من مظاهر الحياة الاجتماعية في العراق.. مشاهدات (فريا ستارك) وانطباعاتها

Sunday 29th of January 2017 06:08:21 PM ,

ذاكرة عراقية ,

ابتسام حمود الحربي
حاولت الرحالة الانكليزية فريا ستارك جعل النساء العراقيات اكثر معرفة بانفسهن واكثر ادراكا للرجال، الذين جعلوا التشريعات اكثر فوضى، كما تظن، ولكنها دعت الى تعليم اكثر للنساء بحيث يستطعن احتلال مكانهن اللائق في المجتمع. وعلى الرغم من عزلة النساء الشرقيات فان ذلك لم يعوقهن ابدا. عندما بدأ عالم جديد للانتشار قرب شواطئ الجليل،

فأنهن قمنّ بدورهن على احسن وجه، وفي مكة كانت الارملة الثرية (خديجة) اول من تبع عقيدة محمد.

تعليم الإناث في العراق
ارادت فريا ستارك تحسين لغتها العربية بالذهاب الى مدرسة عراقية حكومية للبنات، وهو مكان مغلق بأسوار عالية في الحيدر خانة في بغداد، اعتادت الذهاب اليه سيرا على الاقدام على طول الطريق الضيق الذي يطل على نهر دجلة عبر الاسواق المظلمة للضفة الغربية على طول الشارع، ودخلت الازقة الملتوية وسارت مع فتيات يرتدين السواد، والجميع مسرع بنفس الطريق لا يميز الفرد بينهن الا بعد عبورهن حارس البوابة ذو اللحية البيضاء،اذ يرفعن براقعهن فتظهر الوجوه المبتسمة لزميلاتها، وكان عدد التلميذات في المدرسة خمسمائة تلميذة، يدرسن صباحا. قسم منهن يسكن في القسم الداخلي واعمارهن تتراوح بين الخامسة والثلاثين عاما وكانت غالبيتهن مسلمات مع القليل من المسيحيات واليهوديات، اما المعلمات فكن سوريات او عراقيات وكانت مديرة المدرسة سورية الاصل، والتعليم سطحيا بسبب ان اغلبهن غير مدركات للمستويات العلمية للطالبات.
كان التعليم في العراق، مثل التعليم في الاراضي العربية، يبلور ثقافة خاصة ولدت في الغرب، اذ اختلط الجانب العربي الاسلامي بالجانب الغربي في التعليم، هذا التمازج بين الشرق والغرب لم يكن جديدا في تاريخ العراق، اذ ان كُتابْ المأمون ترجموا المخطوطات اليونانية قبل الف سنة مضت، مما يوضح هذا التحيز الكبير لفريا ستارك لثقافة الغرب ومقارنتها بالاسلام.
اصبحت فريا ستارك في الصف الثالث، وكان يضم ستة وعشرين فتاة شابة اندفعن الى فريا ستارك لاعارتها كتبهن واقلامهن واوراقهن، وقمن بمساعدتها والاستماع اليها عندما تقرأ بصورة بطيئة، وكانت اعمارهن تتراوح بين (12-25) سنة، وكن يدرسن في الساعة الاولى قواعد اللغة العربية والقراءة وتخصيص (3-4) دروس كل يوم.
لاحظت ستارك معاناة الطالبات بسبب اعمارهن الكبيرة وعدم قدرتهن على التعلم السريع، مما كان يشعرهن بالحزن، وخصصت فريا ستارك وقتا لدراسة التاريخ، وكانت مسرورة لدراسة (التاريخ الاسلامي) الذي تناول حياة الخلفاء الراشدين، واجتازت الامتحان بنجاح، فانتقلت بعدها الى الصف الرابع. وبعد بضع سنوات، ولادراك فريا ستارك لواقع التعليم في العراق، بذلت جهودها لتحسين التعليم، وخاصة تعليم الاناث الذي شبهته بمد البحر، فالفتيات الشابات يلعبن في رغوته بين الحطام والانقاض التي تتداور في حلبة صغيرة من الامواج، وتزيلها بعيدا.
تعرفت ستارك على واقع هذا التعليم وماضيه بصورة جلية من خلال رسالة وصلتها من احدى صديقاتها العربيات المسيحيات (لم تذكر اسمها)، التي سبق لها ان تعلمت في الهند واصبحت مديرة، لاحدى مدارس البنات في العراق عام 1922، وكتبت لها بعد عودتها من الهند ووصولها الى بغداد، فذكرت في رسالتها: " ان بغداد كان فيها مدرسة بنات حكومية واحدة مسجل فيها اكثر من مئة مسلمة ويهودية ومسيحية، لكن الغالبية مسلمات، وكان موقف المعلمة حرجاً، مقارنة بالمعلمات المسيحيات من البعثات الامريكية والفرنسية، اذ كان تعليمهن اكثر تطورا مقارنة مع زميلاتهن المسلمات والاتراك والعرب والزنوج، اذ كانت المسلمات التركيات بارعات في اعمال الابرة والزنجيات في تلاوة القران".
وقد توسع الطاقم لمجاراة الزيادة السريعة في تسجيل الطالبات، واصبح ذلك يشكل مشكلة خطيرة مما ادى الى قبول بعض التركيات الباقيات من النظام القديم، وبعض النساء العربيات الصغيرات اللواتي قدمن لوظائف التدريس، وكانت مؤهلاتهن لا تتعدى معرفة تلاوة القران واعمال الابرة والعربية غير الصحيحة، ومسائل حسابية بسيطة كالجمع والطرح، تجنبا للزخم الفائض جدا من الطالبات، وكان ذلك محزناً جدا، فقد كان هناك اطفال اذكياء جدا يدرسون على يد هؤلاء المعلمين، وظهرت برامج تعليم جيدة، لكنها اقتصرت على مدارس الذكور فقط، اذ كان المسؤولون عن التعليم من المحافظين تماما. فتذكر صديقة فريا ستارك أن وزير المعارف في ذلك الوقت قال لها: "علموا بناتنا القرآن الكريم والطبخ وغير ذلك من واجبات المراة في البيت"، واستمر هذا الوزير في الوزارة لعدة اسابيع فقط، وبقيت الوزارة تعاني من نقص حاد في المعلمين الكفوئين، مع استياء خفي من المسلمين نحو الكادر المسيحي المؤهل، وذكرت صديقة ستارك ان واجبها كان صعبا، وكانت تأمل القليل من المستشار الايرلندي لوزارة المعارف في ذلك الوقت الذي لم يكن مهتما بتعليم الاناث، على العكس من الانسة غرترود بيل التي لخصت موقفها بهذه الكلمات: " ان هذا عمل رائع واعملي ما تستطيعين عمله ولا تاخذي بكلام الوزراء بصورة حدية جدا، كانت هذه نصيحة غرترود بيل الى مديرة احدى مدارس البنات وهي صديقة فريا ستارك"، لذا عملت بنصيحتها وقدمت برنامج قراءة للمعلمين، ولبت حضورهم، وتم اختيار الاذكى من بين البنات الاكبر سنا واللواتي اظهرن الرغبة في مهنة التعليم، وتم حصرهن في صف، كانت تلك هي الخطوة الاولى نحو دار المعلمات، بعدها " تم فتح مدارس جديدة في اجزاء متعددة من المدينة.
وفي الوقت نفسه كانت وزارة المعارف قد اصبحت اول وزارة هيئتها التنفيذية عراقية منذ العام 1923، لذا تضاعف عدد المدارس الحكومية الابتدائية والمتوسطة،وفتحت دور للمعلمين، والمعلمات لاعداد الطواقم التعليمة للمدارس التي افتتحت بمختلف مدن العراق. فعندما زارت فريا ستارك العراق عام 1929 كان هناك مدارس متوسطة، اذ ان المعلمين يصلون من أي مكان ممكن وجودهم فيه من مصر وفلسطين وسوريا. وفي زيارة فريا ستارك الثالثة للعراق عام1941 كان هناك مدارس ثانوية، وليس هناك مدينة من أي حجم ليس فيها مدرسة متوسطة للبنات، والعديد من القرى فيها مدارس ابتدائية، وان المعلمين يتم تدريبهم في بغداد، ومن ثم يرسلون الى المدن ومن المدن الى القرى.

الفلاحون في العراق
في بداية الربيع، وقبل ظهور البراعم على الاشجار فان نوعاً من الشفافية المضيئة تغلف المدن البعيدة عن بغداد، ويملأ حدائقها هديل الحمام، وان الاراضي التي تبدو ميتة قبل الربيع يملؤها الفلاحون الجالسون القرفصاء على حافات القنوات لاخراج جذور البنجر والخس، وهم اناس متحفظون لايندمجون في صداقات مثل الفلاحين في فرنسا وايطاليا، كما انهم مشغولون بكدحهم القديم الازلي، بحيث لا يلتفتون للنظر الى أي غريب وهو يمر، ونساؤهم مرتديات السواد مثل البدويات، مع فيروزة صغيرة على احد جانبي الانف والحجول في اقدامهن، وهن يحملن الحاصل الى السوق على رؤوسهن اذا كانت المسافة قصيرة، اما اذا كانت طويلة فيحملنها معلقة على طرفي حمار، واذا تم التحدث الى الفلاحين فانهم يفيقون من حلم أشغالهم ويجيبون باسلوب ودي بشكل كاف، يجيبون عن كل شيء عدا الطقس، لان تقواهم لا تسمح لهم بالتنبؤ به حتى وان هددهم الفيضان، لانهم متزمتين بالدين، وليس لهم استقلال ذاتي كالبدو.
وفي احد الايام دعيت فريا ستارك من قبل احد اصدقائها، وهو ايفان جست Evan Gust الذي كان يدير مزرعة في الرستمية على ضفاف نهر ديالي، لمشاهدة الفلاحين المحتفلين بوليمتهم السنوية حول النار المشتعلة،وكان ذلك في الايام الاخيرة من شهر رمضان، وعند وصولهما شاهداً حشداً من الفلاحين قد تجمع في انوار الغسق الاولية، وان تحضيرات كبيرة تجري للطبخ في الجزء النسوي في اكواخ القرية، وكان الجزء الحيوي في المنظر كله الزاوية اليمني بجانب الجامع، حيث تجمع الاولاد الصغار تحت امرة الملا.
ان الجامع صغير ومليء بالحصران المفروشة فوق الارض، وهو مكان الوليمة التي امتازت بالصواني الكبيرة المحمولة على الاكتاف مع اكوام الرز الساخن، وقد جلس حول كل صينية على شكل دائرة مجموعة من الاشخاص الذين خصصت لهم، وحل الصمت عندما بدأ تناول الطعام. في هذه الاثناء راود فريا ستارك سؤال مفاده: لماذا نصف العرب يموتون بسبب سوء الهضم، ففي رمشة عين فرغت تلك الأواني الكبيرة من الطعام، وحل محلها

البرتقال.
خرجت فريا ستارك وايفان الى ساحة الجامع، و شاهدت النسوة يأكلن ما تبقى من الوليمة، اذ لايوجد لهن جزء رسمي، بعدها تم اشعال النار التي كانت فريا ستارك تعشقها لانها تذكرها بأيام طفولتها عندما كانت تذهب مع اختها فيرا الى دارتمور بعد العشاء للرقص حول النار المشتعلة، واصطف الرجال الشباب حول ألسنة اللهب المرتفعة بارتفاع الشجرة التي اعطت خشبها، وبدأ الشباب يغنون ويرقصون ويلوحون بالسيوف، واخرج الافندية مسدساتهم وأطلقوا عيارات نارية في السماء، وبدأ الاستعراض لرقصة حرب. ومع هدوء النار في رمادها وقرع الطبول، تركت فريا ستارك وايفان الوليمة حيث وجدوا طريقهما بعيدا.

الأفندي الشاب:
لعل مصطلح (الافندي) و (الافندية) هو الاكثر رواجا وشيوعا في العراق، اكثر من أي مكان اخر من اصقاع الدولة العثمانية، وبقي استعماله شائعا على امتداد القرن العشرين بشكل رسمي او اجتماعي، وتبرز صورة الافندي من خلال الخلفية التي انطلق منها كأن يكون متخرجاً من مدرسة او كلية، ويدرب ليكون مختصا وخبيرا بالطريقة الغربية التي تقولبه وترسم له تاريخ المستقبل لعالمه مهما تكون البيئة التي جاء منها، كأنْ تكون خيام الصحراء او من القرى، او من رجال الصنعة في المدن، او من امم يحكمها طراز قديم متمثلة بالباشا الذي يجب ان لا يعترضه احد لأنه اكثر بيروقراطية من الطبقة الوسطى التي جاء منها الافندي او الافندية، وهم جموع الشباب الذين أكملوا دراستهم ويمثلون المستقبل. وان كل افندي شاب يهتم بشؤون وقضايا بلده، ويكره السياسيين القدماء كراهية شديدة، مما ولد عقدة نقص لديه، وهذا خطأ كبير جدا لانه يستطيع ليس بانكار الاشياء، ولكن بواسطة وضعها في اماكنها الصحيحة، ذلك ان الافندي الشاب ربما يجد ثقة اكثر امناً واقل تعجرفاً، انه لا يقوم كقاعدة بتحديد الخلل الحقيقي في الجدال المعارض.
ان الاداري الاوربي، والذي ليس له تحيزيه خاصة نحو القديم فسوف يزيل شارعا لان له واحداً افضل لان يضعه مكانه، بينما الافندي الشاب سوف يزيله لمجرد كونه قديم، وان النتيجتين ليستا متشابهتين تماما.
وهكذا حددت فريا ستارك البدايات المبكرة للصراع بين الافكار الاقطاعية وافكار الطبقة المتوسطة الجديدة، وطبيعة نظرة احداهما للآخرى. ويتضح ان فريا ستارك استطاعت ان تتغلغل في المجتمع العربي بحضره وبدوه، شماله وجنوبه، بشرقه وغربه، واحتكت وتأثرت بفئات واسعة من الشعب العراقي، وقدمت انطباعات عنهم بصور متعددة، قد تكون قاسية في احيان معينة، ومعتدلة في احيان اخرى، وموضوعية في احيان كثيرة. مع ذلك، فاننا لا يمكن ان نهمل الخلفية الاجتماعية والفكرية لفريا ستارك وطبيعة نشأتها ورؤيتها الاوربية البعيدة بدرجات واسعة عن رؤية المجتمع العراقي بفئاته المتعددة من ناحية التطور الحضاري والثقافي. ومهما يكن، فان ما تركته ستارك من اراء وانطباعات ومعلومات وصفية
يعد مصدراً مهماً لفهم الجوانب السيكولوجية والثقافية والفكرية للمجتمع العراقي في العهد الملكي، ويمكن ان تقدم مادة تفصيلية مهمة عن تاريخ العراق الاجتماعي في تلك المرحلة التاريخية.

البصرة
هي بوابة الجزيرة العربية، غنية ومغامرة وسهلة التعامل، محاطة بحزام من البساتين لثلاثة اميال تحت اشجار النخيل، تحوي على قصور تجارها المحاطة بالمتسلقات المزهرة المظللة بالنخيل. وتعيش البصرة على النهر، لما يذهب المرء شمالا فان ارض البصرة لاتغيب عن الماء، فهي تقع في قلب الماء وان الطريق الترابي المليء بالاخاديد للفيضانات السابقة في الربيع محاط بالدور المبنية من الطابوق المفخور كالقلاع او المعابد، وان النهر العريض يمتد على اتساع الارض ويقود المرء الى القرنة، ومن هناك الى المدينة الصغيرة لقلعة صالح على دجلة، مع الاهوار خلفها التي اشتهرت بزراعة الرز، مما جعل الجنوب يجني ثروة من هذه الزراعة، لذا بدأ الناس ببناء دور من الحجر في الاراضي التي لا يغمرها الفيضان، مع الاحتفاظ بقاعات الضيوف المعمولة من القصب والالواح التي يمكن تحريكها، مع المياه المندفعة كتلك التي يعيش فيها رجال العشيرة في مجموعات مع ابواب كبيرة مفتوحة.
وتبلغ مساحة الاهوار حوالي (ثلاثين الى اربعين ميلا مربعاً)، واكثر من مئة ميل عرضاً على طول حدود ايران (واكثر من مائة ميل) طولا من الشمال الى الجنوب، ريف ساحر لا يشبه شيئاً اخر في العالم، وينمو القصب في المياه العميقة الصافية بحوالي اربعين قدماً ارتفاعاً، وان رجال عربات القارب يثنون البردي على شكل منصة من اجل معسكرهم الليلي، ويشعلون فوقها، وقارب الكاتو على شكل رقبة الوزة ينساب مع الماء في ضوء الشمس باديا كأنه ظلال حورية تمر بشكل خطوط متقطعة في قلب البردي عبر السكون وطنين الذباب والبعوض غير المسبب للملاريا، وصوت القصب منحنيا ومغنيا ومغلقا مثل شخص يندفع خلال النباتات، وهي كالسجن بالنسبة لأولئك الذين لا يعرفون دروبها .
ويكمن سحر الاهوار في وحدتها وانعزالها، ويعيش السكان هنا على الجزر بضع ياردات فوق الماء، وان الابقار الصغيرة تؤخذ في قوارب سوداء من والى أماكنها. وتمتد الاهوار على طول المواصلات المتوسطة لنهر الفرات الى مدن الناصرية والسماوة والديوانية، حيث يشتهر الناس بالثورة او الاضطراب، وحسب اعتقاد فريا ستارك يعود ذلك الى ان دورهم ومحاصيلهم تغرق بسبب فيضان الفرات، ولا يوجد شخص مسؤول في الدولة قادر لعمل الكثير حول ذلك، انهم رموا بحظهم مع الوصي في احداث 1941، حيث جاء رئيس عشيرة لهذه المنطقة في سنة 1943الى البريطانيين مع تذكارات ذهبية عددها مئة قطعة حملها في يده وقدمها هدية الى رجال الجيش الثامن الذي قال عنهم بانهم استطاعوا ان يهزموا جيش رومل على طول ساحل ايطاليا، وقال الشيخ ان اعمالهم لا تساوي اقل من الذهب.

عن رسالة (فريا ستارك واثرها السياسي والاجتماعي)