الكـاظــميـة في القرن التاسع عشر كما وصفها بعض الرحالة الاجانب

Sunday 16th of April 2017 06:17:14 PM ,

ذاكرة عراقية ,

ترجمة : جعفر الخياط
و على أثر النكبات المتتالية المفجعة التي حلت ببغداد سنة 1831، يوم داهمها الطاعون المبيد و أغرقها فيضان دجلة المخيف، في الوقت الذي كانت تحاصرها جيوش علي رضا باشا التي سيقت لتنحية داود باشا عن الحكم، زار بغداد قادما من أيران الرحالة الانكليزي جيمس بيلي فريزر، و كان ذلك في تشرين الثاني 1834.

و قد تسنى له أن يزور الكاظمية في يوم 17 كانون الأول فيذكر شيئا عنها في رحلته، و قد آثرنا ايراد ما ذكره عنها هنا برغم ما فيه من بعض الأغلاط التاريخية التي لا تخفى على القارئ. فهو يقول:.. و قد ركبنا في المساء الى الكاظمية، و هي قرية تقع على بعد أميال ثلاثة من شمال بغداد، حيث يوجد ضريح الأمام موسى الكاظم الذي قطع رأسه (كذا) هارون الرشيد على ما اعتقد. و كان قد حبس في جب لا يزال يرى الى يومنا هذا، و هرب منه بمعجزة على ما يقال. و يزعم آخرون ان رأسه قد قطع بأمر من الخليفة، و مع هذا يمكن ان يشاهد في بعض الأحيان حتى في هذه الأيام جالسا في مكانه القديم في الجب. و الظاهر ان هذا المزار واسع جدا، و له قبتان مطليتان بالذهب و اربع منارات رشيقة. و قد طليت القبتان من قبل نادر شاه (كذا)، الذي يبدو انه التجأ الى هذا الأسلوب في تزيين قبور الأئمة و الاولياء تكفيرا عن شناعاته. و هذا مزار عظيم يقصده الزوار المسلمون بكثرة-أي ان جميع الذين يزورون كربلا لا بد من ان يأتوا لزيارة هذا المكان أيضا. و هو مثل سائر الأماكن الشبيهة به يزدهر بما ينفقه هؤلاء الزوار فيه، و يمتلى‏ء بالمتشردين و المنبوذين الذين يلوذون بحمايته.
و لم أحاول الدخول فيه لأني قد رأيت الكفاية من مثل هذه الأشياء، و أريد ان أتحاشى اللغط الذي يثار حينما يحاول الأجانب زيارته أيضا.

فيلكس جونز في الكاظمية
و في ربيع سنة 1850 قام الكوماندر جيمس فيلكس جونز بسياحات جغرافية للمسح و الاستقصاء العلمي في المنطقة الواقعة غربي دجلة في شمال بغداد، و كتب عنها مذكرة بعنوان (تتبعات في جوار سور الميديين، و في المنطقة الواقعة على مجرى دجلة القديم، و تثبيت موقع أوييس القديمة).
فرفعت هذه المذكرة الى الحكومة البريطانية في الهند خلال شباط 1851.
و طبعت في سلسلة المختارات الجديدة من سجلات حكومة بومبي، المجلد الثالث و الأربعون لسنة 1857.
و في خلال هذه الأعمال مر جونز بالكاظمية فكتب يقول عنها:..
و بعد ان خرجنا من بغداد و اجتزنا اسوارها المتهدمة (في جانب الكرخ) سرنا في طريق لا بأس به مدة خمسين دقيقة فوصلنا الى الكاظمية. التي كانت قبابها المطلية بالذهب و منائرها الرشيقة تكون منظرا خلابا و هي ترتفع في الأفق البعيد، و تتلألأ ما بين بساتين النخيل الخاشعة من حولها.
على ان ذلك المنظر سرعان ما تبين حقيقته حينما يدنو الناظر اليه من البلدة فيجد ذلك المشهد الجميل محاطا بمجموعة متراصة من البيوت الحقيرة المتهدمة، المبنية بالطين و الطابوق المفتت. و يسكن البلدة سكانها العرب مع عدد غير يسير من الأيرانيين، و الهنود المنفيين من بلادهم لاسباب سياسية او المقيمين للعبادة و التبرك. و يزور الضريح المقدس في هذه البلدة كل سنة عدد هائل من الزوار الذين يتواردون عليه من أنحاء العالم الأسلامي كله، و حيثما يقدس الأمام علي و ذريته. و لذلك يجتمع هنا خليط عجيب غريب يجمع بين مظاهر الثراء و الأبهة و مباذل الفقر و الشحاذة، كما يجمع بين ملابس الحرير و الأسمال أو الخرق البالية. و من المحظور على النصارى و اليهود التقرب من المشهد المقدس، غير اننا استطعنا أن نشاهد ما يعجب من الأشياء، و ما يجعل المرء يأسف على عدم مشاهدة الكثير من أمثال هذا المبنى الجميل الضخم في بلاد يمكن ان يبنى فيها على طرازه.
فقد وجدنا الصحن المربع المحيط بالحضرة مزدانا بزينة الموزاييك الغنية بالقيم الفنية، و الجدران مزوقة بالآيات القرانية و الجمل الدينية المكتوبة بالأحرف العربية الجميلة. و لما كنا و نحن نمرّ بالبلدة المقدسة في عشية يوم النوروز فقد كان من الممكن للمرء أن يشاهد في كل مكان امارات الفرح و الحبور ترتسم على وجوه الناس و تمتزج بتعابير العبادة و الخشوع الظاهرة عليهم. و قد كان ذلك يبدو على شي‏ء غير يسير من الروعة حينما كانت الشمس المائلة الى المغيب ترسل أشعتها الأخيرة الباهته على المنائر و القباب المذهبة فتلوح للرائي كالنجوم المتلألئة التي تجتذب الزوار اليها من بعيد.
هذا و قد مررنا في طريقنا بأناس قادمين من كل حدب وصوب، و منتمين الى كل عنصر و عرق، فمن سكان التيبت و كشمير و الأفغان و أيران، الى المغول و العرب المواطنين. و كانوا يغذون السير-و هم-راكبين أو راجلين ليصلوا الى مبتغاهم فيستطيعوا إداء الزيارة في صباح اليوم التالي من دون تأخير. كما مررنا بآخرين كانوا قد فرشوا سجادهم أو عباءاتهم.
على قارعة للطريق، و أخذوا يؤدون الصلاة بكل نشاط و أخلاص. و قد كانوا، و هم يستقبلون القبلة للقيام بهذا الواجب الديني المفروض، تبدو في وجوههم شتى المشاعر و الأحاسيس و مختلف المخائل و السمات. و من المكن ان يقال أنه لا يوجد أي مكان آخر في العالم يجتمع فيه مثل هذا الخليط من الناس و هذا الاختلاف في المشاعر و التعبير. على ان تقاسيم وجه العربي المعبرة، اذا ما ضمت الى لباسه الجذاب وحدة نظره و استقلال شخصيته، مع سلاحه المطروح الى جانبه، لتدل كلها على مخائل عرق ممتاز متفوق حتى عندما يلاحظ في حالات الانحناء و السجود.
و بعد ان يبتعد المرء قليلا عن البلدة تبدأ منطقة التاجي التي تمتد البادية من حولها الى جنب بساتين النخيل التي لا تمتد عن ساحل النهر الى أبعد من ثلاث مئة يارده. و تأتي بعد ذلك مستنقعات عقرقوف المتكونة من فيضان الفرات الذي يبعد عنها بمسافة خمسين ميلا، و يتصل بدجلة عن طريقها. فتحاط الكاظمية و بساتينها على هذه الشاكلة بالماء من جميع الأطراف، و تصبح و كأنها جزيرة في وسط بحر متلاطم بالأمواج.

الكاظمية في رحلة نايهولت‏
و في سنة 1866-67 جاء الى العراق الرحالة الهولندي لكلاما نايهولت (نيجهولت)، و مكث في بغداد مدة من الزمن درس فيها الكثير من شؤونها و أحوال مجتمعها، فكتب رحلته القيمة التي ترجمت الى الانكليزية.
و كان مما كتبه في هذه الرحلة نبذة وجيزة عن الكاظمية آثرنا ان نوردها هنا نقلا عن الترجمة العربية التي اضطلع بها الأستاذ مير بصري. فهو يقول:.. و كانت من الزيارات الممتعة التي قمت بها زيارة الكاظمية،
و هي بلدة صغيرة أقيمت حول جامع الأمام موسى على مسافة فرسخ من بغداد. و لأجل الذهاب الى الكاظمية، نخرج من السوق الكبير الى شاطي‏ء دجلة الأيمن و نصعد عدة دقائق الى منحنى النهر حيث نطل على منظر جميل لمدينة بغداد. و بعد مسيرة نصف ساعة على الشاطي‏ء نصل الى غابة صغيرة رائعة من النخيل. و نلتقي في كل دقيقة بالعرب و العجم و الهنود، مما يضفي على الطريق حركة عظيمة. و يمتطي‏ء أكثرهم ظهور الحمير، و هذه الدواب تكرى قرب قصر أخي شاه أيران حيث يقف عدد كبير منها. و هذه الحمير من جنس ممتاز أصله من جزيرة العرب (لعله يقصد الحمير الحساوية المعروفة) و تتفوق بكل صفاتها على حمير أوربة. و هي بيضاء اللون تسير كالخيل. فاذا ما تركنا الغابة التي أشرت اليها، أدرنا ظهورنا الى دجلة و لاحت لنا في البعد قبتان ذهبيتان لجامع الأمام موسى الأكبر. و لا تمر نصف ساعة حتى نصل الى أولى منازل الكاظمية.
و الكاظمية بلدة صغيرة حسنة البناء، فيها سوق كامل التجهيز.
و الناس هنا شديدو التعصب. و قد تحملت سيلا من الشتائم لمجرد تقربي من ابواب السور الذي يحيط بالبناء الواسع الذي يقوم المسجد العظيم في داخله. و ابواب السور مغلقة بالسلاسل التي يقبلها المؤمنون باحترام عند الدخول و الخروج. و مما سمح لي برؤيته ظهر لي ان هذا الأثر المقدس يتألف من المسجد الذي تزينه منارة جميلة في كل ركن من أركانه الأربعة و من مشتملات واسعة تضم المساكن و المدارس و حجر الدرس للملالي و تلاميذهم. و يقال أن داخل المسجد جميل جدا، و لكن محاولة الدخول تؤدي مؤكدا الى القتل في الحال. و مع انني وقفت على مسافة بعيدة، فان أحد ابناء الشعب رأى ان وقوفي قد طال في رأيه فأخذ يسبني و يهددني حتى رأيت الأفضل ان انسحب. و قد عدت من هذه الزيارة بنفس الطريق الذي سلكته في الذهاب.

أصلاحات مدحت باشا في الكاظمية
و تذكر الكاظمية في المراجع الغربية بعد هذا بمناسبة البحث في اصلاحات مدحت باشا في بغداد و ما حولها. فيقول ريتشارد كوك في كتابه‏ عن بغداد ان روحية الأصلاح المتوثبة التي كانت تتجلى في مدحت باشا قد كانت السبب في إدخال أحدث المبتدعات الى المدينة، و هي فكرة أنشاء خط (الترامواي) فقد كانت شدة الازدحام في تنقل الزوار بين بغداد و الكاظمية قد جعلت تيسير وسائط نقل كافية شيئا أساسيا، فأنشأت الحكومة خط «ترامواي”يسحب بالخيول. و لم يكن المشروع ناجحا من الناحية المالية، و لذلك نقلت عهدته الى شركة محلية ظلت تديره الى يومنا هذا. و كان هذا الخط في عهد مدحت نفسه ينظر اليه باعتزاز و فخر و يعتبر من أحدث المشاريع في الشرق.
لكنه بقي منذ يومه ذاك محافظا على وضعه من دون ان يصيبه أي تحسن ففقد شهرته المذكورة و سمعته. و قد كانت فكرة كهربته تراود مخيلة الكثيرين بين حين و آخر لكنها لم يمكن ان تتبلور و توضع في موضع التطبيق.
اما لونكريك‏ فيشير الى ترامواي الكاظمية أشارة عابرة، في ضمن الأعمال و الأصلاحات التي تحققت في عهد الوالي المصلح مدحت باشا.
فهو يقول عنه أنه أكمل ما بدأ بتشييده نامق باشا من الأبنية العامة و أضاف اليها شيئا كثيرا. كما ان أصدار جريدة في أيامه و تأسيس المعامل العسكرية، و بناء مستشفى و دار للعجزه و ميتمة و عدة مدارس، و مدّ خط ترامواي الى الكاظمية كانت كلها، مع الروح التجددية التي دلت عليها، قد نورت بغداد و بعثت حياة التجدد و الأحياء فيها (انتهى قول لونكريك).
و الحقيقة ان ما اصاب الكاظمية من اصلاحات مدحت باشا لم يقتصر على مشروع الترامواي الذي انشي‏ء لتسهيل أمور الزوار. فقد أص
الجهاز الحكومي فيها أيضا بألغاء طريقة الالتزام و الأصول الاقطاعية في الحكم، و عين موظفين أداريين فيها يتناولون رواتبهم من خزينة الدولة، كما جعل الكاظمية قضاءا يديره قائمقام خاص بعد ان أضاف الى حدود البلدة الأدارية المقاطعات المجاورة. و حينما عزم ناصر الدين شاه القاجاري ملك أيران على زيارة الكاظمية و سائر العتبات المقدسة في العراق سنة 1870 قامت الحكومة بأدخال بعض التحسينات و الاصلاحات في طرق الكاظمية و مرافقها البارزة تمهيدا لهذه الزيارة السامية.
اما خط الترامواي الذي يشير اليه ريتشارد كوك و لو نكريك فقد مدت سكته الى مسافة سبع كيلومترات، وحينما وجدت الحكومة انه مشروع غير رابح يومذاك ماليا شجعت تشكيل شركة أهلية لأدارته تتكون ماليتها من ستة ألاف سهم بيعت معظمها بسرعة لأن مدحت تولى تشجيعها و تصريفها بنفسه، و كانت قيمة الحصة الواحدة مئتين و خمسين قرشا. و يقول المطلعون اليوم انه طلب الى الحاج عبد الهادي الاسترابادي، و هو من أبرز وجوه الكاظمية و تجارها في تلك الأيام، ان يبدأ بتشكيل هذه الشركة ففعل ذلك بالاشتراك مع علي چلبي و آخرين، على انه انسحب من الشركة بعد ذلك. و قد نجحت نجاحا غير يسير، حتى بلغت نسبة ارباحها 18 و 20%في بعض السنين. و استمرت في عملها هذا الى ما قبل سنوات حينما تضاءل شأنها و قلت أهميتها بشيوع استعمال السيارات الحديثة فانحلت.
و لأجل ان نعطي القارى‏ء الكريم فكرة واضحة عن هذا الترامواي، و كيفية سيره في تلك الأيام الخالية، نستشهد بما كتبته الرحالة الفرنسية المدام ديولافوا عنه حينما استقلت إحدى عرباته مع زوجها لزيارة الكاظمية سنة 1886. فهي تقول:
.. و في هذا اليوم ركبنا الترامواي ليوصلنا الى الكاظمية بفترة ربع ساعة و عشرين دقيقة على أبعد احتمال، و لكنه لم يكد يقطع نصف الطريق حتى توقف عن السير و هبط السائق من العربة و رجا منا ان نترك الترامواي.و سألت عن سبب هذا التوقف فقيل لي أن أرض منعطف الطريق الضيق الذي بلغناه قد خسفت، و اذا كان لا بد من ان يتابع الترامواي سيره فلا محالة أنه سيسقط.. و لقد وضعوا هنا عددا من الحمالين لدفع حافلة الترامواي و نقلها الى الجهة الأخرى بعد ان يتركها الركاب. و هذه العملية تتم في دقائق ثقيلة و بجهد جهيد يبذله اولئك المساكين.
و بعد ان عادت المدام ديولافوا من زيارتها للكاظمية بالترامواي نفسه نجدها تقول: و بعد مدة من الانتظار تحرك الترامواي ينهب الأرض نهبا، و لما كانت هذه آخر مرة يقود السائق فيها العربة في هذا اليوم أخذ يلهب ظهر الجياد بالسوط بقساوة و ضراوة ليزيد من سرعتها فيصل الى منزله في أقرب فرصة من دون ان يفكر بعواقب عمله المخطر لا سيما و الحافلة كانت مكتظة بالركاب الذين كانوا من طبقات مختلفة و أديان شتى، و كانوا كالسمك الطري الذي يوضع في الأناء لشيه، يرتفعون و يهبطون وفقا لسير الحافلة و اهتزازها.. و قد زاد السائق من الهاب ظهر الجياد بسوطه، و كانت سرعة الحافلة تزيد بنسبة ذلك، و لم يعمل على تخفيف السرعة حتى عند وصولنا الى الطرق و الأزقة الضيقة التي كانت حركة مرور الناس فيها على أشدها. و مررنا في أحد الأزقة الضيقة تلك بعدد من الحمير التي كانت تحمل السمك.. فذعرت الحمير من الترامواي و رمت أحمالها على الأرض و أخذ أصحابها يسبون و يلعنون السائق.. و الواقع ان ذلك كان مشهدا تمثيليا رائعا.

عن (موسوعة العتبات المقدسة ــ قسم الكاظمية).