالدة تعلمت الحشمة.ومن اهل رفيقتي الالمانية تعلمت الانضباط والدقة وحب العمل.الوالدين كانا جليسي الكتاب، أورثوني جشع القراءة وحب الكتاب، في الجزيرة منفردا متوحدا في اكثر الاوقات مع الكتاب. يلازمن على الدوام اكثر من كتاب، وحسب المكان. في المحترف الجاثم على شطِ بحر الابيض” الهوى”، الآن اقرا كتاب “حرير وحديد” للاستاذ فواز طرابلسي، لغة شفافة واسلوب معاصر في سرد التاريخ المقارن. في مكتبة البيت اقرأ الان كتاب “خرافات الحشاشين واساطير الاسماعيلية” للكاتب الايراني فرهاد دفتري، كتاب يعيدنا لقرابة الالف سنة، يبين كيف التاريخ يعيد نفسه، رجعيتنا وتخلفنا مستمرة الى اليوم. تصوري في منتصف القرن الحادي عشر هناك جماعة” النصرة” تحارب النزاريين “ فخذ اسماعيلي ممتد من سوريا حتى آلموت مدينة شيخ الجبل وحسن الصباح وحديقة الجنة في شمال ايران. بعد الف سنة ونحن نراوح في محلنا. الكتاب الذي ابحث عنه، هو ذلك الذي أتعلم منه، الجديد علىّ، غير الثرثرة المكررة.

-ماذا تعني لك هذه المفردات؟ المساحة الضيقة؟
المساحة تضيق ليس بابعادها وقياسها، وانما في كثير من الاحيان الضيق ناتج في المجال المتوفر للحركة داخلها. من هنا يضيق الوطن بابناءه عندما يحرموا من الحركة في ربوعه الواسعة، من ممارسة حقوقهم الاساسية داخله، فينشدوا التحرر، في التغرب في مساحة غير ضيقة، ليست بالضرورة واسعة. ليماسول اصغر من حي صغير في بغداد اليوم. مجال الحركة فيه شاسع يكفيني وبالزيادة، بالتاكيد اوسع من مساحة بغداد اليوم.

- الخيال
في العراقي الدارج، نقول خياله، اي ظله، ظلي اتركه لا أستسيغه، فهو لا يشبهني. انما التخيل خيال اليقظة جميل، تخيل حوادث وقعت، تكرارها اجترارها مفيد في التغرب، يلهم ويذكر، ينبش الماضي الجميل ولولا التخيل لما ابدع البشر، تنفيذ المُتَخيَل هو ابداع بعينه.
-الارض
الارض مسكينة، تصوري الارض كم ثمينة، وحيدة في مجموعتنا الكونية، اي جوهرة هذه؟ بدل الحفاظ عليها، والخوف عليها، نضطهدها، نغتصبها، بل مصرون على تكرار اغتصابها، نلوثها، ونطمرها بالنفايات، نصحّرها، لم نكتف، خرجنا لتلويث فضائها القريب منها، سنعاقب يوما على افعالنا هذه، بالحرمان من خيراتها وبالتالي الفناء. عقل الانسان ملوث لذا هو يلوث.
- المكان
المكان عرفه الجرجاني بانه “ السطح االباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم الحاوي”.هذا التعريف يكاد يكون شاملا. هو ذو جوهر طبيعي فيزيائي لانه ياخذ شكل الجسم الحاوي له، اذن هو البطانة، لذا له معان اخر تضاف الى معان ابعاده الهندسية قد يكون ملموس في العمارة والنحت، او يكون وهميا له ابعاد اخرى كما في الشعر والكتابة والخطابة. منها التزمت بالتعامل مع الحجوم وتداخلاتها ان كانت في العمارة على هيئة احياز، او في الفنون على هيئة اشكال والوان
- التصميم
مهنتي هذه، التصميم هو صياغة الجميل، الاكتفاء بعينه، انتاج ما يبهج ويسعد الغير، فتصوري اذا كان يبهج الغير، مقدار بهجتي واكتفائي الشخصي، معاناة حلوة، الانسان يتعود على ممارسة ومصاحبة الحلو، سعادة طاغية. محظوظ من له القابلية على ممارسة هذه العملية. قد تنقلب جحيم عن اصابة عوق في العملية هذه، جحيم يؤرق، وكوابيس تيه، فيها تشنج وحزن، الا ان ياتي الفرج والفرح، بالرضى تذوق الحُسن. اعيش اليوم وبهجة ولذة عملية تصميم المكعب دار العمر لا زالت في طغيانها على حيز كبير من التذكر، لازالت تبهجني وتسعدني، ومحط الافتخار، بيني وبين نفسي، محظوظ واتتني فرصة كهذه. هذه الممارسة ادمان، المصمم المأخوذ بالكامل لا يرى غير الجمال، يراه في كل شيء، القبح لا وجود في قاموسي، بالنسبة لي القبح في العمل فقط، كضرب طفل، او نهر فقير محتاج، او اغتصاب مدينة او إضطهاد او اعدام نفس.