فكر عبد الفتاح ابراهيم.. الصيرورة والتكوين

Wednesday 17th of May 2017 06:37:28 PM ,

عراقيون ,

د. عامر حسن فياض
كانت الاحزاب السياسية لفترة العشرينات، وحتى بداية الثلاثينات تظهر في العراق حسب الظروف السياسية الطارئة التي تمر بها البلاد ولم يكن لديها فلسفة اجتماعية او مبادئ واضحة ذات اهداف بعيدة المدى، وانما كانت تلك الاحزاب عبارة عن تجمعات عشائرية او تجمعات لتحقيق اهداف ظرفية مؤقتة تولد وتموت وهي تحوم حول تلك الاهداف.

فقد تألف الحزب الحر في 3 أيلول 1922 ليسند وزارة (عبد الرحمن النقيب) وينفذ خططها الرامية الى دعم الوجود الانكليزي، وبعد سقوط الوزارة اضمحل هذا الحزب وزال من الوجود، وتألفت احزاب الموصل، كالاستقلال في 11 ايلول 1924 والوطني في نيسان 1925 وجمعية الدفاع الوطني في 26 كانون الثاني 1925، بسبب مشكلة الموصل فلما انتهت عصبة الامم المتحدة الى قرارها ببقاء الموصل ضمن الاراضي العراقية زالت هذه التنظيمات.
كذلك ظهرحزب الامة في 10 آب 1924 بغية انجاز الدستور وبعث الحياة البرلمانية في البلاد ولو بالصورة الشكلية ثم زال بعد تحقيق الغاية التي اسس من اجلها، كما تألف حزب العهد في 23 مارس 1930 ليسند حكومة نوري السعيد في اقرار معاهدة 1930 ولكنه زال بزوال حكومة نوري السعيد.

بالاضافة الى ذلك فان الاحزاب العراقية انذاك كان ينقصها الالتفاف، حول فكرة واضحة قبل الالتفاف حول (شخص) زعيم معين له مميزات خاصة وكان مصيرها الفشل بسبب افتقادها الى ذلك الشخص. كما حدث لحزب التقدم بعد انتحار مؤسسه (عبد المحسن السعدون) ولحزب الاخاء الوطني بعد سقوط زعيمه (ياسين الهاشمي) وللحزب الوطني العراقي بعد اعتزال (جعفر ابو التمن) السياسة. وبذلك اتضحت رخاوة هذه الاحزاب وتذبذبها وخورها كلها في بداية الثلاثينات حين احتدم وطيس المعركة بين الشعب من جهة والاستعمار وحلفائه من جهة اخرى، واصبح النضال ضد المعاهدة عسيرا على قادة تلك الاحزاب. فقد ارتمى بعضهم في احضان البلاط الملكي، وجمد القسم الاخر نشاطه، واغلقت السلطات النقابية العمالية والحرفية بسبب نشاطها وقيادتها الاضرابات ضد الحكومة والشركات الاجنبية واغلقت الكثير من الصحف الوطنية.
فكانت تلك الفترة، الفترة الملائمة لبروز تنظيمات ثورية تتبنى قضايا الشعب حيث لم يبق لجماهير الشعب وسيلة مشروعة للتنظيم والتعبير عن ارادتها فولدت هذه الظروف الحاجة الى قيادة ثابتة تتصف بالاستمرار مهما تغيرت الظروف والاحوال وبكل السبل القانونية وغير القانونية، كما كانت الحاجة ماسة ايضا الى برنامج سياسي واجتماعي يستجيب لمصالح جماهير الشعب الوطنية والمعيشية، فكانت (جماعة الاهالي) و (لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار) البواكير التنظيمية الاولى لتلبية هذه الحاجة.
اما «جماعة الاهالي» او كما اصطلح عليها (مدرسة الاهالي) فانها حتى صدور جريدة (الاهالي) في 2 كانون الثاني 1932 كانت تعود الى رافدين تمثلا بفعاليات تيارين وطنيين بادئ الامر. فالتيار الاول، وهو الاقدم، تمثل بفئة من جمعية (النشء العراقية) او جناح من اجنحة تلك الجمعية، التي اسسها الطلبة العراقيون في الجامعة الاميركية في بيروت عام 1924-1925، وعلى رأسهم كان عبد الفتاح ابراهيم ومحمد حديد وجميل توما ودرويش الحيدري ونوري روفائيل واخرون. وفي عام 1926 اصبح عبد الفتاح ابراهيم رئيسا للجمعية فاصلح نشاطها الى حد ما سياسيا يواكب من هناك الحركة الوطنية في العراق ولقد اتصلت جمعية النشء العراقية بالمجموعات العربية ذات التفكير القومي في بيروت مثل جمعية (العروة الوثقى).
وعلى اثر تزايد النشاط السياسي للجمعية اخذت ادارة الجامعة الاميركية تشدد الرقابة عليها. وبهذه المضايقة اتجه عبد الفتاح ابراهيم وصحبه، الانفو الذكر الى تأسيس جمعية اخرى باسم (النادي العراقي) من اجل مواصلة هذه الكتلة اجتماعاتها خارج الجامعة ومن هذا النادي انبثق تنظيم سري يترأسه عبد الفتاح ابراهيم ويضم كلا من محمد حديد ونوري روفائيل وجميل توما وعلي حيدر سليمان وعبد الله بكر ودرويش الحيدري، فاصبح هذا التنظيم نواة التفكير السياسي بالنسبة لهذه الكتلة. الا ان هذه الكتلة لم تبق طويلا فانفرط عقدها وتشتت اعضاؤها بعد انتهاء فترة دراستهم في الجامعة الامريكية عام 1928 ولم يجتمع الشمل الا عام 1932.
اما التيار الثاني فيتمثل بالطلاب الذين ساهموا في مظاهرات قضية النصولي، ومظاهرات ضد زيارة الصهيوني الفريد موند. وكان على رأسهم عبد القادر اسماعيل وحسين جميل بالاضافة الى خليل كنه وجميل عبد الوهاب. وعندما عاد عبد الفتاح ابراهيم من امريكا عام 1930 اتصل باعضاء التيار الثاني وعمل جاهدا لتوحيد التيارين الوطنيين. فنجح في مهمته وسمي هذا التجمع بـ (جماعة الاهالي) نسبة الى (جريدة الاهالي). التي صدر عددها الاول في 2 كانون الثاني 1932 يحمل في صدر صفحته الاولى جملة (يحررها فريق من الشباب). ولم تمض فترة وجيزة على لقاء جماعة (النشء) البيروتية بجماعة مظاهرات النصولي والفريد موند ثم تشكيل (جماعة الاهالي) حتى التقى بهما تيار ثالث تمثل بـ (كامل الجادرجي) وكان ذلك عام 1933 بعد ان استقال الاخير من حزب (الاخاء الوطني). وبقدر ما يتعلق الامر بموضوعنا فان الذي يهمنا من امر (عبد الفتاح ابراهيم) هو معرفة المنطلقات الفكرية له وبرأينا فان ذلك سيبدو واضحا من خلال متابعة التكوين الفكري لعبد الفتاح ابراهيم (كتلة بيروت) والتي بتأثيرها تبنت جماعة الاهالي الاشتراكية كمادة اولى في دستورها.
تتلمذ عبد الفتاح ابراهيم في البصرة واكمل دراسته الابتدائية فيها. وامتدت دراسته الثانوية في بغداد بين 1920-1924. وفي هاتين الفترتين لم يقرأ عبد الفتاح ابراهيم سوى الكتب المدرسية، ثم انتقل الى بيروت وبقي فيها اربع سنوات ليدرس التاريخ في الجامعة الامريكية هناك وكان الكتاب الرئيسي الذي درسه هناك هو (تاريخ اوروبا الاجتماعي والسياسي) للكاتب الامريكي الليبرالي (Heyas) ودرس كذلك كتابا وثائقيا عنوانه (تاريخ اوروبا الحديث 1870-1918) بالاضافة الى انه درس هناك المسألة الشرقية، وبذلك توسعت مدارك (عبد الفتاح ابراهيم) الفكرية لتجاوز الاطار المحلي الضيق بعد اطلاعه على الفكر الاوروبي من خلال دراساته هذه. اما بخصوص بدايته مع الفكر الاشتراكي، فقد اطلع (عبد الفتاح ابراهيم) على هذا الفكر في السنة الاخيرة من دراسته في بيروت اي عام 1928 فيقول:
«حصلت نقطة التحول عندي نحو الاشتراكية والاتحاد السوفيتي خلال اعدادي لاحد البحوث الدراسية حول الثورة الروسية 1917. ولم يسبق اختياري لهذا الموضوع اي فكرة او دافع فكري اشتراكي بل ان الاختيار بعيد عن كل دافع ما عدا دافع الدراسة والبحث... اما سماعي بالاشتراكية فقد حصل لاول مرة من خلال دراستي لكتاب.. «Heyas» فهذا الكتاب تناول الحركات السياسية والاجتماعية في اوروبا ومن ضمنها الحركة الاشتراكية.. بالاضافة الى الثورة الفرنسية وما رافقها من مفاهيم حول اندحار الاقطاع وانتصار الطبقة الوسطى والديمقراطية والدستور.. اي انني تعرفت على الاشتراكية بشكل اكاديمي مدرسي.
ولكن رغم ذلك فان المضامين الاجتماعية في تفكير (عبد الفتاح ابراهيم) لم تبرز فيها الاشتراكية بعد، بل برزت فيها الديمقراطية بالمضمون الليبرالي المعادي للاقطاع والسلطة الحاكمة، الديمقراطية المنحازة للشعب على حد تعبيره فيقول:
«كنت انظر ان المقدرة المالية لكل من الاقطاع والاغنياء بصورة عامة انعكست في سيطرتهم على الجهاز السياسي وبحكم عدائي للجهاز السياسي ودفاعا عن الديمقراطية دخلت المفاهيم الديمقراطية تفكيري.. وهذا كان نتج عن تأثري بالثورة الفرنسية التي (شبعت مفاهيمي السياسية بمضامين اجتماعية). ولتحقيق الديمقراطية لابد من التأكيد على الشعب.. فابعاد السيطرة المالية التي تحول دون تحقيق الديمقراطية يقتضي التركيز على الشعب والمطالبة بخدمته وتحسين احواله الاجتماعية والاقتصادية.. فاتخذ مفهوم الديمقراطية عندي مضامين اجتماعية.
وبعد عودة عبد الفتاح ابراهيم من بيروت، وفي الفترة بين 1928-1930 اشتغل في التعليم وتعرض لبعض المضايقات من قبل وزارة المعارف بالذات حيث تجاوزت الاخيرة معه، النظام المتبع في التعيين والتنسيب. هذا النظام القاضي بتنسيب المدرس المعين حسب المدينة التي يسكنها، الا ان الوزارة نسبته بعد التعيين في مدينة الموصل ثم نقل بعدها الى البصرة، في هذه الفترة توسعت مطالعاته فقرأ للبروفسور مون Moon كتابه عن الاستعمار، فكان لهذا الكتاب التأثير الكبير في تفكير (عبد الفتاح ابراهيم)، بل انه كان المحفز لسفره الى امريكا ومواصلة دراسته على يد الاستاذ مون Moon فيقول:
«قبل قراءة هذا الكتاب كنت افهم انني اكره الانكليز كانكليز فقط. اما بعده فاصبح مفهومي عن الانكليز كرهي لهم كونهم استعمارا اقتصاديا استغلاليا». فسافر (عبد الفتاح ابراهيم) عام 1930 الى امريكا، واخذ في اول الامر على يد الاستاذ (مون) بعض المحاضرات، ثم بدأ يناقشه شخصيا، بعدها وبارشاد هذا الاستاذ اختار (عبد الفتاح ابراهيم) الكتابة بموضوع (على طريق الهند).
وفي امريكا جمع كل المعلومات المتعلقة بالعلاقات الانجليزية العراقية ثم رجع الى العراق في نفس السنة التي ذهب فيها الى امريكا من دون ان يكمل دراسته ولكن هناك وسع مطالعاته فقرأ (رأس المال) لكارل ماركس ودراسة عن الدستور السوفيتي مع كراسات شيوعية اخرى جلبها معه الى العراق.
اما مساهمات (عبد الفتاح ابراهيم) الفكرية فقد بدأت بكراس صغير بعنوان (مبادئ الشعبية). الفه عام 1930-1931 وهو الكراس الذي تدارسته جماعة الاهالي قبل صدور جريدة الاهالي وصار يشكل برنامجا لها اوضحت فيه مفهوم (الشعبية) ومبادئها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهو عبارة عن صفحات منهجية بشكل كراس يعتبر اقدم وثيقة سياسية واقتصادية معروفة في تاريخ العراق وربما في تاريخ المنطقة العربية تصلح لتكوين النواة التي تحمل كل شروط النمو من اجل تطور الحركة الاشتراكية والنظرة العلمية لها في العراق وما جاوره.
واشترك (عبد الفتاح ابراهيم) مع (محمد حديد) و (علي حيدر سليمان) بوضع اربعة فصول من كتاب (الشعبية) الذي اخذ فيه الشيء الكثير من مبادئ الاشتراكية مع اشادة بها وترغيب بمبادئها معتبرا اياها المبادئ الوحيدة التي يمكنها ان تخدم الطبقات الاجتماعية المسحوقة. فاستعرض فيه تاريخ الفكر السياسي من اليونان حتى ثورة اكتوبر الاشتراكية 1917 ومن الواضح ان (الشعبية) كانت تمزج بين مبادئ الديمقراطية ومبادئ الاشتراكية العلمية. ولكنها تختلف عن كل منها فقد اعترفت (الشعبية) بنظام الحكم الدستوري المبني على قاعدة التمثيل النيابي ودعت الى حماية حقوق الانسان الاساسية. الا انها نوع من التجمعات الشعبية مؤكدة على الشعب كمجموع لا كأفراد وفي نفس الوقت رفضت الاعتراف بوجود الصراع الطبقي في المجتمع، كما رفضت اسلوب العمل الثوري لتغيير المجتمع، ومن ناحية اخرى اعترفت الشعبية بتنظيمات الاسرة والدين والوطنية.
بعد صدور (جريدة الاهالي) 2 كانون الثاني 1932 انتقل (عبد الفتاح ابراهيم) اليها. وهناك واصل التزود والاطلاع على الافكار الاشتراكية فترجم كتابين الاول عن (التربية والتعليم في الاتحاد السوفيتي) والثاني عن الزعيم الوطني الهندي (غاندي) لاعجابه به. وواصل مطالعاته لبعض المجلات الامريكية الاشتراكية مثل مجلة (اسيا) الحاوية على اخبار الاتحاد السوفيتي، ومجلة (كرن تستري) الاشتراكية، وكان يترجم عن الاخيرة بعض الاقتباسات الخاصة باخبار الاتحاد السوفيتي ويبعث بها الى جريدة الاهالي. ثم صدرت له عام 1935 رسالة اخرى بعنوان (مطالعات في الشعبية) ولعل اخطر ما جاء في هذه الرسالة ما يتعلق بمفهوم القومية حيث كتب فيها يقول «ان تاريخ القومية ملطخ بالدماء مملوء بالفضائح والمظالم محشو بالخدع والاكاذيب.. وان القومية كانت وماتزال من الاساليب التي تستغل الشعوب بواسطتها لفائدة الفئات الحاكمة وحدها.
كيف توصل (عبد الفتاح ابراهيم) الى هذا المفهوم عن القومية؟ يجيب (عبد الفتاح ابراهيم) قائلا:
بصورة عامة تكونت انطباعاتي عن القومية انذاك من خلال موقفين تاريخيين. من جهة ـ ان المانيا في زمن وليم الثاني اخذت تنمي وتطور علاقاتها بالدولة العثمانية فزار وليم تركيا وبعض اجزاء الامبراطورية وخاصة الاماكن المقدسة كالقدس ـ هذا الاهتمام الالماني جاء بدافع الاطماع الالمانية بممتلكات الامبراطورية العثمانية ونتيجته احتضنت المانيا الحكومة العثمانية ورفعت معها علم الجامعةالاسلامية لبسط نفوذها على الشرق.. ومن جهة اخرى فان الانكليز ايضا بدافع اطماعهم في المنطقة ولمواجهة النفوذ الالماني ومقاومته رفعوا فكرة القومية العربية بوجه فكرة الجامعة الاسلامية.. ولكن هاتين الفكرتين لم تكونا مقطوعتين عن الجذور في الدولة العثمانية نفسها.. بل ان اساسها هو الاسلام من جهة والحركة الطورانية من جهة اخرى فاستغل الالمان فكرة الجامعة.
هذا الاحتضان للفكرتين من قبل الالمان والانكليز بالاضافة الى اطلاعي على اقتران مفهوم القومية الاوروبي بالبرجوازية.. كل ذلك خلق عندي ريبة من كلا الفكرتين ومن الطابع القومي بالذات. زاد كرهي للقومية عندما بدأت أرى بأن مفهوم القومية عند العرب انذاك مفهوم قبلي وذو طابع فاشي».
ان هذا المفهوم كان السبب الرئيسي للخلاف الذي دب بين (عبد الفتاح ابراهيم) وبين جماعة الاهالي الى ما بعد تأسيس (جمعية الاصلاح الشعبي عام 1935) ولاسباب اخرى. تخلى «عبد الفتاح ابراهيم”عن (جمعية الاصلاح الشعبي)، لينصرف بعدها مكرسا حياته للمطالعة والكتابة والتأليف، ممثلا الفكر الاشتراكي الديمقراطي اليساري المتطرف في العراق.