القصة المثيرة...مولد الجامعة العربية ونشأتها

Monday 27th of March 2017 04:49:43 PM ,

كان زمان ,

"محادثات الوحدة العربية".. بهذه العبارة وضعت الاتصالات الأولى والمشاورات التمهيدية التي جرت بين قادة البلدان العربية وزعمائها، في سنة 1943، لتوثيق العلاقات وتعزيز الروابط بين هذه البلدان.
فالوحدة العربية كانت، قبل ذلك، الوقت، ومنذ انتهاء الحرب العظمى في سنة 1918، فكرة تجول في الاذهان، تحولت بسرعة الى أمنية عند البعض، والى عقيدة عند البعض الآخر.

كفكرة أولا، وكأمنية وعقيدة ثانياً، كانت "الوحدة العربية" إذن مسيطرة على العقول، المشاعر.. ولكنها لم تكن واضحة المعالم، بل تفتقر الى تبادل الرأي في محادثات صريحة.
في خلال عشرين سنة او اكثر، بين الحرب التي بدأت في عام 1914، والحرب التي بدأت في عام 1939، ظل نطاق الجدل يتسع حول "الوحدة العربية" ولكن بدون تنسيق وبدون تركيز، الى ان ظهرت في الحرب العالمية الاخيرة عوامل وعناصر جديدة، كان لها أثرها في تهيئة الجو العربي لتطور حاسم في معالجة الفكرة والتمهيد لتحقيق الأمنية وارضاء العقيدة.

في الحرب العالمية!
أهم تلك العوامل والعناصر التي تجمعت خلال الحرب العالمية، هزيمة فرنسا في عام 1940، وثورة العراق على بريطانيا في عام 1941، وزحف الالمان والايطاليين على مصر من تونس وليبيا، وثورة اللبنانيين على فرنسا في عام 1943، وخوف الانجليز من ان يفلت منهم الشرق العربي كله وينهار فيه نفوذهم امام خطر المحور، وغير ذلك مما قلب الاوضاع في هذا الشرق رأسا على عقب، وحمل الانجليز على ان يغيروا خطتهم ويعدلوا سياستهم، محاولين ان يكتسبوا عطف الشعوب العربية، بالتظاهر الكاذب القائم على اثرياء، والادعاء بانهم يؤيدون توحيد البلاد العربية في كتلة قوية متماسكة، وهم الذين كانوا من قبل يعارضون هذه الفكرة، لخوفهم من ان يشكل قيام مثل تلك الكتلة قوة تهدد طريق الهند وتعرقل المواصلات الإمبراطورية وتسيطر على منابع البترول!
بالتودد، والمسايرة، حاول الانجليز ان يأمنوا عداء العرب، ويجعلوا من الخصم المرتقب صديقا وحليفا، وكانوا يبسطون حكمهم، او حمايتهم، او نفوذهم على العراق والكويت وخليج العرب "وشرق الاردن" وفلسطين – حيث انزلوا اليهود تنفيذا لوعد بلفور. وكانوا يحتلون مصر والسودان، ويتطلعون الى سوريا ولبنان حيث اوشك الزمام ان يفلت من الفرنسيين المنتدبين، بعد هزيمة دولتهم امام الجيوش الالمانية.
في تلك الظروف حملت موجات الأثير من لندن تصريحا لوزير خارجية بريطانيا العظمى، انطوني ايدن، صدق العرب فحواه وخدعوا به. ثم تبعه تصريح اخر، من الوزير نفسه، تمت به اللعبة التي ظن الانجليز انهم بها قد وضعوا الشرق العربي كله في جيبهم، وان نفوذهم بفضل تلك اللعبة سيبقى، وحكمهم بالاستناد اليها سيدوم!

تصريحان بريطانيان!
في 29 مايو – أيار سنة 1941، قال انطوني ايدن وزير خارجية بريطانيا العظمى في تصريح له ملخصه:
" ان العالم العربي يخطو خطوات واسعة في طريق الرقي، وقد اعرب كثيرون من مفكرين عن رغبتهم في ان تحقق الشعوب العربية وحدة اعظم من التي تجمعها الان، وهم يرجون ان تساعدهم بريطانيا العظمى في تحقيق هذه الامنية، وحكومة جلالة الملك لا يسعها الا ان تعلن تأييدها لهذه الرغبة. وتساعد اصدقاءنا لتنفيذ ذلك المشروع متى اتضح لها ان الرأي العام العربي بقوة ويريده!".
وفي 24 فبراير – شباط 1943، جاء التصريح الثاني، فقد وجه في مجلس العموم البريطاني سؤال الى وزير الخارجية عن رأي الحكومة البريطانية في إنشاء اتحاد او حلف عربي في الشرق الأدنى، فقال انطوني ايدن ما ملخصه:
"ان حكومة صاحب الجلالة، كما قلت من قبل، تنظر بعين العطف الى كل حركة ترمي الى تعزيز الوحدة الاقتصادية والثقافية والسياسية بين العرب، ولكن لا بد ان تأتي المبادرة من جانب العرب انفسهم، وفي وسعي ان اؤكد، على كل حال، انه، حتى هذه الساعة، لا يوجد مشروع معين يمكن ان ينال موافقة جميع الجهات التي يعنيها الامر! "
ولم يكن هناك في الواقع مشروع واضح المعالم، من وضع جهة واحدة او اكثر من تلك الجهات التي اشار اليها الوزير البريطاني في تصريحه.
.. بل ان الاتصالات بين اقطاب العرب لم تكن بعد قد بدأت بصورة علنية صريحة.
وهذا ما اثر القيل والقال، مما لابد من تبريره هنا، قبل ان نواصل سرد القصة المثيرة – قصة الجامعة العربية – الى نهايتها.
لعبة انجليزية فشلت!
افسح التصريحان اللذان افاد بهما انطوني ايدن المجال للقول بان جامعة الدول العربية، التي اسفرت عنها المباحثات التي تلت التصريحين، في سنة 1945، هي من صنع الانجليز، وهذا ادعاء لا يطابق الحقيقة وان كان يبدو، من احد وجوهه متماشيا مع الواقع، فقد اعلن الانجليز تأييدهم لمساعي اقطاب العرب في سبيل انشاء كتلة عربية، لاعتقادهم بان قيام هذه الكتلة في الشرق العربي يجعل من الدول المشتركة فيها ادوات طيبة تستخدمها بريطانيا العظمى حسب اهوائها، لخدمة سياستها، والابقاء على نفوذها، اي ان الانجليز ارادوا ان يلعبوا لعبة يخدمون بها انفسهم ويخدعون العرب، فاستعملوا فكرة "الوحدة العربية" التي قلنا انها تحولت الى امنية وعقيدة، وتظاهروا بمسايرتها على امل ان يسيروها في الجهة التي يريدون.
وكانت لهم في التاريخ سوابق مع العرب من هذا القبيل، فقد شجعوا، الثورة العربية، على الدولة العثمانية في سنة 1916، ثم استقلوها لمصلحتهم، وتمكنوا من اقناع بعض المؤرخين ليكتبوا ان تلك الثورة كانت من صنع الانجليز، وهي في الواقع من صنع العرب، الذين ثاروا على الدولة العثمانية بعد اعدام احرارهم شنقا في دمشق وبيروت، وفي صيف 1916.
ولعبة الانجليز، التي كان تصريح انطوني ايدن شعارا لها، جاءت لعب فاشلة، فقد انقادت لها الجامعة العربية في بادئ الامر انقيادا جزئيا، بفعل المناورات التي قام بها صنائعهم ومحاسبوهم في العواصم العربية، ثم جعلت تفلت منهم شيئا فشيئاً، بفضل اتساع الوعي العربي في كل مكان، وتعاظم الشعور الوطني وتدفقه في تظاهرات وثورات، وبسبب تواطؤ الانجليز مع اليهود وتنكرهم للعرب في كل مناسبة، الى ان حلت بهم وتوالت عليهم الضربات القاضية، في ثورة مصر سنة 1953، وفي حرب السويس سنة 1956، وفي ثورة العراق سنة 1958، وفي غيرها من المناسبات.
بحيث ان الجامعة العربية، التي اراد الانجليز ان يلعبوا بها ويتلاعبوا بكيانها، كانت هي التي اتخذتهم دمية تلهو بها.
والجامعة العربية الان لايسيطر عليها، ولا يؤثر في سياستها، ولا يوجه خطواتها، غير الارادة العربية الخالصة، والمصلحة العربية المشتركة، والقوة العربية الصاعدة.

الاتصالات الأولى
كان ما اعلنه انطوني ايدن عن هزم بريطانيا العظمى على تأييد رغبة العرب في التكتل مفاجأة للرأي العام في البلدان العربية كلها. وقد صدقه بعض الزعماء عن حسن نية، كمصطفى النحاس رئيس الوزراء المصري، وتظاهر بعضهم بتصديقه كنوري السعيد رئيس الوزارة العراقية الذي كان على علم بمخططات السياسة البريطانية، وقابله بعضهم بامتعاض ولكن بدون التظاهر برفضه وآثار كلام ابدى موجة من التساؤل في سوريا ولبنان.
وتولى مصطفى النحاس المبادرة الى الاتصال باقطاب البلدان الشقيقة لمعرفة رأيهم وتكوين رأي خاص من ناحيته.
وتنقل الرسل بين القاهرة وبيروت ودمشق ويسرني الافصاح هنا بانني كنت واحدا منهم، واسفرت تنقلات الرسل عن ترتيب زيارة بعض الاقطاب للقاهرة، منهم الشيخ بشارة الخوري، رئيس الكتلة الدستورية في لبنان في ذلك الوقت، وجميل مردم من زعماء الكتلة الوطنية في سوريا، وبعد الاخذ والرد في القاهرة، بين مصطفى النحاس والزائرين الكبيرين وممثل حركة، فرنسا الحرة، في الشرق، عادت الحياة النيابية الى سوريا ولبنان، وتولت العناصر الوطنية الحكم فيهما، واصبح في وسع رئيس الحكومة المصرية ان يباشر البحث في موضوع التكتل العربي، او الوحدة العربية، مع اشخاص مسؤولين في البلدين الشقيقين، وكان في خلال اتصاله باثنين منهم قد تفاهم مبدئياً على ضرورة التعاون بين مصر وسوريا ولبنان الى اقصى حدود التعاون.

مباحثات الوحدة
بينما كانت الاتصالات الأولى دائرة بين القاهرة ودمشق وبيروت، باشر مصطفى النحاس التفاوض مع الدول العربية الاخرى في الشرق الادنى، على الوجه الأتي:
في 30 يونيو – حزيران 1943، بدأت المباحثات مع وفد العراق برياسة نوري السعيد رئيس الوزارة.. وكانت اطول مباحثات، فقد استغرقت ست جلسات، كان نوري السعيد في خلالها شديد الحرص على ان يفرض اراءه ونظرياته في الشؤون العربية، وهي الاراء التي بسط السياسي العراقي الماكر معظمها في "الكتاب الازرق" الذي اصدره في اوائل الحرب، وانتهت المحادثات بالاتفاق بين الوفدين المصري والعراقي على خطوط رئيسية كانت اساسا للمباحثات التالية، ومثارا لمعارضة شديدة من بعض المتفاوضين.
وفي 27 اغسطس – آب 1943، بدأت المباحثات مع وفد إمارة شرق الاردن برئاسة توفيق أبو الهدى، رئيس الوزارة، وكانت اقصر من المفاوضات العراقية، المصرية،اداؤها لم يستغرق اكثر من ثلاث جلسات انتهت بالاتفاق أيضا بين الجانبين على نفس الخطوط الرئيسية التي اشرنا اليها.
وفي 11 اكتوبر – تشرين الاول 1943، بدأت المباحثات مع وفد المملكة العربية السعودية برئاسة الشيخ يوسف ياسين وكيل وزارة الخارجية، وقد استغرقت اربع جلسات وكانت معقدة تخللتها الاعتراضات والتحفظات من جانب الوفد السعودي، بالنظر الى التنافس بين السعوديين والهاشميين، الذي كان على أشده في ذلك الوقت.
وفي 26 اكتوبر – تشرين الاول 1943، بدأت المباحثات مع وفد سوريا برئاسة سعد الله الجابري رئيس الوزارة، وكان الجانب السوري مندفعا في رأيه، متطرفا في نظريته، يريد ان يسابق الزمن وان يحقق التكتل العربي في اسرع ما يمكن من الوقت لكي يضع الفرنسيين المنتدبين في سوريا امام الامر الواقع، وانتهت المباحثات بكيفية مرضية بين الطرفين، واصبح تحت يد الوفد المصري الذي تولى الدعوة اليها وادارتها، مادة كافية لمواصلة البحث في مرحلته الاخيرة ونصوص صالحة لتكون مشروعا لما يشبه معاهدة تحالف وتعاون بين البلدان العربية.
وقبل ان تبدأ المباحثات مع لبنان، حدثت مفاجأة غيرت مجرى الحوادث، واجلت مواصلة البحث، فقد اعلن رئيس الحكومة اللبنانية في 11 تشرين الثاني – نوفمبر 1943 الغاء الانتداب الفرنسي واعتبار لبنان دولة مستقلة، فاقدمت السلطات الفرنسية في بيروت على عمل طائش. فاعتقلت رئيس الجمهورية بشارة الخوري، ورئيس الوزارة رياض الصلح وبعض الوزراء، والنواب، ونشبت في البلاد ثورة اسفرت بعد عشرة ايام فقط عن نتيجة كانت ايضا مفاجأة غير منتظرة، فقد افرج عن المعتقلين، واعترفت فرنسا بحق لبنان في تقرير المصير، واعتبر يوم 22 نوفمبر، تشرين الثاني عيدا وطنيا – وتأثر الوضع كله في الشرق الادنى بذلك الحادث التاريخي، الذي سهل المهمة التي اخذتها الحكومة المصرية على عاتقها، في انجاز ما كان لا يزال يوصف بانه مباحثات الوحدة العربية!".
وفي 2 يناير – كانون الثاني بدأت المباحثات مع الوفد اللبناني برئاسة رياض الصلح رئيس الوزارة واستغرقت ثلاث جلسات فقط، وقد تجلى فيها الخلاف في الرأي، بين الوفد اللبناني والوفد السوري، في بعض الامور الثانوية، ولكن رئيس الوزارة اللبنانية وعد بانه سيتصل بزميله رئيس الوزارة السورية ليتفاهم معه مباشرة على تلك الأمور.
واخيرا، تباحث الوفد المصري في 9 فبراير – شباط 1944 مع وفد يمني برئاسة الشيخ حسين الكبسي واستغرقت المباحثات جلستين، واتضح منها ان الإمام يحيى ملك اليمن سيعد بلاده في بادئ الأمر عضوا مستمعا لا عضوا عاملا في الهيئة المزمع إنشاؤها.
وعلى هذا، تكون المباحثات التي عرفت بمباحثات الوحدة العربية قد امتدت على ثمانية اشهر، انصرفت بعدها الهيئة التي تكونت باسم "اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي الصيغة النهائية!! اتفقت الوفود على تنفيذه.
ولم يبق على قيد الحياة اليوم من رؤساء الوفود الذين تولوا المفاوضة باسم دولهم، غير مصطفى النحاس الذي دعا الى تلك المفاوضة، ومما يسترعي النظر ان ثلاثة منهم قتلوا وهم رياض الصلح ونوري السعيد وحسين الكبسي، وواحدا انتحر وهو توفيق ابو الهدى، واثنين فقط ماتا موتا طبيعيا، وهما سعد الله الجابري ويوسف ياسين!

بروتوكول الاسكندرية
في 25 سبتمبر – أيلول 1944، اجتمعت اللجنة التحضيرية بالإسكندرية، وبعد مناولات طويلة انتهت في 7 اكتوبر، تشرين الاول، اعلن قيام "جامعة الدول العربية" بموجب وثيقة عرفت باسم "بروتوكول الاسكندرية" او "بروتوكول قصر انطونيادس" وهو القصر الذي عقدت فيه الجلسات وأعلنت منه النتيجة.
وعلى هذا تكون المباحثات التي عرفت بمباحثات الوحدة العربية قد اسفرت عن انشاء كتلة باسم "جامعة الدول العربية" وقد وقع على الوثيقة التي قامت بموجبها الجامعة جميع اعضاء الوفود التي حضرت جلسة الاعلان.
وتنص مواد البروتوكول على ان الجامعة تضم الدول العربية المستقلة وبها نص خاص بلبنان واحترام استقلاله وحدوده. ونصر آخر خاص بفلسطين وضرورة صيانة حقوق العرب فيها.
والباقون على قيد الحياة من الذين وقعوا بروتوكول الإسكندرية هم:
نجيب الازمتازي وصبري العسلي "سوريا"، سليمان سكر، "الاردن"، ارشد العمري "العراق"، موسى مبارك "لبنان"، مصطفى النحاس ومحمد صلاح الدين "مصر".
وقد قوبل اعلان قيام الجامعة بالاسكندرية في 7 اكتوبر، تشرين الاول 1944، بارتياح شامل في البلدان العربية كلها، ورحبت الصحف بهذا الحادث وتناولته الاوساط الوطنية بالتعليق والتحليل.
المصور / آذار- 1964