أوراق نوئيل رسام من معتقله

Saturday 20th of May 2017 07:15:34 PM ,

ملحق اوراق ,

رفعة عبد الرزاق محمد
على الرغم من الدراسات والرسائل والمقالات الكثيرة عن تاريخنا الحديث، فإن الباب لم يزل مشرعاً لكل جديد يضيف لهذا التاريخ معطيات جديدة من الأسرار والمعلومات. ولا نضيف جديداً أن الوثائق التي تكتشف هنا وهناك هي التي أعنيها هنا، ومنها الرسائل الشخصية التي وجد حائزوها أنها تضم فوائد تاريخية جديدة، فكان ذلك مبرراً لنشرها وتحقيقها.

ولا شك أن هذه الرسائل تعدّ من الوثائق المهمة لكونها كتبت في وقت حدوثها ولم تكن معدّة للنشر في الأصل. أقول هذا لإدراكي العميق معاناة الباحثين من جراء قلة الوثائق المتاحة بعد ماجرى على مؤسساتنا الوثائقية من عبث ودمار.
ومن أطرف تلك الرسائل تلك التي يكتبها السجناء والمعتقلون عن مشاهداتهم وأحوالهم في سجونهم..ولا شك أن سجناء الرأي في العراق من المثقفين والمتعلمين اكثر من غيرهم ادراكاً لذلك. ومن المفيد أن أذكر أن المؤرخ العراقي الكبير عبد الرزاق الحسني قد كتب أكثر من كتاب من مؤلفاته المهمة في فترة اعتقاله بعد انتهاء حركة مايس 1941 التي اشترك فيها، وقد اعتمد فيها على ما حدثه العديد من رجال السياسة والفكر ممن كان معتقلاً معه في العمارة والفاو. ولم يكتف الحسني بذلك بل كتب الكثير من الرسائل الشخصية الى اصدقائه عن المعتقل وتفاصيله، ومن ذلك رسائله الى الأب انستاس الكرملي التي نشرناها عام 1989.
ومن الكتب الحديثة، صدر كتاب بعنوان (سجناء الفكر في العراق الحديث، أوراق نوئيل رسام من خلف قضبان الحكم الملكي) بتحقيق وتقديم الاستاذ وديع شامخ.
ولد نوئيل رسام عام ١٩١٠ في مدينة الموصل وفقد أبويه عندما كان صغيراً فتولى اخوه الأكبر حنا رسام شؤونه وشؤون إخوته واخواته الآخرين. وكانت الموصل، كبقية العراق، جزءاً من الدولة العثمانية، وبقيت محل أخذ وردّ بين تركيا والدولة العراقية بعد الحرب الأولى، الى أن تم الاتفاق على اعتبارها جزءاً من العراق في منتصف العشرينات.
كانت نشأة نوئيل اذاً مرادفة الى حد كبير نشأة الدولة العراقية الحديثة تحت الانتداب البريطاني. وأثر انتهائه من المدرسة الثانوية التحق بكلية الحقوق الحديثة التكوين في بغداد وتخرج محامياً وعاد ليمارس المحاماة في الموصل. وكان الجو العام في كل أنحاء المملكة العراقية مشحوناً بتفاعلات الحركة الوطنية المعادية للاحتلال البريطاني وكذلك الموجة القومية العربية وقضية فلسطين، فلم يكن غريباً إذا أن ينغمس نوئيل بهذه الأجواء، فانضم في شبابه الى حزب الاستقلال وأسّس جريدة”الجزيرة”وثم جريدة”النضال”التي خصصها لتأييد الاتجاه الذي عمل الى استكمال الاستقلال الوطني، كما قاد المظاهرات المؤيدة بعروبة فلسطين منطلقاً، وهو المسيحي، من جوامع الموصل ايام الجمعة وخاصة اثناء الثورة الفلسطينية عام ١٩٣٦، الثورة التي ألهبت الشارع العربي في مختلف اقطاره. ولم يكن غريباً اذاً أن يتبع كل ذلك التأييد المطلق لحركة مايس ١٩٤١ بقيادة رشيد عالي الكيلاني وخاصة لكونه أحد زعمائها، يونس السبعاوي، زميله في الدراسة والمحاماة والصحافة. فاعتقل كغيره من المئات من العراقيين اثر فشل الحركة وعودة الانكليز والملك والحكم الموالي للإنكليز. (من مقدمة السيد غسان رسام).
تحول بعد فترة واثر انتقاله الى بغداد من عمله كمحام وصحافي وكاتب قصة قصيرة الى رجل أعمال، ولكنه لم يتوقف عن العمل السياسي في العهد الجمهوري، فانضم الى الحركة الناصرية وعمل في مجلس إدارة نقابة المحامين... واثر اعتقاله لفترة شهور في منتصف السبعينات في العهد الصدامي، خرج من العراق وعاش السنوات الاخيرة من عمره (توفي في ١٩٩٨) في الولايات المتحدة بعيداً.
يضم الكتاب تسع عشرة رسالة اولها بتاريخ 15 حزيران 1941، والأخيرة بتاريخ بتاريخ 11 تشرين الثاني 1943 من معتقل العمارة، والحق الكتاب بصور ووثائق نادرة اضافت اهمية تاريخية للكتاب. ومن الواضح عند قراءة هذه الرسائل انها كانت تهدف لأمور عديدة من ضمنها دروس أراد اب نقلها الى ابنه عند الكبر، وكذلك محاولة لتفسير أو تبرير مسيرة ذلك الأب في ايام شبابه. ولكون أنها في معظمها حميمية المزاج كما يقول السيد غسان رسام (نجل الكاتب)، أثرت أن انقلها للقارئ بدون تعديل أو رتوش تذكر.
قدم الكتاب بنبذة واسعة عن أدب الرسائل، أشار فيها مقدمها الى أهم ماصدر من رسائل متبادلة بين الأدباء والكتاب العرب، وألحقها ببعض النصوص الأخرى. ثم وضع قائمة بتعليقاته على نصوص الرسائل. ولعلَّ الرسالة الثانية عشرة ــ كما اعتقد ــ أهم تلك الرسائل وأكثرها أهمية إذ تجد فيها بعض ما يحمله كاتبها من آراء وأفكار سياسية وتربوية مختلفة. يقول فيها رداً على ضابط بريطاني ساومه على إطلاق سراحه إزاء موافقته ــ أي رسام ــ أن ينشر شيئاً في تأييد السياسة البريطانية في الحرب العالمية الثانية، مما يدل على عمق العامل الوطني في مسيرة رجالنا في نشاطهم العام. يقول:
وهناك وجدتني وجهاً لوجه أمام ضابط بريطاني برتبة كرنل يجلس وراء المكتب، فنهض من مكانه وصافحني باسمي وأشار علي بالجلوس على كرسي قبالته ثم أشار بيده للأمر بالانصراف ففعل مع التحية.
وبعد المجاملات المعتادة دخل في صلب الموضوع بقوله: أني مرسل من القيادة العامة لمفاوضتك بشأن اطلاق سراحك وفقاً لشروط معينة بسيطة. وعند تصفحي هذه الأوراق - مشيراً الى ملف ضخم أمامه - تبيّن لي أنك من المعادين لنا والمقاومين لسياستنا منذ زمن بعيد يرجع الى عهد دراستك في المتوسطة والثانوية بالموصل. لقد قمت بقيادة المظاهرات وتوزيع المناشير ولصقها على الجدران ضدنا. واشتركت في الاحتجاج على وعد بلفور وعلى المعاهدات البريطانية العراقية. ثم راح يذكر لي الكثير من الحقائق عن عائلتي وعدد أفرادها والأشغال التي يضطلع بها إخوتي وأقاربي مما غابت عن ذهني ولم تعد تخطر في بالي. ثم قال:
ــ إن القيادة البريطانية تعرف انك في الوقت الحاضر محتاج وفقير بل ومتضايق مالياً وإن السبعة دنانير والنصف التي تدفعها لك إدارة المعتقل شهرياً لا تكفي لسد رمقك ورمق أولادك وزوجتك مما دفعك للاقتراض. لهذه الأسباب كلها جئت للتفاوض معك في مسألة اطلاق سراحك.
- وهل أن إطلاق السراح يحتاج الى مفاوضة. كلمة واحدة منكم واذهب الى بيتي تماماً كما جئتم بي الى هنا.
-هذا صحيح ولكن التعليمات التي عندي تقضي بأن أعرض عليك الشروط التالية، وهي بالحقيقة ليست شروطاً. إن كل ما نريد منك هو اعادة اصدار جريدتك”النضال”وسنضمن لك بيعها ورواجها وبصراحة فإن قنصليتنا بالموصل على استعداد لشراء الى حد ألف نسخة من كل عدد.
- وماذا أيضاً. هل هناك شروط أخرى.
- وأننا نتوقع أن تركز على الأخبار الحربية التي نزودك بها، وتهاجم حركة رشيد عالي باعتبارها حركة طائشة قام به شباب لا يقدّرون المسؤولية ولا يدركون منفعة بلادهم بعد أن باعوا أنفسهم لألمانيا الهتلرية واصبحوا أداة طيعة بين يديها. إن ما ذكرته ليس شروطاً بل اقتراحات معقولة وبسيطة لا اظنك ترفضها.
وقبل أن ينتظر جوابي لاحظ نظرتي النافذة في عينيه ففهم معناها، واستمر في حديثه :
- إن القيادة تنتظر مني تقريراً عن هذه الزيارة فماذا اقول لها؟ موافق أليس كذلك. حتى نبدأ في معاملة الإفراج عنك خلال أيام.
وبالهدوء الذي كنت في أشد الحاجة اليه، وقد ألهمني إياه تعالى، قلت:
- اكتب لقيادتك بأنني لا أوافق على أي شرط من شروطك أو أيّ عرض من عروضك. لقد مضى على اعتقالي سنة ونصف، وأنا عل استعداد للبقاء سنة أخرى أو أكثر وتحت أسوأ الظروف على أن لا أنفذ رغباتكم أو أؤيد سياستكم.