الفن منذ 30 سنة

Monday 29th of May 2017 05:27:05 PM ,

كان زمان ,

بقلم : سعد مكاوي
هل نتطور، ام نحن واقفون في مكاننا من التاريخ لا نتغير ولا نتحرك؟ وما هي سرعة تطورنا؟
كيف كان الجو الفني والاجتماعي في مصر في سنتي 1925 و 1926؟ وما هي التيارات والشخصيات التي كانت تسطير على النشاط الفكري والفني والاجتماعي منذ ثلاثين سنة، وتدفع عجلة التقدم في التاليف، والموسيقى والغناء والمسرح والنقد والرياضة والمجتمع؟

واين كانت قضايا التجديد في الفن وفي النظرة الى المرأة وفي التطلع الى التحرر الفكري والنفسي؟
ان الاسماء البارزة في تلك الفترة نستطيع – وحدها – ان تلقى ضوءاً كاشفا على الحالة الفكرية والفنية في ذلك الزمن الذي يبدو قريبا وان كان بعيدا كل البعد في الحقيقة..
هل تعرف – مثلا – شخصا يدعى انطون يزبك؟؟
ان هذا الاسم كان قاسما مشتركا في معظم الصحف والمجلات الفنية التي كانت تصدر في ذلك العهد.. وكان القراء يجدون في بعض الاحيان مقالا طويلا في ثلاث صفحات يشن به كاتبه "المكاتب الغني" هجوما ضيقا على ذلك الانطون يزبك.. "ان الروائي الكبير انطون يزبك ليس في حاجة الى ان تقدمه لرواد المسارح، فالكل مدينون له بالبكاء والتشنج:".
انه مؤلف مسرحية "الذبائح" التي يموت جميع ابطالها، وبطلاتها فوق خشبة المسرح، والتي احدثت عند تمثيلها على مسرح رمسيس نضجة كبيرة..
ولكن.. هل كانت كل المسرحيات التي تقدمها المسارح المصرية من طراز "الدبائح" المروعة؟
لقد كان هناك – دائما – جورج ابيض.. وكان يحيي موسمه التمثيلي بدار الاوبرا، ويقدم تمثيليات مترجمة من نوع "روى بلاس" و"الاسكندر" و"المتسول".. وكانت هناك منيرة المهدية وفرقتها.. اسم كالطبل في البلد، وصوت له عشاق كبار.. نستطيع ان نشاهد في مسرحها رواية "ألحرة" او "كلها يومين" او "الغندورة" او "كليوباترا ومارك انطوان".. والمؤلف الذي يزودها برواياته هو الشيخ يونس القاضي، الكاتب المسرحي الشهير..
والسيدة فكتوريا موسى "حسناء الفن الموهوبة" هي الممثلة الاولى بفرقة ترقية التمثيل العربي.. وعندما يخلو المسرح منها ذات ليلة، تأتي اشهر مغنيات القاهرة لاستئجار المسرح والظهور عليه امام جمهور المعجبين من "السميعة" وعشاق "الطرب".. فهذه "الست فتحية احمد" في رواية غنائية باهرة بقلم الروائي الكبير الاستاذ امين صدقي.. اسم ضخم يملأ الاسماع..
واسم الرواية : قنصل اللوز!
والالحان من وضع الاساتذة:
* داود حسني
* محمد عبد الوهاب
* ابراهيم فوزي
اما الادوار المهمة في الرواية - بعد دور "الست" طبعا – فيمثلها بديعة مصابني ونجيب الريحاني..
هاهما الاسمان الكبيران قد ظهرا في (قنصل الوز!): محمد عبد الوهاب ونجيب الريحاني..
ها قد رأينا محمد عبد الوهاب احد ثلاثة ملحنين قاموا بوضع الحان رواية "قنصل الوز".. وقرانا اسمه بعد اسم داود حسني وقبل اسم ابراهيم فوزي – الذي كان هو ايضا في ذلك العهد ملحنا مرموق المكانة – فما هي اخبار محمد عبد الوهاب يومذاك!.. لنفتح واحدة من المجلات الفنية في ذلك الزمان.. هذه صورة فتى اسمر ناحل طالت سوالفه وهامت عيناه في عالم الخيال هياما مصطنعا!.. لنقرأ السطور المكتوبة تحت هذه الصورة!
"محمد افندي عبد الوهاب.. حاز ولما يبلغ العشرين من عمره صار عريضا بجسده عليه زملاؤه الفنانون والملحنون.. له في التلحين نحو خاص لا يجارى فيه.. وكان اخر فوز له في رواية قنصل الوز التي لحن فيها المفردات التي تغنيها الست فتحية احمد.."
لقد كان اول ما لقب به عبد الوهاب البلبل الصغير!
ثم صار لقبه: بلبل الشرق! ثم نودي به: مطرب الامة والعظماء!
ثم طار العظماء المساكين من شرف الاستماع اليه، ليحل محلهم
- مطرب الملوك والامراء!
وماذا يغني عبد الوهاب؟
يغني قصائد ومواويل وطقاطيق.. ويحب الناس اغنيته الناجحة: (حبو العوائل يكيدونا
طفوا علينا النور!!"
واذا غنى عبد الوهاب بدار العربي التمثيل سارعت الهوانم الى الالواج والبتاوير.. وتوزع الشوارع اعلانات كبيرة حمراء وصفراء تقول بالبنط العريض:
حفلة طرب وغناء بدار التمثيل العربي يحيها بلبل الشرق الاستاذ محمد عبد الوهاب ملحن كليوباترا ومارك انطوان على تخت الات وطرب!
بادوار واناشيد والحان غاية في الابدا!
هيا تشبهوا بالامراء والعظماء في سماع الفنان الصغير!
***
ولا يقف عبد الوهاب "الصغير وحده في ميدان الغناء والموسيقى والطرب.. هناك دائما صالح عبد الوهاب بصوته الملعلع.. ذلك المغني الابدي في قرن مصر العشرين.. وهناك دائما اسم ضخم جدا في عالم الموسيقى هو مصطفى (بك) رضا، رئيس قسم الموسيقى الشرقي.. ويتحدث عنه "النقاد فيقولون لك "انه ياتي زائره بظرف جم وادب رائح وابتسامة حلوة هادئة..!!"
وهناك "محمد افندي العقاد" الذي تلقبه الصحافة الفنية "شيخ الموسيقيين"
ومن وقت الى آخر تطالعات احدى المحلات الفنية العديدة باستفتاء ضخم من "اشهر المغنيات في مصر".. فماذا تكون نتيجة الاستفتاء!
هي خمسة اسماء بالترتيب التالي:
* الانسة ام كلثوم
* السيدة منيرة المهدية
* السيدة نعيمة المصرية
* الست توحيدة
* الست فتحية احمد
اما "النقد الفني" نفسه فهو في الغالب هجوم عنيف.. وقد يبلغ من القسوة ان يقول احد "النقاد" من المغنية منيرة المهدية انها "شمطاء المطربات".. ولاحظ ان هذا الكلام من ثلاثين سنة!..
وفي اليوم التالي يعلم شارع عماد الدين كله ان الناقد الفاضل قد ضرب "عقله سخنة، في الشارع من قنوات الست المغنية!
وهكذا يجرنا الكلام عن المغناه وعالم الطرب الى النقد والنقاد في ذلك الزمن السعيد..
واحد منهم هو "الاستاذ الاديب محمد صلاح الدين المحامي" – وقد صار بعد ذلك وزيرا لخارجية مصر – يرفع علم السخط على حالة التمثيل في مصر.
"لا يستطيع مدع ان يزعم ان التمثيل في مصر له شأن يصح ان تعتد به وترتاح اليه.. والعيب في ذلك عائد على الحكومة والجمهور والصحافة والممثلين جميعا.. "
وكان النقاد والمكائيون الفنيون يعتزون بكلمة "الاديب" قبل اسمائهم اعتزازاً كبيرا..!! اثنين مقتدرين هما "حندس" وعبد المجيد حلمي.. ولقد كان عبد المجيد حلمي – الذي مات شابا – عاشقا حقيقيا من عشاق الفن المسرحي.. وقد كتب ذات مرة مقالا عن رواية "تمر الرمان" انتقد فيها تمثيل الست منيرة المهدية فاطلقت وراءه قنوات عماد الدين، حتى اضطر ان يمشي حاملا "شومة" في يده، استعدادا لساعة التفاهم!..
وكتب عبد القادي المسبوري في مرة اخرى نقدا خفيفا عن الست ماري منصور، فارسلت وراءه عصابة من اصحابها ليلقوا عليه درسا عمليا في فن الكتابة، وليبرهنوا له على ان العصا اقوى حجة من القيم!..
وفي مرة اخرى اوقف صعلوكان الناقد جمال الدين حافظ عوض في الطريق العام في منتصف الليل، وامراه ان يكف عن الكتابة ضد الست فلانة، والا...
وممثلة – وزوجة ممثل معروف – هددت ناقدا بالشبشب.."والقت عليه محاضرة طويلة عن اصله واصل ابائه واجداده، والمحاضرة في ذاتها تعتبر قطعة نفيسة في فن الردح والتشليق.. ولما كان الردح من الفنون التي اهمل النقاد دراستها، فقد وقف المسكين حائرا عاجزاً عن الرد!.."
وقد بلغ من "انتشار" عملية "ضرب" النقاد ان احدهم اقترح عليهم ذات ليلة في قهوة الفن ان يتمرنوا على المصارعة والملاكمة لكن يستتطيعوا الدفاع عن انفسهم ضد فنانات البلد!!.
ومن اعنف الحملات النقدية في ذلك العصر مقال عن الممثل زكي عكاشة بعنوان:
لماذا خلق الله زكي عكاشة!!
وهذه فقرة من ذلك المقال:
"... لجماعة الصوفيين رأي يفسرون به السر في خلق الحشرات المؤذية وسر ابتلاء الله لعبيده بالاوجاع والامراض.. فيقولون لولا المرض لما عرفت نعمة الصحة والعافية ولولا قباحة الخلقة لما ادركنا معنى الجمال، ولولا الحنظل لما تذوقنا حلاوة الشهد.. ولولا ثقل الدم لما عرفنا معنى خفة الدم في الاخرين..
اذن ففي وسعنا ان نضع زينة الشباب زكي عكاشة في صف الحشرات والامراض والاوجاع وغيرها مما لا غنى عنه في الحياة، اذا اردنا الاستمتاع بما فيها من خير وجمال..!!.
**
والمسرح، كيف كانت حالته؟
هناك اربعة من الكتاب المسرحيين الذين فازوا بجوائز الروايات التمثيلية"..
* ابراهيم رمزي
* انطون يزبك
* عباس علام
* سليمان نجيب.
اما زكي افندي طليعات، فقد نشرت الصحف نبأ سفره الى فرنسا لدراسة فن التمثيل، على نفقة حكومتنا السنية"...
والانسة امينة رزق هي "اصغر ممثلة ظهرت على المسرح العربي، وعمرها لا يتجاوز الخامسة عشرة، ومع ذلك فعندها مواهب قل ان نجدها عند اية ممثلة مبتدئة..."
وكشكشي بك؟... لقد عاد من رحلته الطويلة في امريكا هو والسيدة الرشيقة زوجته بديعة مصابتي.. وهما يشاهدان معا كل ليلة في حانة اورسيتي بشارع عماد الدين.. ان هذه الراقصة المغنية الممثلة بديعة مصابتي تفتن القاهرة.. والجميع متفقون على ان لها (او لصوتها ورقصها) نصيبا كبيرا في نجاح الروايات التي يمثلها نجيب الريحاني.. انها الوحيدة في مصر التي تجمع في رقصها بين الفن الغربي والخلاعة الشرقية!..
ونجيب الريحاني يشكو من المجلات الطويلة اللسان التي تتبرع بنشر الارقام الحقيقية لارباحه الهائلة في المسرح الاستعراضي.. لقد بلغ صافي ايراده الشهري من رواية (1918 – 1920) التي مثلت ثلاثة شهور متوالية 1200 جنيه.. وبلغ دخله في عام 1919 اكثر من اثني عشر الف جنيه..
و"حسين رياض" شاب قدير من ابطال الشباب على المسرح.. و"زكي رستم " فنان يبشر هو الاخر بمستقبل حسن: "فالقاؤه متزن، وصوته منم، واشاراته طبيعية خالية من اي تكلف، وجسمه منسرح بغير بدانة" و"فردوس حسن" يدعوها المكاتبون الفنيون" في بساطة "ام علي"؟
و"جورج ابيض" اكبر ممثل! و"يوسف وهبي" اكبر مهوش! و"فاطمة رشدي" الهة الفن! وبمناسبة فاطمة رشدي.. لقد كانت الثانية في الجمال في استفتاء عام حول (الجمال والوجاهة والرشاقة والدلع)!
وهذه هي نتيجة الاستفتاء:
الاولى في الجمال: رتيبة رشدي
الثانية في الجمال: فاطمة رشدي
الاولى في الدلع : منيرة المهدية
الثانية في الدلع : لا احد بعد منيرة!
الاولى في الرشاقة : ماري منصور
الثانية في الرشاقة: امينة رزق
الاولى في الوجاهة: عزيزة امير
الثانية في الوجاهة: زينب صدقي
وها قد جاء في الكلام اسم عزيزة امير..
ان جميع المجلات الفنية قد اعلنت يزهو وفخار في اكتوبر من سنة 1927 ان السيدة عزيزة امير قد انتهت من انتاج وتمثيل اول فيلم مصري "ليلى" الذي اخرجه لها ستفان روستي..
وقيل عن عزيزة امير في اكثر من مجلة فنية انها من طلائح النهضة النسائية الشاملة.
ووقفت كلمة النهضة النسائية في زور بعض "الكتاب" و"في كل يوم يقوم على وجود نهضة نسائية في البند دليل جديد.. فمن رقص ومخاصرة للرجال.. الى قيادة السيارات والظهور سافرات في المنتديات العامة.. الى هجر المنزل ومزاحمة الرجال في قاعة جروبي وصولت.. واخر ما سمعناه عن هذه النهضة ان للنساء الان ناديا للعب التنس، واللي يعيش بشوف العجب"!.
وفي مصر – غير استنكار سفور المرأة وتحررها – ثورة على العمم!
فقد اعلن طلبة دار العلوم الحرب على العمم التي عاشوا تحتها زمنا طويلا.. ورفضت وزارة المعارف ان تسمح بذلك لهم.. ودارت معركة عنيفة كانت نتيجتها ان اقفلت ابواب العام في وجوه الطلبة، لا لشيء الا لانهم يريدون ان يلبسوا الطربوش، اية تحرير الفكر".. وان وزارة المعارف تريد ان تسحق تحرير الفكر تحت نقل العمة!.. كما قال كاتب يدافع عنهم!..
فاذا بلغنا في آخر الشوط ميدان الرياضة في مصر، وجتدنا فريق يوغوسلافيا المشهور في كرة القدم "الهاجدوك" في ضيافة مصر.. وفيما يلي وصف ناقد رياضي لمباراة "الهاجدوك" ضد منتخب القاهرة بعد ظهر يوم الجمعة 25 ديسمبر سنة 1926..
"... بعد تشريف اللورد جورج لويد بدا اللعب واخذ المصريون يتناقلون الكرة بحنكة ورشاقة.. ولم تكد الكرة تنتقل من حجازي لمختار الكبير لعلي رياض حتى كان امام المرمى.. الا انه اخطأء..
"وكانت الاصابة الاولى في مرمى حارس مصر عسكر.. وتلاها هدف اخر للضيوف، اثر لعبة خاطئة من الحسني..
".. وفي الشوط الثاني احرز علي رياض هدفا لمصر... وتلاه هدف ثالث للضيوف.. ثم هدف ثان لمصر احرزه مختار الكبير..
ولكن لم يلبث المصريون ان بدت عليهم علامات التعب والتراخي.. ولم يستعملوا تبادل الكرة القصير، فتمكن الضيوف من اصابة الهدف مرة رابعة" وهكذا انتهت مباراة يوغوسلافيا ضد مصر منذ 29 سنة، باربعة اهداف للضيوف، ضد هدفين!
اسال نفسك بعد هذه الجولة القصيرة السريعة في اجواء الفكر والفن والمجتمع عندنا منذ ثلاثين سنة: هل نتطور ولا نتحرك في مكاننا من التاريخ!
ثلاثون سنة..
ما اقصر هذا الزمن.. وما اطوله!

الجيل-كانون الثاني-1956