طه باقر… قطعة فكرية نادرة

Wednesday 5th of April 2017 06:05:18 PM ,

عراقيون ,

عامر عبد الرزاق الزبيدي
* باحث اثاري
في تاريخ وادي الرافدين هناك شخصيات خالدة نعتز بها نقشت أسماءها في طين هذا البلد وامتزجت مع ماءه وترابه بنصوص سحرية مقدسة , ودخلت تلك القلوب وعشقتها الافئده ,ومن هذه الشخصيات الخالدة الأستاذ الكبير طه باقر الذي أصبح محط فخر لتلك الحضارة التي أنجبته، وقدرت علية مهمة اكتشافها وتنقيبها وترجمة أساطيرها،

فمنذ كان طفل صغير سار على أرض بابل أستلهم منها عبق الماضي العظيم، ونفحات ملوكها وآلهتها، فلم تغب عن ذاكرته بوابة عشتار وشارع الموكب ومعبد مردوخ والأسد الشامخ بعنفوان الحضارة.
وعندما أنهى الأستاذ طه باقر مرحلة الإعدادية بفرعها العلمي وبكل تفوق كان تسلسله الرابع على العراق في المعدل , وكان يستطيع الذهاب إلى كلية الطب لكنة لم يرى أمامه سوى الآثار وحب هذه الحضارة التي ادخرته لهذا اليوم منذ آلاف السنين ,فأوفدته وزارة المعارف إلى جامعة شيكاغو ودرس هناك الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) ومواد الآثار، والتنقيب، والتاريخ القديم , واللغات التي كتبت بالخط المسماري كالسومرية والاكدية وفروعها البابلية والآشورية.

وعندما عاد من أمريكا عام 1938 كان بأستقبالة مايقارب مائة سيارة على مشارف الحلة , وهذا يدل على المكانة العالية التي كان يتمتع بها الأستاذ طه باقر في نفوس مدينته فأستقبل استقبال الملوك بعد تتويجه وهم فرحين به.
عين في دائرة الآثار العراقية بمنصب خبير آثاري حتى عام 1941 حيث تقلد منصب أمين المتحف العراقي، وبعد قضائه بوظيفته أمين متحف مدة قدرها إحدى عشره سنه تقلد عام 1951 منصب معاون مدير الآثار العام وأستمر فيه حتى عام 1958 حيث تم تعينه في هذا العام بمنصب مفتش الآثار العام , حتى عين في نفس العام مدير الآثار العراقية وأستمر في هذا المنصب حتى عام 1963.
وقد عانى الأستاذ طه باقر كثيرا من جهل المسؤولين وعدم فهمهم للآثار وقيمتها , حيث قال الدكتور كيف إن أمين العاصمة أمر بتهديم المدرسة المرجانية (جامع مرجان) بحجة إنها تعترض مسار شارع الرشيد , ولم يسمعوا كلام الدكتور أو رأي دائرة الآثار واحتجاجها , وذكر أيضا كيف أن مجلس الوزراء قد قرر رفع الباب الشرقي على الرغم من محاولات الدكتور طه باقر لإقناع أعضاء المجلس بضرورة التريث وعدم تهديم الباب، وكان يرى الأستاذ طه باقر عدم اهتمام المسؤولين بالآثار وعدم تحسسهم لأهمية هذا الموضوع.
وقد درس مادة التاريخ القديم في كلية دار المعلمين العالية (كلية التربية حاليا) وكان هدفه بث الوعي الاثاري في العراق , وللأستاذ طه باقر يرجع الفضل الكبير في تأسيس قسم الآثار في كلية الآداب جامعة بغداد , وكان أستاذا تدريسيا بها، وحصل على لقب الأستاذية , وكان يتمتع بقوة توصيل المادة إلى طلابه لأن جميع الطلاب كانوا يحبونه ويعشقون تدريسه.
ومارس الدكتور طه باقر التنقيب في أغلب مناطق العراق وكان منقب بارع وعلى دراية وخبرة عالية باستخراج الأثر ورسمه وصيانته , وكان رئيسا للهيئات الاثارية التي نقبت في مدينة واسط , ورئيسا لبعثة تل الدير , ورئيسا لبعثة التنقيب في موقع عقرقوف , ورئيسا لبعثة تل حرمل , ورئيسا لبعثة تل الضباعي , وأشرف على التحريات الاثارية الواسعة في منطقتي دوكان وشهرزور لإنقاذ الآثار وتسجيل الأدوار التاريخية فيها على اثر إنشاء مشروعي السدين (دوكان ودربندخان).
وكان الأستاذ طه باقر لا يبخل بأي معلومة على الآثاريين وكان طيب الأخلاق وسريع الدعابة.
وعمل خارج العراق حيث عين عام 1965 بمنصب خبير فني في مصلحة الآثار الليبية وفي عام 1966 أعطي منصب مستشار الآثار الليبية , وقد درب أعداد كبيرة من الآثاريين , وقام بتصنيف المتحف الليبي , وتأسيس أوائل بعثات التنقيب هناك.
ويعد الدكتور طه باقر أستاذ جميع الآثاريين العراقيين والعرب , وقد وصفة الدكتور فاضل عبد الواحد أستاذ السومريات إذا كانت ملحمة كلكامش تبدأ بالبيت الشهير الذي يقول (هو الذي رأى كل شي) فأنا أقول ((إلى الذي عرف كل شي …إلى الأستاذ طه باقر)).
ومن أشهر مؤلفات الدكتور طه باقر ((مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة)) الذي لم يغفل أي صغيرة أو كبيرة عن تاريخ العراق القديم، وأنا أنصح كل قاري ومثقف وطالب علم الاطلاع على هذا الكتاب الزاخر بالعلم.
ومن الكتب الأخرى ((ملحمة كلكامش)) وقد قال الدكتور فوزي رشيد عندما قرأ الملحمة ((لو قدر لكلكامش أن يعود إلى الحياة في مدينة الوركاء ليوم واحد فقط فأن أول عمل يقوم به هو أنه يأمر أمهر النحاتين بعمل تمثال من الذهب إلى الدكتور طه باقر لأن ترجمة الأستاذ طه باقر لملحمته وسفرة الى وتونابشتم هي التي أعطت الخلود لكلكامش في القرن العشرين الذي كان يبحث عنة في عام ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد)).
ومن كتبه الأخرى (المرشد إلى مواطن الآثار والحضارة)، (مقدمة في أدب العراق القديم)، (موجز في تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة والحضارة العربية الإسلامية) , ((مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة الجزء الثاني (وادي النيل, اليونان, الرومان))) , (من تراثنا اللغوي القديم مايسمى في العربية بالدخيل) , ((علاقة العراق القديم وبلدان الشرق الأوسط))، ((الأدوار الحجرية في شمالي أفريقيا وليبيا))، وقام بترجمة مجموعة من الكتب المهمة ومنها ((من ألواح سومر صاموئيل كريمر)) ,((الإنسان في فجر حياته دوروثي ديفدس))، ((تاريخ العلم جورج سارتون)) , ((الرافدان سيتن لويد)).
وقد نشر بحوث عديدة في مجلة سومر والمجلات العربية الثقافية الأخرى.
فكم نحن بحاجة إليك الان يا دكتور طه باقر لترسم لنا طريق الآثار المتعثر، وتحمي آثارنا وتستعيد ما سرق وتكتب بقلمك الرشيق عن حضارتنا العظيمة، كم نحن بحاجة إلى أطياف روحك تأتينا وتحل بنا، كم نفتقدك يا غالي، وكم نتمنى أن نسير على طريقك.
وأطالب المسؤولين بإنشاء نصب تذكاري للدكتور طه باقر في ساحة المتحف الوطني أو في إحدى ساحات العاصمة الحبيبة، وأطالب وزارة التربية أن تدرس سيرة هذه الشخصية العراقية الأصيلة في المناهج التربوية بما لها من أثر فعال في نفوس أجيالنا القادمة , وأطالب الهيئة العامة للآثار وجميع الآثاريين أن يكون طه باقر المثل الأعلى لنا والشخصية التي نقتدي بها.