أنظر بعين من نهرين للشاعر كاظم الحجاج.. قراءة في قصيدة مربدية

Wednesday 10th of May 2017 08:20:33 PM ,

عراقيون ,

محمد صالح عبد الرضا
في وقت يدفن بعض الأدباء رؤوسهم في الرمال و اللهو بأوهام طائشة تلهينا عن الواقع الحقيقي و الزمن الحقيقي يضع الشعراء الحقيقيون أنفسهم في وهج التجربة بنضوج فيصرخون في دوامة الواقع وفجائعه بحيث لا تحتاج قصائدهم الى تفسير أو شرح، ولكي لا نضع المجاملة فوق الشعر فان الألم من الواقع الملتبس حقيقة من حقائق الحياة التي لا قرار لها،

وبعيدا عن النثرية والإطالة والتقرير لا تمنح أي كتابة فرصة لاعتبارها شعرا إذا كانت المسألة مسألة وزن وتفعيلة أو قافية لتكون لها علاقة بالشعر.

والقصيدة المربدية التي نتناولها هنا هي قصيدة الشاعر كاظم الحجاج التي عنوانها (أنظر بعين من نهرين) وفيها يجيب بطريقة إجمالية يجيز لنفسه الجواز الذي صار سليقة شعرية فاستطاع ان يصيب عصفورين بحجر واحد هما الجو المحموم والقصيدة المنتفضة، ان أدوات لتغبير في مدار صياغة القصيدة هو تعبير عن الحساسية والحالة والوضع جميعا ومحاولة ربطها في وعي حضاري حديث، وبهذا المعنى يكون الإبداع نوعا من التفرد بالصياغة والأداء التعبيري بما يكفل للشعر حضوره على محك النقد الموضوعي للواقع، فوجوب الابتكار في الصياغة والرؤى هو من شرائط الشاعر المتمكن،فهذه لقصيدة ذات نبرة مثيرة يرتفع فيها الصوت عاليا لكي لا يضيع الإنسان في زحمة التدهور فقد ائتلق فيها الحس الشعري في لحظة رؤيته وبيقظة في روح الجرح:

إغسل عينا بدجلة، وعينا بالفرات
جَـدِّد عينك دوما، وانظر بعين من نهرين
فســّر (لنهريك) ما يبصران
عَـرِّ جلدك لشمس العراق
فلا جنسية لك إلا بالسُمرة
جدّد سومريتكَ وبابليتكَ، وجدّد (بغـداد)
خذ بصيرتك من (البصـرة)..
مـَسِّ (ميسان) بالخير ـ خير الأهـوار ـ

ان هذه القصيدة تصطدم بالمعادلات العقلانية التي تواجه الواقع وعلاقته ويبدو شاعرها فنانا مدركا لمعالم السبيل قبل كل شيء فتتشكل العلاقة بينه وبين الظاهرات والأشياء بمثابة هم اجتماعي، فهو يستظهر خارجيا وقائع المجتمع بينما ينكفئ داخليا ليستخرج صوته محاولا أن يقدم للقارئ حكمة مشعة متمردة تتقاطع صورها مع تيار التدهور الاجتماعي كأنه يتنازع بين الحسرة والأمل، فالحس الإنساني فيها و نظامها الجديد يعودان الى إخلاصه الوطني الذي يتصارع بين رفض الواقع الشائب والتغير المطلوب.
ان هذه القصيدة تدخل جوهر الحس لتستخرج منه عالما شعريا ملتاعا مما ينتاب الوطن من انتهاكات بعضهم وأبرزها تهريب النفط فهو يستنكره بغضب ملحوظ، يسمح للشعر ان يتقدم ليجتاز الحقل الجمالي الى كشوفات تناقض الواقع:

(تقول الجريدة):
(.. تسرقُ العشائر النفط الذي يمر بها والشيوخ يتلقون ثمن الحراسة!)
و(الحراسة) ليست بين قوسين في الجريدة..!
سـمِّ (العماليق) وسـمِّ (الأقـزام)
جـَدِّد أجدادك إن استطعت.

ونلاحظ في هذه القصيدة حضور الفعل والإشارات وربطها بالراهن بحيث يبدو شاعرها يعرف ما يريد ويبلغ حد السمو الإبداعي في مخطط القصيدة العام الذي يصور منافذ لواقع ليورق الإنسان ويورق الشعر، فتتوازى الأحداث والمتحولات المتصارعة على خريطتنا الاجتماعية في عمل إبداعي يتطابق مع رؤيا كل إنسان وطني، فالقصيدة توحي بصيغة ثورية لفهم الشعر ووظيفته التي تتسع لاجتراحات الشعر وتراكيبه، وتتسابق الأسئلة فيها لتعطي أجوبتها عبر هواجس الشاعر التي تنتفض من أجل مدينة فاضلة يتفجر فيها النقاء،
فبنية القصيدة بسيطة تحمل خواطر تأملية في الواقع وتخلف جوا شعريا لها وتمكن شاعرها من متابعة فكرية وتكشف ميله الى البساطة في عالم يقطر شعرا و فرادة وتندمج فيها الحواس بالمحسوسات وتنبثق فيه الحركة بما يؤكد وعي الشاعر وشفافيته في قصيدة تعلن عن خصوصيته التي لا تقع بنمطية اللغة سواء من حيث المفردة والتركيب.
وتتشكل هذه القصيدة في الدفقة الشعورية وحساسية الشاعر ونبضه فبناؤها الفني متماسك يعتمد على كيان النفس الحساسة التي تعطي الأهمية القصوى لما يتسرب في الأعماق من أمواج عفوية تطغى على الرؤيا الخارجية بما يجعل القصيدة تتميز في التعبير بالصور المركبة، فالإحساس المباشر والمزج بين الحواس وتحليل عواطف النفس شأن شعري يحقق الانسجام بين اللفظة والحس الذي تعبر عنه القصيدة، أما تحويل المعنى الى صور تزيد في التأثير فإنها تتوسل الى إبراز الفكرة وتوليد لصور بقوة إيحائية تجمع قضايا الذات ورؤى الواقع:

مـدد رجليك عروقا الى لطين
وكن أنت نخلتك، تكن نخلتنا
إسمع نشيد موطني أولا،
وانظر هل تبكي مثلي أو لا تبكي
تأكد من عراقيتك بالدمع...!
ليس عراقيا من لم يبكه(الحسين)
من لم يبكه الحر الرياحي ـ لحظة الاختيار ـ
من لم يبكه (وهب النصراني) و أمه من لم يبكه (موطني)!
ثبت بالدم عراقيتك، ثم كن ما تكون:

ويتجاوز الشكل الشعري للقصيدة بحيث يشكل المعادل الموضوعي مضمون المستطيلات الثلاثة الذي دخل بناء القصيدة العضوي وصار شكلا يتحرك في تركيب خاص من حيث الأسلوب البنائي غير المسطح وتماسك الأجزاء التي تساعد في نقل القارئ الى جو الحدث الزاخر بالحركة والانفعال ولغة الحوار الداخلي الذي يتسع للقصيدة بمضمونها الفني وتعاملها مع الكلمات غلى أساس اندماجها بالحياة و استخلاص شواهدها بما يتلاءم فيه الشكل والمضمون في نمو حي و متفاعل مع امتداد المعنى وانقباضه

أنا. لا أصلي..!
أنا أتوضأ، دون صلاة، فهذه شمالي:
أعفّ واطهر ممن يصلي نهارا..
ويسرق في الليل خبز عيالي ّ
المستطيل الأول
المستطيل الثاني
أنا. لا أصوم..!
فانا. صائم منذ ستين عام
أجوع وآكل.. لكنني
لا (أبسمل) عن لقمة بالحرام!
المستطيل الثالث
أنا لا أزكي..!
فمن أين لي..
وحتى لحافي قصير على أرجلي!..

إن الشاعر المجدد كاظم الحجاج استطاع ان يستوعب روح المرحلة دون ان يفرط بوطنيته المتفاعلة مع الثقافة الإنسانية المنفتحة عليها، وهو يتفاعل مع ما يمور ويصطرع به المجتمع من ظواهر فاللحظات والكلمات والمواقف التي تتسم بها قصيدته أكثر وعيا وأثرى بالمعرفة التي تعلن عن حلم الشاعر الذي يلتحم بدورته الاجتماعية في شرط الوعي المؤهل، فان واقعا مضطربا تصفه قصيدته إنما هو صيحة مليئة بالتجربة الإنسانية التي تستحق الاهتمام، و أظنني لا أجانب الصواب إذا قلت ان هذه القصية بمعناها الشامل الدقيق تثبت انطباقها على ما يظهر في المجتمع من ظواهر تستحق الشعر.

وتخليص الشعر من شوائب لضعف والركة إسهام تجديدي عند الشاعر الحقيقي الذي يمتزج الظرف المحلي عنده للشعور الوجداني ليشكل باعثا شعريا تكون فيه طرائق التعبير التي تدخل الأفق المحسوس احتجاجا على الممارسات الخاطئة في المجتمع، ويترك بهذه العلاقة ان تنكشف بعد ان يستحضر عناصرها، ان الهواجس العامة التي تخالج القصيدة تسمح للوجد الشخصي والسياسي ان يتوتر ليكسب الجمل المتلاحقة جوا غنيا بالدلالات، والقصيدة بعد هذا مركبة محمولة على صوتين متناقضين يشكلان قصيدة مفتوحة النهايات وجودها السياسي يصدر من صور تحمل معاناة ينتظر الشاعر حلها:

تفاءل (بعدنان) ـ لأنه في القاموس (عدن)
و(عدن) في القاموس (الجنة)
وتشاءم من (قحطان):
(قحطان) في القاموس مثنى (للقحط)!

(.. مسؤولون في دوائر الدولة والمحافظات الجنوبية طالبوا صراحة بفتح المجال أمام تهريب النفط العراقي وغض الطرف عن قوافل الصهاريج والسفن التي تنقل النفط المسروق..!) (تقول الجريدة)

ونقول: هي بداية مثمرة لمشروع (تقليم الجنوب!)
ثبت على رأسك عقالك
و مسّد بإصبعين شاربك!
لقد وقعت في هذه القصيدة غلى شاعر يملك قدرة التعبير المتوهج عبر اللغة البسيطة والتوتر الملحوظ فهو يعرف ما يريد وكيف يعبر

عن ما يريد،فالمفعول الايجابي للكلمة في قصيدته ينهض على تفسير الاختلاف بين النظرة الى الواقع والنظرة الى النفس، إنه يهتم اهتماما بالغا وشديدا بكل ما هو شعري في المجتمع والإنسان ويحشد في لغة الإيحاءات ليضع نسيجه الشعري في لغة شديدة الولوع بالوصول الى جوهر الأشياء وهو يشير ويحرض وجدان الناس ضد الأخطاء ويتدفق شعوره بالفجيعة ليؤكد وعيه بالأوجاع. ان روح التجربة تسير في سماحة ويسر ولا يحتويها الإيهام بالرمز والمعاني الشاردة لا تحتمي بزخرف الألفاظ بل هي بالغة الحرص على ان لا تفلت صياغتها من بين أنامل الشاعر، فبساطة التجربة وغنها ودلالاتها المحيقة وسيطرتها على لغتها تسمح بالوصول الى الأشياء الغائرة في النفس و الوقائع الساخنة في المجتمع، واللمسة المضيئة تلوح وتبرق في القصيدة فلا تجمد في غموض إذ يتاح لها فرصة التمثيل التي تعطي للقارئ معاني ودلالات في نسيج القصيدة البعيد عن الاصطناع والانفعال إذ تكون الجملة فيها مفتاحا جديدا للرؤية الشعرية فلا تفقد المتعة والطرافة.

وينتظم هذه القصيدة معادل موضوعي ينسجم مع ردة فعل الشاعر حيث الواقع والانفعالات إزاءه وحيث الشاعر أشد تحسسا ويقظة بالقيمة الفنية بالأثر الشعري والحدة الدرامية في القصيدة التي تلائم بين الأسلوب والموضوع، فتقليب جوانب المعنى يكشف عن معادلات موضوعية تنهض من ثنايا جراحات الوطن.