حول كتاب رأس المال..هل كان ماركس على حق؟

Tuesday 2nd of May 2017 06:29:42 PM ,

منارات ,

سعد محمد رحيم
\"لماذا كان ماركس على حق؟\"، كتاب تيري إنغليتون يتساءل عن السبب في وجود الطاعنين فيه فمن أسهل الطرق للقضاء على أية مناقشات عن الماركسية، القفز بسرعة إلى محاكمات ستالين والمنافي السوفيتية والخمير الحمر\".والكاتب تيري إنغليتون (ناقد أدبي ليبرالي وكاتب ماركسي)

اختار تولي مهمة شرح مدى صواب آراء ماركس.\”ماذا لو أن كافة الاعتراضات على أعمال ماركس خاطئة؟. وقد تناول لتفنيد تلك الاعتراضات عشرة من ابرز الانتقادات التي وجهت إلى كارل ماركس ودحضها الواحد تلو الآخر، وهو في عمله هذا مدرك تماماً إن الرأسمالية تمر بأزمة استثنائية،\"لقد توقف النظام عن كونه طبيعياً كما الهواء الذي نتنفسه، ويبدو كشيء من التاريخ وليس ظاهرة حديثة.\"أو كما عبر عن ذلك فريدريك انجلز:\"في هذه المرة سيكون هناك يوم الغضب والحساب، كما لم يشهد العالم من قبل... وكافة الطبقات المالكة في سديم، وإفلاس تام للبرجوازية، حرب وإسراف وتهتك حتى الدرجة التاسعة\".وبالنسبة إلى أغلبية المعجبين بايغليتون أو ماركس، فان الكتاب يبدو مخيّباً للآمال، فهو في رأيهم خال من الدقة بالنسبة لمنطق الأحداث، أو الأسلوب الجذاب او الطموح الفكري الذي انعكس على محاضراته في جامعة ييل عن الإيمان. إن جزءاً من المشكلة يعود الى بنية العمل. فالكتاب يركز فصلاً بعد فصل على إيجاد البيّنات لدحض المغالطات التي لحقت بالماركسية طيلة قرن من الزمن. فعلى سبيل المثال نجد محاولة طويلة للدفاع عن الثورة البلشفية وما جاء عقب لينين، او عن برنامج ألمانيا الشرقية لرعاية الطفولة. وهي أمور قد لا يهتم بها ماركس او إنغلز بنفسيهما.وكانت نتيجة هذه الانحرافات عن الموضوع شيئاً من الإحساس بالغضب وتوافر التبجح والاندفاع تجاه ماركس وإنغلز، وبدلاً من ذلك يمكن قراءة هذا الكتاب كموضوعات محشورة بسرعة شأن تلك التي نجدها في منهاج كلية اعتيادية، من الدرجة المتوسطة.وعلى الرغم مما سبق، نجد في الكتاب مقاطع رائعة. فالمؤلف ينتهج طريقاً صحيحاً في تأكيده النهج الديمقراطي للشيوعية الماركسية، وكذلك في شرحه، بنجاح تام، طبيعة الإرادة الحرة في تفسير ماركس وإنغلز للتاريخ.كما أن المؤلف قد أكد حداثة تفكير ماركس وكيف، رأى، على سبيل المثال، طبيعة انتقال الطبقة الاجتماعية مع تقدم الرأسمالية. فقد كتب في منتصف القرن التاسع عشر عن النمو المتواصل لعدد الطبقات الوسطى –\”رجال ونساء في منتصف الطريق ما بين العمال من جهة والرأسماليين من جهة أخرى\".وعلى أية حال، فإن تناول المؤلف الوضع الإنساني تحت الحكم الشيوعي لم يكن موثوقاً به. وفي محاولته لدفع ادعاءات اليوتوبية، يذهب بعيداً في الأحياء،\"إننا لا نجد في الماركسية أي وعود بالكمال،\”وأن \"عوامل الحسد أو العنف، أو التملك والمنافسة ما تزال متواجدة\".ومع إن إنغلز كان واضحاً من إن التقدم من الاشتراكية إلى الشيوعية يستلزم تغييراً خارقاً.وتحت قيادة البروليتاريا، تحقق الإنسانية الحرية الحقيقية متحررة من الغرائز الحيوانية:\"إن تقدم الإنسان من مملكة الحاجة إلى مملكة الحرية\".وفي الختام، يقول الكاتب، إن هذا الكتاب جيد في حقل المعرفة الماركسية، الانكليزية وشرحها جيد إلى حد متوسط وليس بالنسبة للمتعمقين في هذا الحقل.

من أين جاء كارل ماركس بهذه التركيبة المتشعبة والمعقدة من الأفكار المبدعة؟ من أين استقى، وأيضاً، ابتكر طقماً من المفاهيم المترابطة والمتماسكة التي لن تكون دليل عمل نضالي للطبقة البروليتارية الأوربية، وغير الأوربية، في القرن التاسع عشر والقرون التالية، وحسب، وإنما زاداً معرفياً، كذلك، لأجيال من الفلاسفة والمنظِّرين في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية المختلفة، ولقوى وأحزاب ومؤسسات سياسية وعلمية وأكاديمية شتى؟ ما هي المواد النظرية (المعرفية) الأولية، ومعطيات التجارب الخام التي استثمرها في بناء منظومته الفكرية الجبارة؟ ما هي المنعطفات الحاسمة في تطوره الفكري؟ ومن هم المفكرون الذين ألهموه أكثر من غيرهم؟ وبعبارة أخرى: كيف تكوّن هذا الوعي الحاد بالواقع والتاريخ، وهذه القدرة المنهجية على رصدهما واكتشاف قوانين حركتهما؟ كيف نضج، إلى هذا الحد المذهل، ذلك العقل التحليلي ـ التركيبي ليؤسس مدرسة سياسية ـ فكرية تكون لها أعمق الأثر في فكر العقود والقرون اللاحقة، وليبلور منهجاً علمياً بالغ الفعالية والخصوبة سيُحدث انتقالة نوعية في حقول العلوم الاجتماعية كافة؟.
بدأ ولع كارل بالقراءة، بتشجيع من والده، منذ سني طفولته الأولى. وكان صبياً حين غرس فيه البارون لودفيغ فون فستفالم (صديق والده، ووالد زوجته جيني، فيما بعد) حب الشعر والموسيقى. وفي أثناء جولات السير في حدائق هامستيد هيث الساحرة.. كان البارون (فستفالم) ينشد مقاطع شعرية لهوميروس وشكسبير ودانتي وغوتة وكان الشاب (كارل) يحفظ عن ظهر قلب.
في 25 أغسطس 1835 تخرّج كارل ماركس في كلية تريير (مسقط رأسه)، وليست ثمة معلومات كافية عن صداقاته وقراءاته في هذه المرحلة من حياته. وتؤكد شهادة تخرجه، بتوقيع مدرّّسيه، على قدرته في”فهم وتفسير أكثر الفقرات صعوبة في المواد الكلاسيكية، وخاصة تلك الفقرات التي تكمن صعوبتها، لا في غرابة لغتها، بل في موضوعها وعلاقات الأفكار فيها". ودرس ماركس الحقوق، في العام 1835، في جامعة بون، ومن ثم في العام 1836 في جامعة برلين، من غير أن يهتم كثيراً، أو يحضر سوى محاضرات محدودة (إلزامية) في الحقوق والتاريخ والفلسفة. لكنه اكتسب ثقافة ثرية وعميقة من خلال قراءاته، إذ لم تكن بوسع جامعة في حينها أن تشبع نهمه إلى المعرفة، أو ترضي عقله الخارق، وذكاءه الوقّاد.
وعلى الرغم من يفاعته كان يتعاطى مع الأفكار بعدِّه مفكراً مستقلاً، غير أن هاجساً آخر كان يسكنه هو هاجس الأدب والشعر. وقد أنجز ثلاثة كراسات أدبية، وهو لما يزل طالباً، أهداها لخطيبته جيني (زوجته لاحقاً) هي ديوان شعر ومسرحية شعرية ورواية بعنوان (العقرب وفيلكس). وسيدرك سريعاً أنه غير مؤهل لكتابة الشعر وإنما لشيء آخر. وقد استفاد من موهبته الأدبية في تدوين أفكاره الفلسفية والسياسية، فجاءت دراساته ومقالاته ذات لغة جذابة وطراوة وجمال في التعبير والأسلوب. فرفعته، كما يقول كاتب سيرته فرانز مهرنغ”القدرة الرمزية التي تتمتع بها لغته إلى مصاف أعظم الأدباء الذين كتبوا بالألمانية، وكان يعلّق أهمية كبيرة على التناسق الجمالي في كتابته".
لم يكن ماركس اليافع يستقر على حال.. انتقل من الشعر إلى الحقوق إلى الفلسفة.. ترجم كتابين من كتب جوستينيان القانونية إلى اللغة الألمانية، وحلم بوضع فلسفة للقانون. وهذه المعزوفة المشؤومة، مثلما يسميها، استهلكت منه ثلاثمئة دفتر. وعرّج إلى الفلسفة ونصب عينه وضع نظام ميتافيزيقي جديد، قبل أن يتنبه إلى أن جهوده تذهب سدى. وكان يقوم بتلخيص الكتب التي يقرؤها خلال سنوات دراسته، مع تدوين أفكاره وملاحظاته حولها.
"قرأ لاوكون بقلم لسنغ، وغيرفن بقلم سولجر، وتاريخ الفن لوينكلمان والتاريخ الألماني للودن...كذلك ترجم جرمانيا لتاسيتس، وبدأ تعلم الإنكليزية والإيطالية بمفرده.. ثم قرأ القانون الجنائي لكلاين، وكذلك الحوليات. كما قرأ كل الإنتاج الأدبي الحديث".
كانت الانعطافة الأولى المهمة في التطور الفكري لكارل ماركس هو تعرّفه على أعضاء نادي الهيغليين الشباب وانضمامه إليهم في غضون ثلاث سنوات بعد ربيع 1838. وفي هذه الآونة كانت الفلسفة الهيغلية هي الفلسفة الرسمية للدولة البروسية. وقد تأثر ماركس بشكل كبير بأعضاء في النادي منهم برونو باور المحاضر في جامعة برلين، وكارل فردريك كوبن الأستاذ في مدرسة دوروثين الثانوية، واللذين رأيا في ماركس شاباً (عمره 20 سنة وكانا يكبرانه بعشر سنوات) ذا موهبة، وملكة فكرية متفوقة. وفي النهاية أغضبت فجاجة السلوك والروح الاستعراضية لمجموعة الهيغليين الشباب ماركس فبادر إلى انتقادهم بقسوة قبل الانسحاب من حلقتهم. فعاب عليهم عدم تفحصهم”المقدمات الفلسفية لنقدهم، فلو إنهم فعلوا ذلك، لأمكنهم، عندئذ، استيعاب فلسفة هيغل".
كان على ماركس أن يتحرى عن جذور الفلسفة الغربية. أي أن يمعن في دراسة نتاجات الفلاسفة الإغريق (الشكوكيون والرواقيون والأبيقوريون) وعلاقتهم بالفلسفة الإغريقية التأملية، فقدم رسالته للدكتوراه إلى جامعة يينا باحثاً في الفروقات بين الفلسفة الطبيعية عند أبيقور ومثلها عند ديمقريط. وكان ديمقريط مادياً، وفي إطار فلسفته حدد أنه”من لا شيء لا يمكن أن ينجم شيء. ولا شيء كائن يمكن أن يُفنى، وكل تغير ليس إلاّ اتحاد أو انفصال جزئيات، ولا شيء يحدث عرضاً، بل كل شيء يحصل بسبب وبالضرورة. ولا شيء كائن غير الذرات والفراغ، وكل ما عدا ذلك رأي".
تبنى أبيقور هذا المفهوم للطبيعة وأدخل عليه بعض التعديلات وأشهرها ما يسمى (انحراف الذرات). وقد عدّ ابيقور فيلسوف الحواس في مقابل افلاطون فيلسوف العقل.
شجب ماركس”لا مسؤولية أبيقور في تفسيره للظواهر الفيزيائية". موضحاً أن أبيقور كان يبغي الحقيقة استناداً على شواهد حواسه. لكن ماركس أكبر في أبيقور انطواء فكره (على عكس ديمقريط) على ما اسماه (المبدأ المحرّك) والذي جعله يثور على اللاهوت ووطأته الثقيلة. واستخلص ماركس”أن ابيقور هو فيلسوف الوعي الذاتي البشري الحر، حتى لو جرى النظر إلى هذا الوعي الذاتي في شكل الفردية فقط". ورأى ماركس في بروميثيوس، الثائر على الآلهة، أنبل قديس وشهيد في تاريخ الفلسفة. وإذ ضمّن هذه الأفكار في المقدمة التي أراد نشرها مع أطروحته أصاب هذا الأمر صديقه باور بالذعر والذي وجد في مثل هذه الأطروحات الحادة”تهوراً لا ضرورة له”يمكن أن يثير ضد ماركس المحافظين والتقليديين.
إن ذكاء ماركس وقدرته على هضم أشد المنظومات الفلسفية تعقيداً والتعامل معها بمنهج تحليلي نقدي، مع مراجعته لقناعاته نقدياً أيضاً، كشف مبكراً عن مشروع مفكر سيقيض له تغيير وجه الفلسفة، ومن ثم مسار التاريخ.
* * *
في العام 1841 نشر لودفيغ فيورباخ كتابه (جوهر المسيحية) محققاً صدمة هائلة في الأوساط الفكرية الجرمانية والأوربية، وهازاً أسس القناعات لكثر من أتباع هيغل اليساريين.. يعلّق فرانز مهرنغ على أصداء الأفكار الجريئة لفيورباخ وكيف أنه”ألقى بكل فلسفة هيغل إلى كومة النفايات، وأعلن أن (الفكرة المطلقة) ليست غير الروح الميتة للاهوت، وهي بذلك ليست إلاّ إيماناً بالأشباح". فيما أشار فردريك أنجلس إلى الأثر المحرر للكتاب معترفاً بالحماسة العامة الشاملة التي أحدثها والطريقة التي بها”أصبحنا جميعاً أتباعاً لفيورباخ في الحال". وهكذا مارس فويرباخ تأثيراً كبيراً على تطور ماركس الفكري بشهادة أنجلس نفسه. ومنذ البدء أعلن ماركس بعض التحفظات على أفكار فويرباخ إلاّ أنه رحّب بها. وعاد فويرباخ في العام 1843 ونشر كتابه الثاني (دراسات مؤقتة في إصلاح الفلسفة).
كان ماركس منغمراً في الحياة السياسية العامة، ويكتب في صحيفة (راينيخه تزايتونغ) مقالات نارية عن الوضع السياسي القائم في الولايات الجرمانية. وحين ظهر كتاب فيورباخ كان من الضروري التنبه إليه وإبداء رأي نقدي حوله.
أوضح فيورباخ أن الفكر صفة من صفات الذات الإنسانية، يصدر عن هذه الذات ولا تصدر الذات عنه. وإن الإنسان هو جوهر كل نشاط إنساني وكل علاقة إنسانية. فيما الدولة، بعكس اعتقاد هيغل حقيقة في خدمة الإنسان وليست فوقه أو أسمى منه. وأن”الإنسان هو الذي يصنع الدين وليس العكس، وأن الكائن الأعلى الذي تخلقه مخيلة الإنسان ليس إلاّ الانعكاس التخيلي لوجود الإنسان ذاته". ولم تكن فلسفة هيغل في رأي فويرباخ”سوى لاهوت معقلن، وأن فلسفة هيغل التأملية، هي نظرية صوفية في التاريخ". وقد كتب ماركس إلى روغه مبيناً”أن حكم فيورباخ لا تبدو لي مستساغة من ناحية واحدة فقط هي بالتحديد أنها تشغل نفسها كثيراً بالطبيعة ولا تبدي إلاّ القليل من الاهتمام بالسياسة". ويمكننا تفهم اعتراض ماركس الذي كان يعي مبكراً ضرورة وحدة الفكر والممارسة، وكيف أن الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم فيما يقتضي الواجب، اليوم، تغييره. وفي (مخطوطات باريس) التي تضمنت كتاباته في تلك المرحلة المبكرة لم يخرج ماركس عن خط فيورباخ كثيراً في نقده لهيغل، بيد أنه ميّز نفسه عنه”في تفسيره لقانون نفي النفي الهيغلي”ففيورباخ لم يفهم بحسب ماركس قانون نفي النفي إلا كعملية فكرية أتاحت لهيغل أن يؤكد الفلسفة اللاهوتية (المعقلنة)”بعد أن كان قد نفى سابقاً وجودها". أما في من وجهة نظر ماركس فإن هذا القانون شكّل”نظرة جديدة عن الوجود بوصفة صيرورة وتاريخاً، تضفي طابعاً ثورياً على الفلسفة نفسها".
كان المنطلق لكل من ماركس وفيورباخ هو فلسفة هيغل.. الأول مهتم بما يتعلق بالقانون والدولة فيما الثاني مهتم بما يتعلق بالطبيعة والدين فيها. وكان فيورباخ يعتقد”أن فلسفة حقيقية متناغمة مع الحياة الإنسانية يجب أن تكون ذات أصل غالي ــ جرماني”أي بقلب فرنسي (يثوِّر) وعقل ألماني (يُصلح). وهذه الفكرة كانت توافق مزاج ماركس الشاب.
بعد زواجه في العام 1843 انتقل ماركس مع زوجته إلى باريس للعمل مع روغه في مجلة (دويتشر فرانزوسيش ياربشر). هنا أرسل ماركس رسالة إلى فيورباخ يطلب منه كتابة مقالة للعدد الأول من المجلة يرد فيها على أفكار شيلنغ الخيالية، لكن فيورباخ رفض بود، مذعناً للعاصفة النقدية التي تحاصره، ومفضِّلاً العزلة جسدياً وفكرياً. وفي العام 1845 خرج ماركس بكتابه الشهير (دراسات عن فيورباخ) وفيه يأخذ على الفيلسوف الألماني (المادي) نظرته التجريدية إلى التاريخ، وانطلاقه من الإنسان الفرد البرجوازي المعزول، في حين أن الإنسان بحسب المبدأ الماركسي يتحدد بمجموع علاقاته الاجتماعية.
لم تتعد ما نشره ماركس في مجلة ياربشر المقالتين عنون أولهما بـ (مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل) وفيه أوضح أن”مفتاح فهم التطور التاريخي يكمن في دراسة المجتمع الذي يحتقره هيغل، وليس في دراسة الدولة التي يمجِّدها". ومبيناً، وهو ينطلق من أطروحات فيورباخ حول الدين أن”الإنسان هو عالم البشر، هو الدولة وهو المجتمع. إنه عالم أنتج الدين وعياً مقلوباً للعالم لأن العالم ذاته مقلوب. ولذا فإن النضال ضد الدين نضال غير مباشر ضد ذلك العالم الذي يشكل ذلك الدين شذاه الروحي. هكذا يصبح الوصول إلى حقيقة الواقع المعاصر، بعد أن اختفت سماوية الحقيقة، مهمة التاريخ. وهكذا يتحول نقد السماء إلى نقد للأرض، ونقد الدين إلى نقد للقانون، ونقد اللاهوت إلى نقد للسياسة".
وبحماس الشباب، ولكن ببراعة تحليلية أشار ماركس إلى أهم شروط الثورة الضرورية في ألمانيا وهي تكوّن طبقة”قيودها جذرية وهي حقل لا يستطيع أن يحرر نفسه دون أن يحرر كل حقول المجتمع كذلك.. طبقة لا تستطيع أن تربح ذاتها إلاّ عبر إعادة كسب كاملة للإنسانية". وهذه الطبقة هي البروليتاريا.
أما المقالة الثانية فكانت سلسلة من الملاحظات حول كتابين لبرونو باور حول المسألة اليهودية. وفي تلك المقالة يقارن ماركس بين شكلين للتحرر هما التحرر السياسي والتحرر الإنساني، متحرياً عن جذور الارتباط بين المجتمع والدولة. يقول؛”عندما يدرك الإنسان قواه الذاتية وينظِّمها كقوة اجتماعية، وبالتالي لا يعود يفصل القوة الاجتماعية عن نفسه على شكل قوة سياسية، عندئذ وعندئذ فقط يكتمل انعتاق الإنسانية".
وخلال إقامته في باريس انكب ماركس على دراسة الفلسفة المادية عند ديكارت وجون لوك معطياً”قدراً أكبر من الاهتمام للفرع الذي نشأ مع لوك وتطور إلى العلم الاجتماعي". وأفصح عن إعجابه بكل من أفكار هليفيتوس وهولباخ”اللذين حملا المادية إلى الحياة الاجتماعية، وجعلا المساواة الطبيعية بين العقول البشرية والوحدة الجوهرية بين تقدم العقل وتقدم الصناعة الفضيلة الطبيعية للإنسانية، كما جعلا القوة الحاضرة أبداً للتربية النقطة الرئيسة في النظام الذي وضعاه".
بات ماركس، وهو في منفاه الباريسي، يدرس بشغف وعبر رؤية نقدية فاحصة الشيوعية والاشتراكية مثلما طرحها وروّج لها مفكرو فرنسا الطوباويون والفوضويون العظام. وهنا، في هذا المناخ الفكري الخصب كانت أسماء سان سيمون وفورييه وسيسموندي وباكونين وبيكير ولويس بلان وفيدال وبرودون وغيرهم تتردد بحرارة وقوة. وسيقول ماركس كلمته في حسن نيتهم بالدولة وبإمكانية طرق السبيل السلمي لتحقيق الاشتراكية، والتي رأى ماركس أنها لن ترى النور، ولن تتحرر الطبقة البروليتارية من الاستغلال الرأسمالي، إلا بالثورة (البروليتارية). ذلك أن الدولة تظل عاجزة عن”إلغاء الظروف التي كانت هي ذاتها ثمرة لها".
وبالضد من فوضوية برودون لمّح ماركس إلى الكتابات اللامعة لويتلنغ (الخياط الألماني). وسيعلن ماركس تصنيفه الشهير لمواقع وأدوار بروليتاريات أوروبا، حيث البروليتاريا الألمانية هي (المنظِّر) والإنكليزية هي (الاقتصادي) فيما الفرنسية هي (رجل السياسة). وتلك قطعاً من تخريجات حماسة الشباب.
في هذا الوقت الذي كان فيه كارل ماركس، وبعد أن تشبّع بالفلسفة الألمانية، كان يتعرف على الاشتراكية الطوباوية، وأيضاً على الإرث الفكري للثورة الفرنسية، فيما صديقه المرتقب (فردريك أنجلس) المتشبع بالفلسفة الألمانية هو الآخر كان يتعرف على الثورة الصناعية عن كثب، على استغلال الطبقة البرجوازية (التي كان أنجلس ينتمي لها) للطبقة العاملة التي كانت تعيش وضعاً مأساوياً ومزرياً. وكذلك كان أنجلس يطلّع على نتاجات الاقتصاديين الإنكليز (آدم سمث وديفيد ريكاردو ومالثوس وغيرهم). وسيكون لقاء الشابين (ماركس وأنجلس) مناسبة لذلك التفاعل لاحقاً بين الفلسفة الألمانية والاشتراكية الطوباوية الفرنسية والاقتصاد السياسي الإنكليزي، مصادر الماركسية الثلاثة الكبرى، والتي انطلاقاً منها ستنشأ، بحسب لينين أقسام الماركسية الثلاثة؛ المادية الجدلية والمادية التاريخية والاقتصاد السياسي الماركسي.
في مقال شهير لفلاديمير لينين بعنوان (مصادر الماركسية الثلاثة وأقسامها المكونة الثلاثة) يعدّ مذهب ماركس”الوريث الشرعي لخير ما أبدعته الإنسانية في القرن التاسع عشر: الفلسفة الألمانية، الاقتصاد السياسي الإنكليزي، والاشتراكية الفرنسية". حيث تمثّل هذه المصادر الثلاثة للماركسية الأقسام الثلاثة المكوِّنة للفكر الماركسي، وهي:
1ـ إن المادية هي فلسفة الماركسية، إذ لم يكتف ماركس بمادية القرن التاسع عشر وإنما أغنى فلسفتها بمكتسبات الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ولاسيما بمكتسبات مذهب هيغل، الذي قاد بدوره إلى مادية فويرباخ. وأهم هذه المكتسبات؛ الديالكتيك.
2ـ أعار ماركس اهتمامه لدراسة النظام الاقتصادي في المجتمع الحديث (الرأسمالي) معطياً لنظريات آدم سمث وديفيد ريكاردو (نظرية قيمة ــ العمل) أساساً علمياً خالصاً. وهنا شكّلت نظرية فائض القيمة حجر الزاوية في نظرية ماركس الاقتصادية.
3ـ درس ماركس بإمعان أدبيات الاشتراكيين الطوباويين الفرنسيين، وانتقد طرقهم في قراءة وتحليل واقع الاستغلال في المجتمع الرأسمالي، فاكتشف قوانين حركة التاريخ، ودور الصراع الطبقي، وتحوّل المجتمعات، حيث الاشتراكية في رأيه، لن تتحقق بمخاطبة ضمائر الرأسماليين وإنما بالنضال الطبقي السياسي القاسي والعنيف. فالنظرية الاشتراكية الطوباوية”كانت تنتقد المجتمع الرأسمالي, تشجبه, تلعنه, وتحلم بإزالته, وتتخيل نظاما أفضل؛ وتسعى إلى إقناع الأغنياء بأن الاستثمار مناف للأخلاق. ولكن الاشتراكية الطوباوية لم تكن بقادرة على الإشارة إلى مخرج حقيقي. ولم تكن لتعرف كيف تفسّر طبيعة العبودية المأجورة في ظل النظام الرأسمالي, ولا كيف تكتشف قوانين تطور الرأسمالية, ولا كيف تجد القوة الجماعية القادرة على انتصار خالقة المجتمع الجديد".
نعود إلى فردريك أنجلس الذي جعلته مهنته صناعياً في بريطانيا يصب جل اهتمامه على دراسة علم الاقتصاد السياسي الإنكليزي. وكانت مساهمته في مجلة (ياربشر) حول نقد الاقتصاد الوطني. وعلى الرغم من نواقص دراسته وبعض التشوش الذي شابها فإن إرجاعه تناقضات الاقتصاد البرجوازي إلى الملكية الخاصة كان اكتشافاً فكرياً لافتاً. وإشارته إلى التداعيات غير الإنسانية للمنافسة الرأسمالية، وملاحظاته حول الأزمات التجارية وقانون الأجور وتقدم العلوم، الخ.”احتوت على بذور الشيوعية العلمية في الحقل الاقتصادي. ولقد كان أنغلز بالفعل هو الرائد في هذا المجال”كما يقول فرانز مهرنغ. ومن ثم، حين نشر أنجلس مقالته التالية عن الظروف التعيسة التي كانت تعانيها الطبقة العاملة الإنكليزية، ليعود ويكتب مخطوطة كتابه (حالة الطبقة العاملة إنكلترا 1844) والتي نشرت في ليبزيغ في 1845 لفتت انتباه ماركس بقوة، والذي كان بحاجة إلى مثل تلك المعلومات، فضلاً عن طريقة تناولها من قبل أنجلس لينكب على دراساته التي راحت توقف ديالكتيك هيغل على قدميه، وتكرس أسس المادية التاريخية.
تنبه ماركس إلى ما في دراسات أنجلس من التماعات عبقرية. وكان أنجلس بحاجة إلى عقل تحليلي تركيبي كعقلية ماركس ليحل المسائل الأكثر صعوبة في حقل الاقتصاد السياسي.
أنجز ماركس وأنجلس أول كتاب مشترك لهما هو (العائلة المقدسة)، وفيه يعترفان بفضل فيورباخ في وضع أسس نقد الميتافيزيقيا كلها وإحلاله الكائن الإنساني في مركز الوجود، وانتقداه لتجريده. كما تناولا نقدياً أفكار فورييه وبرودون وغيرهما. وأعلنا أن كتابهما السجالي هذا ليس إلاّ مقدمة لنشر أعمال مستقلة. والكتاب بمجمله كان رداً ساخراً على انتقادات برونو باور لهما. حيث كتب أنجلس ست عشرة صفحة فيما وسّع ماركس العمل إلى ثلاثمائة صفحة. وقد رأيا في فلسفة باور كاريكاتيراً للفلسفة الألمانية، وبالأخص الفلسفة التأملية الهيغلية. ومثّل الكتاب، كما يرى (يندريش زلني) مواجهة أخرى للفكر الماركسي مع هيغل بالتشديد”على ضرورة القطيعة مع المبدأ المثالي المتعالي حول تطابق الذات والموضوع، الفكر والوجود، سواء أعتبر هذا المبدأ، بصورة موضوعية أم ذاتية، بالأسلوب الهيغلي أم الفيختي (نسبة إلى فيختة)".
وأصدر الصديقان كتابهما المشترك الثاني (الإيديولوجية الألمانية) في ثمانمائة صفحة، وكان سجالياً أيضاً، وفيه انتقدا ممثلي الفلسفة الألمانية (فيورباخ وبرونو باور وشتيرنر) كما انتقدا الاشتراكية الألمانية ورموزها مثل موسى هس وكارل غرون وأوتو لوينغ وهرمان بوتمان وغيرهم. ومن جهة ثانية واصل ماركس نقده لفلسفة هيغل على وفق ما تناولها أولئك المفكرين آنفي الذكر.
كان كارل ماركس مهتماً، إلى حد بعيد، بنتاجات معاصريه الفكرية. وكان برودون أحد أهم هؤلاء وذلك لتأثيره الكبير على البروليتاريا الأوربية. وحين نشر كتابه (نظام التناقضات الاقتصادية: فلسفة البؤس) رد عليه ماركس بكتاب (بؤس الفلسفة) وفي هذا الكتاب، ربما، أرسى ماركس دعائم (الفكرة الأساسية للمادية التاريخية) ومؤداها”إن الإنتاج الاقتصادي في كل فترة تاريخية والبنية الاجتماعية التي تنمو عنه بالضرورة هما ما يشكل التاريخ السياسي والفكري لتلك الفترة... والتاريخ كله إنما كان تاريخ صراعات طبقية... والبروليتاريا لا تستطيع تحرير نفسها من الطبقة المستغلة المضطهدة البرجوازية، إلا بتحرير المجتمع كله، في الوقت ذاته، من الاستغلال والاضطهاد". ويصف لاسال الكتاب الذي يتكون من قسمين بالشكل التالي:”إن ماركس يبدو في أولهما ريكاردو وقد تحول إلى اشتراكي. ويبدو في ثانيهما هيغل وقد تحول إلى شيوعي". فماركس ينتقد برودون ومن خلاله هيغل، ويميز بوضوح”نقطة انطلاق مناهج التفسير العلمي الجديدة، المادية الديالكتيكية، لأصل المقولات الاقتصادية وتاريخها الدنيوي، وهو نفس المنهج الذي يقود التحليل الماركسي ونقد الاقتصاد السياسي البرجوازي (فيما بعد) في رأس المال".
خاض ماركس نضالاً سياسياً دؤوباً، ولاسيما مع صديقه أنجلس، وكانا يتابعان معاً، ويشتركان، بهذا القدر أو ذاك، في الثورات البروليتارية التي تندلع، هنا وهناك، في أنحاء أوروبا حتى كتبا معاً (البيان الشيوعي/ 1847). والبيان الذي قُدِّم للمؤتمر الأممي الثاني كان ذا طابع كلاسيكي، وصبغة تعليمية صارمة، وتضمن مبادئ الحركة البروليتارية وشعاراتها ووعودها. وما يزال يعد وثيقة مهمة من وثائق القوى الاشتراكية في العالم حتى وقتنا الحاضر، على الرغم من أن المؤلفين في العام 1872 قالا أن البيان قد عفا عليه الزمن، لكن مبادئه أثبتت صحتها بشكل عام.
وعاش ماركس حياة تشرد وإبعاد من مكان إلى آخر, وسُحبت منه الجنسية الألمانية، وبقي مواطناً عالمياً، لمدة، بلا وطن، وبلا جنسية. وكانت الممارسة السياسية، وتجارب الحياة الصاخبة تغنيان وعيه، وتمنحانه وضوح رؤية، وطاقة فكرية عارمة.
كان على ماركس وأنجلس أن يزنا قيمة المفكرين البرجوازيين بميزان الثورة ليجدوهم، بطبيعة الحال، ناقصين. وبهذا جرى تقويم الفيلسوف الألماني (دومر) والمؤرخ الفرنسي (غيزوت) الذي مارس، هو الآخر بعض التأثير على ماركس، والمفكر الإنكليزي (كارلايل) الذي أثر على أنجلس. لكن الصديقين صنّفا تخريجات هؤلاء في ضمن خانة الانحطاط الفكري لقادة البرجوازيين الكبار.
أصبحت لندن منذ العام 1849 منفى ماركس الثالث، وهناك عاش في فقر مدقع مع عائلته. ولم يحاول الحصول على وظيفة أخرى، تعينه في محنته، كي يبقى متفرغاً للكتابة والنضال السياسي. وأخيراً لمّا، تحت وطأة الفاقة والبؤس والجوع الحقيقي، رغب بالحصول على وظيفة في مؤسسة السكك الحديد، فشل، بسبب سوء الحظ وحده، مثلما سيخبر أنجلس في واحدة من رسائله الكثيرة إليه. وسيكتب؛”لقد وصلت بي الحال حداً لم أستطع معه أن أغادر البيت لأن ثيابي جميعها مرتهنة. ولم استطيع أن آكل اللحم لأن نقودي قد نفدت جميعا.ً". ولولا المساعدات التي كان يتلقاها من أنجلس لما قدر على الاستمرار في الكتابة. وعلى الرغم من كل شيء كان يقضي معظم وقت يقظته في مكتبة المتحف البريطاني (من التاسعة صباحاً، وحتى السابعة مساءً) يدرس الفلسفة والتاريخ والعلوم الطبيعية والآداب والاقتصاد السياسي، ولاسيما الاقتصاد السياسي.. يقرأ ويكتب.. وذات مرة، وهو طريح الفراش، كتب إلى أنجلس يقول؛”على الرغم من أنني لم أكن أستطيع العمل، فقد قرأت كتاباً في علم وظائف الأعضاء لكاربنتر، وكتاباً في تشريح المخ والجهاز العصبي لشلايدن". وكان مشروعه الجديد هو كتاب (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) الذي سيعطيه شكله النهائي في (57ـ 1858). وكتب في هذا الوقت مقالة مطولة ستنشر في كتاب لاحقاً عن انقلاب لويس بونابرت في فرنسا، وكان ذاك هو الحدث الأهم في القارة الأوربية في حينه. وفحوى الكتاب هو رد على كتابين صدرا بهذا الخصوص هما كتاب فيكتور هيجو (نابليون الصغير) وكتاب برودون (الانقلاب).
حلل ماركس، وبطريقة ساخرة في كتابه الذي أسماه (18 برومير لوي بونابرت)”كيف أن الصراع الطبقي في فرنسا خلق ظروفاً وشروطاً مكنت رجلاً عادياً من لعب دور البطل". ويعلّق فرانز مهرنغ على مصائر الكتب الثلاثة المذكورة”بينما أصبح هذان الكتابان (نابليون الصغير، والانقلاب) منسيين منذ أمد بعيد لا يزال كتاب ماركس يشع، حتى يومنا هذا، بعبقرية لامعة خالدة".
إن سخرية ماركس وقدرته على الهجاء جعلت ناقداً كبيراً مثل أدموند ويلسون يعدّه”واحداً من أعظم سادة الهجاء، ماركس هو بالتأكيد (يقول ويلسون) أكبر ساخر منذ سويفت، ويشترك معه بقدر كبير في ذلك".
وكان ماركس مغرماً بتتبع التفاصيل، ورصد دقائق الأشياء، بصبر وتأنٍ عجيبين، ولذا كان يقضي شهوراً وسنوات طويلة في كتابة دراساته المطولة في الاقتصاد السياسي، حتى أنجز ذلك السفر العلمي الخالد (رأس المال). وكان يصحح مخطوطاته المرة تلو الأخرى. ويتردد في إرسالها للناشرين لأنه يحس أن ثمة نواقص فيها، وهذا ما كان يغيض صديقه أنجلس الذي كان يستعجله في إنهاء أعماله بسرعة أكبر، ويحثه على نشرها.. يقول أنجلس عن واحدة من تلك الحالات:
"بالنسبة لرجل كان يدرس كل شيء ليكتشف منشأه التاريخي وشروط تطوره، كانت كل مسألة تؤدي بالطبع إلى مسائل جديدة، وعلى الأخص درس ماركس التاريخ القديم وعلم الزراعة الروسية وعلاقات ملكية الأرض في أمريكا والجيولوجيا، الخ, وذلك لكي يجعل القسم المتعلق بإجازة الأرض من الجزء الثالث (رأس المال) أكمل وأشمل من أي معالجة سابقة للموضوع. لقد كان ماركس يقرأ كل اللغات الجرمانية واللاتينية الحديثة بسهولة. ثم تعلم بعد ذلك السلافية القديمة والروسية والصربية".
هجر ماركس كتابة الشعر مبكراً، ولم يعاود كتابة مسرحيات شعرية أو روايات، كما فعل في مرحلة الشباب، غير أنه استمر في قراءة النصوص الأدبية القديمة والحديثة.. يقول لافارغ أن ماركس كان يقرأ (آخيل) في النص الأغريقي الصالي مرة واحدة في السنة على الأقل. ومن المحدثين الذين كان معجباً بهم غوته وهاينه وديدرو. وولعه بالأدب قاده إلى التعرف على الآداب الألمانية المكتوبة في القرون الوسطى. لكنه كان يكره الرومانسيين الفرنسيين، ومنهم شاتوبريان”لعمقه المزيف ومبالغاته البيزنطية وعاطفيته المفرطة التي لا تساوي شيئاً”كما يقول.
أعجب ماركس برائعة بلزاك (الكوميديا الإنسانية)، ونصح، في شباط 1867 قبل تسليم مخطوطة المجلد الأول من رأس المال، أنجلس بقراءة التحفة الأدبية (حكاية فرينهوفر ــ غير المعروفة، كما سيصفها!) لبلزاك لأنها”مليئة بالسخرية الممتعة". وكان يفكر بكتابة دراسة عن بلزاك بعد فراغه من كتابة (رأس المال) إلاّ أن الموت لم يمهله لتحقيق رغبته تلك (توفي في العام 1883).
وخلال إقامته في لندن”مارس نوعاً من العبادة لشكسبير"، وقرأ بايرون وشيللي وروايات القرن الثامن عشر الإنكليزية، منها أعمال فيلدنغ ووالتر سكوت.. يقول فرانز مهرنغ عن ماركس أنه كان”كداروين وبسمارك يلتهم الروايات التهاماً، وقد شغف منها بالأقاصيص المرحة وحكايا المغامرات، فانحدر في سعيه إليها من سرفانس وبلزاك وفيلدنغ إلى بول دي كوك واسكندر دوماس الأكبر". ويشير اس. اس. براوير في كتاب نشره في العام 1976 وكرّسه لمراجع ماركس الأدبية أن الجزء الأول من عمل ماركس الأعظم (رأس المال) احتوى على اقتباسات من”الكتاب المقدس، شكسبير، غوته، ميلتون، فولتير، هومر، بلزاك، دانتي، شيلر، سوفوكليس، أفلاطون، ثيوسديدايس، زينوفون، ديفو، سرفانتس، درايدن، هيني، فيرجيل، جوفينال، هوراس، توماس مور، صامويل بتلر ـ وإشارة إلى قصص الرعب، الروايات الرومانسية الإنكليزية، القصص الشعبية، الأغاني والأناشيد، الميلودراما والمسرحية الهزلية، الأساطير والأمثال".
وهكذا سيكون مألوفاً”أن يتكلم رأس المال بصوت شايلوك (بطل ــ تاجر البندقية ــ لشكسبير)... وللبرهنة على أن النقود تؤدي دوراً جذرياً كرافعة يورد ماركس مقتطفا من تيمون الأثيني (شكسبير):”النقود هي البغي المشتركة بين البشر”يليه مقتطف آخر من انتيغونا (سوفوكليس):”النقود! النقود هي لعنة الانسان، ليس هناك لعنة أكبر. النقود هي من يخرّب المدن، من ينفي الرجال من أوطانهم، إنها تغوي وتخدع الأرواح الفائقة الصفاء، تدفع الناس إلى طريق الخسة والعار...". كما شبّه الأقتصاديين الذين يقدمون تحليلات تنطوي على مفارقات تاريخية بـ”دون كيشوت”الذي”اُنزل به القصاص لأنه تخيل خطأ بأن ترحال الفرسان الهائمين على وجوههم يتناغم بشكل متساو مع كل الأشكال الاقتصادية للمجتمع".
أراد ماركس أن يقرأ كل شيء، في فروع المعرفة البشرية وآدابها. وأن يكتب في حقول معرفية عديدة، ويعالج مسائل البشرية المستعصية جميعها، غير أن حدّه البيولوجي المقدّر، أي قصر سنوات العمر وحتمية الموت، قياساً لسعة مشروعه الفذ والكبير الذي يتطلب الإنجاز في غضون ثلاث حيوات أو أكثر، لم يدع له الفرص التي كان هو، وكما كانت البشرية، بحاجة ماسة إليها. كانت عبقريته أكبر من أن يتحمل أعباءها جسد واحد، وأن يفي بمتطلباتها عمر شخص واحد. وكان الفقر والجوع والتشرد عاملاً معوقاً آخر (لعله كان محفِّزاً أيضاً) في سبيل تحقيق ما حلم به من أجلنا.

المصادر:
1ـ (كارل ماركس) تأليف فرانز مهرنغ.
2ـ (منطق ماركس) يندريش زلني.. ترجمة: ثامر الصفار.
3ـ مقال (مصادر الماركسية الثلاثة وأقسامها المكوِّنة الثلاثة) فلاديمير لينين.
4ـ مقال لفرانسييس وين موزع بين ترجمتين.. الأولى (الحمل الطويل) ترجمة: سعدي عبد اللطيف في جريدة المدى يومي 27/28 ــ 4ــ 2008. والثانية (ماركس شاعر الديالكتيك) ترجمة: غريب اسكندر في مجلة (الثقافة الأجنبية) العدد الثاني 2009.