د. رفعت السعيد
فيما كانت مصر مرتبكة إزاء مقالٍ ليعقوب صروف نُشر في مجلة المقتطف عام 1876 حول”دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس”مؤكداً أن هذا الأمر”أصبح أشهر من نار على علم وأوضح من الصبح لكل ذي عينين وتحققت صحته لكل ذي عقل سليم يطالع ويفهم”وهاجت الدنيا وتقدم الأب جبريل غباره أرشمندريت الكرسي الانطاكي ببيروت المعارضين بمقال أثبت فيه بالأدلة الدينية ثبات الأرض وعدم تحركها.
وبالمقابل تقدم مصطفى باشا رياض وعبدالله باشا فكري من مصر كتيبة المدافعين عن رؤية العلم الحديث والعلوم الطبيعية خاصة مؤكدين أن دوران الأرض لا يخالف تعاليم الدين.
(1)
ويقول محمد عبدالغني حسن في كتابه”عبد الله فكري”(سلسلة إعلام العرب صـ199) أن هذه الأطراف قد أجمعت على إحكام المناورة لتأييد قضية الموافقة بين العلم والدين حتى لا يتعطل بحركة المحافظين سير العلم الطبيعي وتقدمه فى البلاد العربية التي كانت ولا زالت في أشد الحاجة إليه، وفى ظل هذا المناخ وصل شبلي شميل الى مصر ليشارك فيها شجاعاً ومتحدياً الجميع ليصدر كتاباً هزَّ أركان الصفوة المثقفة فى مصر والعالم العربي وهو”كتاب فلسفة النشوء والارتقاء”وهو ترجمة لشرح”بخنر”على مذهب داروين. ويدرك شميل حقيقة الكنز الذي يفجره في وجوه الجميع فيكتب على غلاف الكتاب”طالع هذا الكتاب بكل تمعن، ولا تطالعه إلا بعد أن تطلق نفسك من أسر الأغراض لئلا تغم عليك وأنت واقف تطل على العالم من شرفة عقلك تتلمس الحقيقة من وراء ستارها”لنتأمل هذه الكلمات ولنستشعر الدهشة لأننا نحن لم نزل حتى الآن بحاجه إلى تكرارها في وجوه الجميع. ويبدأ شميل كتابه ببيت شعر يقول فيه
يدفن بعضنا بعضاً ويمشي / أواخرنا على هام الأوائل
ثم يبدأ قائلاً”وأعلم أن الإنسان على رأي هذا المذهب طبيعي هو وكل ما فيه مكتسب من الطبيعة، وهذه الحقيقة لم يبق إلى الريب فيها اليوم ولو أصر على إنكارها من لا يزال مفعول التعاليم القديمة راسخاً في ذهنه رسوخ النقش في الحجر فالإنسان يتصل اتصالاً شديداً بعالم الحس والشهادة وليس فى تركيبه شئ من المواد والقوى يدل على اتصاله بعالم الروح والغيب، فإن جميع العناصر المؤلف منها موجودة في الطبيعة وتعمل على حكم قوى الطبيعة فهو كالحيوان فسيولوجيا وكالجماد كيماوياً والفرق بينهما فقط بالكمية وليس الكيفية والصورة الماهية والعرض لا الجوهر".. هكذا قلب شبل شميل المائدة على الجميع بحديث شديد الصراحة وشديد الوضوح فى مجتمع لم يزل ينكر الكثيرون فيه مسألة دوران الأرض. وبرغم أنه يكتب مقدمة لكتاب عن”نظرية النشوء والارتقاء”فإنه يربط بين ذلك الاستخدام العاقل للعقل بمعركة الإنسان ضد الظلم والاستبداد. ونقرأ”فما عسى أن ينفع الفضيلة التي يذهب أصحابها غنيمة باردة في هيئات اجتماعية ترفع من شأن الجاني وجنايته، وتجل قدر المسئ وإساءته وأيضاً ولا تعاقب على أقبح الذنوب إلا إذا كان مرتكبوها ضعافاً، فإن الهيئة الاجتماعية تقاضي الضعاف على ذنوب هي بذاتها ترفع من شأن أصحابها إذا كانوا أقوياء فالقانون يجب إلا يؤخذ من أفواه الرؤساء والأثرياء وإنما يؤخذ من لسان حال الصعاليك والفقراء حتى يكون أقرب إلى الإنسانية والى إقامة العدل الصحيح وليس إلى تنفيذ الأهواء و"الأغراض النفسانية”ثم يقول”أن قتل الآمال أشد من قتل الأجساد والظلم وضياع الحقوق لا يصبر عليهما ذوو النفوس الأبيه”ثم يواصل هجومه وهو لم يزل في المقدمة”فالملوك لا يُعارضون في ما يقولون أو يفعلون كأنهم من الزلل معصومون أو عن الغرض منزّهون”ثم يقول شعراً
من لي برد جماح من غوايتهم / كما يرد جماح الخيل باللجم.
ويقول”أنهم لا يعلمون أن العرش الذي يجلسون عليه يقوم على قاعدة هي الأمة، فإن انسحبت الأمة من تحتهم إنهار هذا العرش. ثم يعلو صوت شميل متحدياً الجميع”العدل كل العدل في الانتقام من الظالمين، وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون”ثم يعود ليقول”إن الملك يتصور نفسه من طينة أرفع من طينة الأمة وإذ لا يجد أي معارض له فإنه يسكر فى خمر مجده ويعيش في تيه ضلاله. وربما نصب نفسه إلها فى أعين الأمة، فيستبد بالرعية ولا شريعة له سوى إرادته ولا قانون سوى هواه، فيستنزف ثروتها ويقتل أولادها، وعلى الإجمال يتصرف في الأمة تصرف المالك في ملكه”ثم هو يتخطى الحدود ليعلن أنه لا يريد ملوكاً أصلا وإنما”جمهورية ديمقراطية يتم فيها توزيع المسئوليات على قدر المنافع العمومية بحيث تتوافر فيها المنفعة لكل فرد في المجتمع بدون أدنى تمييز مطلقاً”ثم يصيح متوعداً”فمهلاً سادتي الجالسين على عرشكم العالي وبيدكم صولجان المجد والقوة فلا يغضبكم إنذاري، ولا تغضبوا من حكم الزمان إذا جاء العدل، فقد صبرنا طويلاً على مضض ولا تطمعوا باسترداد ما فات.. وساعتها سنقول لكم وبأعلى صوت
لقد انقضت تلك السنين وأهلها / فكأنها وكأنكم أحلام”
والغريب أن كل ذلك يأتي فى مقدمة لكتاب عن”فلسفة النشوء والارتقاء”وكأن شبلي شميل يريد أن يرسخ فكرة تمسك بها على الدوام وهي أن أعداء العقل هم أعداء العلم وهم في نفس الوقت أعداء الشعب وأعداء حقوقه وحريته وأن معركة الانتصار للعقل والعلم يجب أن تسير جنباً إلى جنب في المعركة ضد الظلم والاستبداد.
كل هذا ولم نزل في المقدمة
2
ونتابع شبلي شميل في كتابه الصادم للجميع”فلسفة النشوء والارتقاء”ونأتي إلى خاتمة الكتاب بعد أن طالعنا بعضاً مما جاء في المقدمة فهو يخاطب القارئ قائلاً”إذا كنت قد عملت بالوصية كما وجدتها على غلاف الكتاب وطالعت الكتاب بكل تمعن، وكنت بالإضافة إلى ذلك قد تمكنت من التغلب على مؤثرات تربيتك السابقة بحيث أصبحت مستقلاً في أحكامك وغير منقاد لأفكار ليست من صميم العلم ولو كان قائلها عالم عظيم، فالعلم مباح لك، كما هو مباح لسواك، ولو كنت قادراً على النظر للحقيقة فإنه لا يسعك إلا الاعتراف معي مضطراً بما يأتي :
أولاً: أن علوم الأقدمين علوم كلامية أكثر منها علوم عمل، وفلسفتهم فكرية أكثر من كونها محسوسة، ومجرده أكثر من كونها ملموسة، روحانية أكثر منها جسمانية، كلامية أكثر منها اختباريه، وأمنيات أكثر من كونها حقائق مكررة.
ثانياً : أن علوم الأقدمين وفلسفتهم انتقلت إلينا وبقيت زماناً طويلاً كما هي، راسخة في عقولنا بلا تغيير.
ثالثاً : إذا قارنا بين الشعوب والأمم والحكومات اليوم في أنحاء العالم نجد بينها تفاوتاً عظيماً جداً، ونجد أنه حيثما كانت علوم الكلام فيها منتشرة كانت العلوم الطبيعية فيها منحطة وكان الإنسان من ثم منحطاً متقهقراً وحالته الاجتماعية سيئة".. وإذ ننتقل إلى رد فعل الكتاب عند الجمهور نقرأ تعليقاً كتبه شبلي شميل عن موقف الناس منه فيقول”لقد أحدث نشر هذا الكتاب لغطاً عظيماً مع إنه لم يطبع منه إلا خمسمائة نسخة لن تنفذ إلا بعد خمسة عشر عاماً، واللغط كان قليلة من الخاصة أو القلة المعدودة فقاموا لينفونه كله أو بعضه كل على قدر علمه أو حسب هواه، وكثيرة من العامة الذين أكثروا من الجلبة عن سماع وليس عن مطالعة، ذلك لأنهم سمعوا أن فيه مساساً بأعز شئ لديهم هم عليه حريصون وهو الدين". إما مؤيدوا شلبي شميل وأنصار أفكاره فقد كانوا أجبن من أن يعلنوا رأيهم ويقول شميل عنهم”وعندما طالبتهم بأن يؤيدوني بكتابتهم فى الجرائد خدمة لأمتهم، أحجموا فعلمت أن الحرية فيهم لم تتجاور حد الفكر ولم تصل بهم إلى القول به”ولهذا صرخ شبل شميل في وجه العالم اجمع”الحقيقة أن تقال لا أن تُعلم”فليس مجدياً أن تعرف الحقيقة وتعلمها، وإنما أن تعلنها وتتمسك بها.. ثم هو لا يخفي حقيقة مقصده من إصدار هذا الكتاب فيقول صراحة”إن هذه الرجة التي أحدثها هذا الكتاب هي المقصودة مني في ذلك الحين، لإيقاظ الأفكار من نومها العميق، والحركة مهما كانت خير من السكون”ثم يقول”فما كنت اطمع بأن أرد الناس إلى موقفي في هذا الزمن القصير، وأنا لا أجهل ما يحول دون ذلك من الصعوبات، بل إني قصدت مباغته الأفكار للفتها إلى غير مألوفها، ولم أكن اجهل أن إلقاء حجر في المستنقعات الراكدة لا يقلق الضفادع المطمئنة، إلا أنى لا أجهل أيضاً فعل الخمير المخمر فإن اقل ما يعلق بالعقول ينمو فيها غالباً بسرعة الاختمار نفسه خصوصاً إذا صادف استعداداً فى النفوس.. فيكون مثل هذا التنبيه بمثابة الشرارة التي تثير القوى الكامنة فيه”ذلك أن الإيمان بمذهب النشوء والارتقاء يحدث في الإنسان كما يؤكد شميل”تغييراً جوهرياً بحيث يتجدد كلياً كأنه وجد وجوداً جديداً فتتغير أخلاقه وفلسفته وسياسته وشرائعه وحكوماته وغير ذلك مما يتعلق بهيئته الاجتماعية”ولا بد لنا أن ندرك أن شميل تمسك بنظرية داروين ليس لمجرد الدفاع عن موقف علمي صحيح وإنما للدفاع عن التقدم بشكل عام، وسبيلاً لزعزعة سلطان الأفكار القديمة على العقول مستهدفاً تحرير العقل من أسر الأساطير والأفكار القديمة. والجدير بالذكر أن شميل لم يستند فى تمسكه بنظرية النشوء والارتقاء إلى مجرد الفكر الداروني الذي هو بالأساس منبت أوربي، وإنما استعاد أيضاً أفكار الماديين العرب وعلى رأسهم أبي العلاء المعرى وكما رأينا فى السابق فإن شميل قد بدأ مقدمة ترجمته لشرح بخنر ببيت شعر المعري الشهير والذي يتفوق به حتى على داروين نفسه والقائل
يدفن بعضنا بعضاً ويمشي - أواخرنا على هام الأوائل
كما استند فى مجادلاته إلى أفكار ابن خلدون عن التطور الاجتماعي والتغييرات المجتمعية. واستطيع أن اذكر أن شميل قد نجح رغم صعوبات المعركة الفكرية التي خاضها في أن يترك أثراً بالغ الأهمية على عديد من مفكري عصره وكمثال تكرر كثيراً يحكي لنا إسماعيل مظهر قصة وقوعه فى الفخ الداروني في عام 1911 وكان عمره آنذاك عشرون عاماً ونقرأ ما كتبه عن نفسه”كنت منغمساً في الفلسفة القديمة انهل من كتابات العرب بأقصى ما تستطيع الوصول إليه من كتابات، وحينئذ وقعت في يدي نسخة من كتاب د.شلبي شميل”فلسفة النشوء والارتقاء”فأحدثت قراءتها فى ذهني من الانقلاب والأثر ما تعجز الكلمات واللغة عن التعبير عنه أو وصفه فإنزلقت قدماى إلى ساحة الآراء المادية”ليس هذا فحسب بل تفوق مظهر على شميل الذي اكتفى بشرح بخنر على نظرية داروين فقام مظهر بترجمة الكتاب الأصل إلى اللغة العربية وكانت أول فرصة يطالع فيها قراء العربية كتاب داروين وترجم مظهر الكتاب وأعطاه عنوانه الكامل”تشارلز داروين – أصل الأنواع ونشوؤها بالانتخاب الطبيعي، وحفظ الصنوف الغالبة فى التناحر على البقاء”وقد صدرت الترجمة عام 1918 فأحدثت ضجيجاً معارضاً لم ينقذ مظهر من آثاره إلا أحداث ثورة 1919.. التي شغلت المصريين.
3
لكن عقلانية شبلي شميل كانت إلى حدٍ ما ميكانيكية لا تفرِّق بين تطور المجتمع وتطور الأفراد. وهو يتمسك بحماس متقد للعلوم الطبيعية ويروِّج لنظرية سبنسر المسماة النظرية العضوية للمجتمع، وهى نظرية فاشلة حاولت أن تحلل مجرى الحياة الاجتماعية بشكل ميكانيكي وفقاً للقوانين الطبيعية وقد أتاه ذلك فى الأغلب عبر دراسته لأفكار”بخنر”فتخيل أن تقدم العلوم الطبيعية هو مفتاح كل تقدم، ويقول”إن العلوم الطبيعية هي الوحيدة القادرة على زعزعة أركان العلوم الكلامية والنظرية ويهدم أركانها. فالشرائع التي تسوس الجتمع اليوم والمبنية على العلوم الكلامية هي شرائع استبدادية لا تنطبق على نواميس الطبيعة التي لا يصلح المجتمع إلا بها. وقد قادت هذا المسلك الخاطئ إلى طريق مليء بالعثرات وحول كل شعاراته عن التقدم والإطاحة بحكم الاستبداد وتخليص الشعب من حكم المستبدين إلى مجرد أحلام وأوهام. ذلك أنه اعتقد (لفترة ما) أن التقدم لا يتحقق من خلال التناقضات الكامنة في المجتمع ولا من خلال صراع طبقي أو مجتمعي وإنما فقط بفرض العلوم الطبيعية وإحلالها محل العلوم النظرية.
وقد وصف أحد معاصريه منطق شميل (بأنه منطق أعمى وغير منطقي) وكمثال فإن شميل وكان فى زمانه أهم دعاة التحرر في الشرق والغرب وأكثرهم دفاعاً عن فكرة المساواة وتأكيداً لضرورة تخليص البشر – كل البشر – من قيود التعصب والتسلط يأتي ورغم ذلك كله إتخذ من قضية المرأة ومساواتها بالرجل موقفاً سلبياَ تماماً”فلا مساواة بين الرجل والمرأة لأن جمجمة الرجل أكبر من جمجمة المرأة، ودماغ الذكر أثقل من دماغ الأنثى". ثم يقول من دون تردد”ولذلك كان الذكر أعقل من الأنثى بإجماع الحكماء والطبيعيين وقد اتفقت جميع الشرائع على أن تعامل المرأة معاملة القاصر المحتاج إلى وصي وذلك بسبب ما بها الخفة والطيش”(المقتطف – المجلد 11 عام 1886)، بل أنه يقول فى ذات الدراسة”أن المرأة تنحط عن الرجل كلما كان الإنسان أعرق في الحضارة والمدنية بينما هي تتساوى معه أو تتفوق عليه كلما كان الإنسان أقرب إلى البداوة والخشونة جسدياً وعقلياً”ثم يمضي قائلاً”نحن نعتقد فى صحة القاعدة القائلة أن تغلب الرجل على المرأة من ضروريات الارتقاء والضد بالضد”ويتعرض شميل بسبب هذا الموقف لهجوم شديد من دعاة مساواة المرأة ومن المرأة ذاتها فيرد على منتقديه بكبرياء”كيف يمكن أن تكون مساواة بين الرجل والمرأة وهما مختلفان في الطبع من أصل الفطرة وفي التركيب والقابليات والواجبات، فطلب المرأة مساواة الرجل مثله مثل طلب الرجل مساواة المرأة أمر مستحيل”(المقتطف – المجلد الثاني عشر 1887). لكن المشكلة الأفدح هي أن هذا التفكير الميكانيكي قد قاده إلى موقف مستهجن إزاء الاحتلال البريطاني لمصر فقد وجد أن الانكليز الذين يحتلون مصر يمثلون دولة أكثر تقدماً في العلوم الطبيعية من تركيا وتابع قيامهم ببعض التقدم في مجال التعليم فأغراه ذلك بتصور أن هذا هو السبيل المتاح لتقدم مصر.. ذلك أن الاحتلال برغم كل عيوبه يسير بمصر في طريق العلم، وحتى في الموقف من أن امتياز قناة السويس اتبع شميل ذات المنطق الميكانيكي”فحق الأمة فوق حقوق الأفراد وحق العالم فوق حقوق الأمم”ولهذا فإن قناة السويس يجب أن تكون للعالم أجمع وليس لمصر. وهنا تعرض لهجوم شديد من المصريين وكتب أحدهم يهاجمه”اليوم الوحيد الذي فازت فيه الأمة على الحكومة أتيت يا حضرة العالم والفيلسوف لتقف ضدنا، فدع علمك لنفسك ولبلدك (أي الشام) ودعنا فى جهلنا. وتألم شميل ولكنه شعر في الوقت ذاته بأنه مضطر للانصياع لهذه النظرة الميكانيكية فتأوه شعراً
فيا وطني ما خانني فيك خائن
من الحب أو أني رضيت به ندا
أريدك في عز ولكنني أرى
على غير ما أرضى العز قد ندا
فإن جرت في حكمي فما أنا جائر
وما أنا إلا باحث لم يجد بدا
ولكن شميل لم يكن يأمن للانكليز ولا يوافق على سياساتهم حتى في مجال التعليم فيقول”الانكليز مع أتيانهم للإصلاح في جميع الفروع الإدارية لم يأتوا في أمر التعليم إصلاحاً عظيماً كما ينطق بذلك الإحصاء الذي يقدمونه بعد 15 عاماً من الاحتلال للبلاد، والسبب في ذلك أن الحكومة الانكليزية في فتوحاتها قلّما تهتم بالتعليم ولا تجرد حسامها إلا لتفتح طريقاً لتوسيع نطاق تجارتها ولتحويل ثروة الأمم إلى خزائنها”
وهكذا اثبت شميل أنه يفهم حقيقة الاستعمار فهماً صحيحاً.
(4)
وبرغم خضوعه لفترة لميكانيكية التفكير إلا أنه ما لبث أن خاض معركة ضارية ضد الاستبداد والمستبدين ويوجه حديثه ضد الملوك من دون خوف”مهلاً سادتي الجالسين على عرشكم العالي وبيدكم صولجان المجد والقوة فلا يغضبكم إنذاري، ولا تقنطوا من حكم الدهر إذا عدل”وهو يكشف خدمة الاحتكام لقوانين ظالمة يسنها المستبدون ليحموا أنفسهم بها، مدعين أنهم يحمون العدل والقانون. فالإنسان سعى لكي يقهر بعضه بعضاً، إنسان يقهر إنساناً، وقبيلة تقهر قبيلة وأمه تقهر أمه، وهكذا تجد الظالم يظلم وهو ينادي بالعدل ويتحيز وهو يعلم الناس التواضع، ويغضب وهو يوصيهم بالحلم”بل هو يهاجم النظام القضائي والأسس القانونية لأنها فى الجوهر خالية من العدل الحقيقي، فالعقاب أثر من آثار الهمجية والظلم، فلماذا نعاقب الكاذب مثلاً ألسنا نحن الذين علمناه أن يكذب لأنه رآنا نعاقبه على الصدق وأن يسرق لأننا حرمناه مما يحتاج إليه".. ومن هذه الكلمات ينطلق للمطالبة بإقامة نظام جمهوري لكنه يريدها”جمهورية حقيقية، يتم فيها توزيع الإعمال على قدر المنافع العمومية بحيث تتوفر فيها المنفعة لكل فرد في المجتمع دون أدنى تمييز”ويواصل”جمهورية يصبح فيها الشعب هو الكل والحكومة لا شيء، أي أنها تختلف عن حكومات أوروبا وجمهورية فرنسا فإنها جميعاً متقاربة في نظمها متساوية في ظلمها وأن اختلفت الأسماء وكلها عاجزة عن تحقيق مطالب المجتمع اليوم وفى المستقبل”أما كيف يتحقق مثل هذا الحلم؟ فإنه يقرر”إذا رفض الشعب الاستبداد زال الاستبداد، وإذا خضع للطغاة واصل الطغاة طغيانهم ولهذا لابد من أن تتحرك الأمة”ثم يحذر”لا ينتظر أن تكون الحكومة أفضل من الأمة، بل لا تلام الحكومة إذا داست بقدمها على رقاب الرعية، فهل تداس رقاب تأبى أن تداس؟ أن من ينتظر أن يأتي الإصلاح من أيه حكومة برضاء منها فإنه يجهل تاريخ نشوء الأمم، فالتاريخ أمامنا فالحكومات في كل البلدان تذعن للإصلاح تحت ضغط مطالب الشعب”والثورة آتية”فالأيام حبالي، ولا بد من أن تلد قدرة لا تذكر معها ثورة القرن الماضي، بل هي ثورة تشترك فيها شعوب أوربا كلها لتنصر الشعوب بعضها بعضاً، ينصرون بعضهم على حكوماتهم لقلبها وإبدالها بما يكون أوفق لروح العصر وأحفظ لمصلحة الجمهور،”فالحكومات القائمة حالياً حتى ولو كانت في أعلى ذرى الإصلاح تقتل مصالح الجمهور في كل يوم”وبعد ذلك يحدد شميل وبوضوح شكل الحكومة التي يريدها”هي حكومة الجمهورية الديمقراطية التي تكون فيها الأمة هي الكل والحكومة لا شيء”ثم يأتي شميل إلى هدفه الأساسي وهو الاشتراكية فيقول الاشتراكية نتيجة لازمة لمقدمات ثابتة لابد من الوصول إليها ولو بعد تذبذب طويل”وهو يهاجم ”الرأسماليين” ويسميهم”لصوص المجتمع ويقول أن الحكومات الحاضرة لا هم لها إلا أن تضمن لهم تحقيق السلب والنهب، فيصادرون ويرابون ويجمعون المال بالاحتيال”ويتحدث عن المجتمع الرأسمالي قائلاً”رأيت الغني الشبعان يبلع الجمل ولا يتستر، والفقير الجائع يتلصص لسرقة رغيف من الخبز الأسمر، والقانون يكافئ هذا برفع القبعات ويعاقب ذاك بالسجن سنوات”ثم”رأيت معالم الظلم تُشاد فوق رؤوس الناس تحت لواء العدل، ودعوى الهداية تسرى تحت قلانس المكر وعمائم الجهل”وفى مقال عنوانه”لطمة على خد العالم”يقول فيه”لقد كان بالإمكان تدارك الشر لو أن الحكومات لا تنقاد انقياداً أعمى لأصحاب الأموال”ولكنها بذلك تدفع الشعوب إلى الثورة، هي ثورة العمال ضد أصحاب المال وثورة قوى العقل المستنبط واليد العاملة ضد فساد نظام الحكم وجشع أصحاب المال. ثم هو يكتب مقالاً صريحاً عنوانه حاسم وهو”الاشتراكيون”نشره فى جريدة الأخبار عام 1908، فيكتب سليم سركيس في المؤيد رداً عليه محاولاً إخافته وناصحاً إياه أن يتستر حتى لا يتهمه الناس بالاشتراكية. ويرد عليه شميل بمقال آخر بعنوان”الاشتراكية”ويخاطب سركيس قائلاً في”مقالك بالمؤيد طلبت مني أن أدفع عن نفسي شبهه أنني أدافع عن الاشتراكيين وكأن الاشتراكية وصمة وأنا قد تلوثت بها، وانك تريد مني أن أبين حقيقة موقفي لكي أخرج طاهر الذيل، فشكرتك على حسن ولائك ولو أني أعجبت أكثر بدهائك ولقد كنت أظن قبل اليوم أن الاشتراكية في نظر خصومها أمر بعيد المنال فإذا هي فوق ذلك وصحة تعرض صاحبها لأقبح المطان. ثم هو يحدد طبيعة الاشتراكية التي يريدها قائلاً”هي الاشتراك في العمل والاشتراك في المنفعة على قدر نسبة العمل"، وهكذا أتم شبلي شميل رسالته.
(5)
لكن من حق القارئ أن يعرف عن أيه اشتراكية تحدّث شميل. فنحن إذ نقلب الأعمال الكاملة لشميل التي طبعها في مجلدين نتوقف في حيرة أمام فقرات مثل”فالفوضوية والاشتراكية لا تطلب حقيقة إلا ما تراه كل يوم في نظام الطبيعة الصامتة”من اشتراك الجماهير في تحقيق مصلحة الجماهير"، بل إنه يتورط بلا مبرر في الدفاع عن الفكر الفوضوي فيكتب مقالاً بعنوان”كتاب فوضوي”وينشر رسالة كتبها سجين فوضوي قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام معلقاً عليها”إن ما جاء في هذه الرسالة من الحقائق سوف يؤيده المستقبل، فإن الأفكار التي تنطوي عليها هذه الرسالة كلها حقائق لا يخشاها إلا ضعاف العقول، وما ذنب كاتبها إلا زيادة الحماس وهو ما أدى به إلى التهوّر. والذنب يكون على المجتمع وليس عليه.
والحقيقة – ربما – أن شميل قد تأثر كثيراً بمواقف بخنر الذي سبق أن ترجم شرحه ألى الداروينه. فبخنر أصدر كتاباً عنوانه”الداروينه والاشتراكية”وقد سبق لفريدريك انجلز أن علق على هذا الكتاب في كتابه”ودياليكتيك الطبيعة”قائلاً”إن بخنر يحاول أن يدافع عن الاشتراكية منطلقاً من فكرة الصراع على البقاء”[وليس الصراع الطبقي] وقد كان بخنر عضواً فى الاتحاد العام للعمال الألمان. وحضر عدداً من اجتماعات الدولية الثانية ممثلاً لهذا الاتحاد متخذاً في الأساس موقفاً إصلاحياً. والحقيقة أن شميل لم يكن مؤيداً ولا معجباً بمواقف وتصرفات هؤلاء الفوضويين ولكنه يرى أنهم أداه – مجرد أداه لتحريك الساكن في مجتمع بليد ويقول”ولذلك كان أول خاطر يخطر للباحث المدقق عند ذكر هؤلاء الناقمين ليس الطرق التي يلجأون إليها وإنما لماذا هذا القلق الذي يسود المجتمع فى كل أطواره ولا شك أن السبب هو عجز آليات المجتمع عن توفير الراحة”ويمضى قائلاً”أنا لا أنكر أن الطرق التي يلجأ إليها هؤلاء الناقمون تكون أحياناً مرفوضة، إلا أنه يبدو أن مثل هذا الحراك القاسي لازم لإيقاظ الغافل وتنبيه الفكر، بدليل أن نظام المجتمع على ما هو عليه الآن به من الفظائع ما هو مرفوض ولكننا أعتدنا عليه”والحقيقة أن المفكرين الأوربيين كانوا يتحدثون في كتاباتهم على اختلاف مدارسهم على أساس أن الثورة توشك أن تنفجر في ظل مجتمع صناعي متقدم وتبدو أوضاعه بأنها حبلي بالثورة، بينما يتلفت شميل حوله ليجد نفسه في مجتمع لا تزال طبقته العاملة في أول مراحل التكوين والمجتمع نفسه يعاني من الكبت والاحتلال والتخلف والأمية والتقاليد البالية، وهكذا خضع شميل لتأثير تصوره السطحي لحركة الأحداث في المجتمع المصري فتصور أن الطريق نحو الحديث الجاد عن الاشتراكية ما زال بعيداً جداً وأن الأساس المطلوب لذلك هو مجرد الدعوة للعلم. ومن هنا فقد تصور أن أوضاع المجتمع المصري لن تسمح بتكوين أي تنظيم اشتراكي إلا بعد سنوات طويلة. وعندما سأله أحد محاوريه لماذا لا تؤسس حزباً اشتراكياً أعتبر ذلك مجرد نكتة سخيفة، بل أنه كان يتصور أن الوضع في مصر من التخلف بحيث لا يسمح بإقامة أي حزب لأية طبقة من الطبقات ويقول”إن الأحزاب في النظام الاجتماعي من الكماليات ونحن لا نزال في حاجة إلى أقل من الضروريات ونشوء هذه الأحزاب لا يكون بمجرد افتعالها وإنما هي تنشأ من تلقاء نفسها متى أتاح لها الوضع الاجتماعي ذلك. وزعماؤنا يحاولون ابتداع أحزاب أتت كأجسام مشوهة فهم رؤوس بلا أجسام، وإلا فليتحركوا وسنرى كم فرداً سيتحرك وراءهم"؟
وربما لو أمتد الأجل بشميل لثلاث سنوات ليرى ثورة 1919 وما كان فيها من نضالات لجموع العمال والفلاحين والموظفين لتغير رأيه. لكننا لا نريد أن نترك شميل مظلوماً فهو مفكر شجاع وصاحب منهج علمي وعقلاني استطاع أن يحرك به وجدان كثير من المثقفين وقد رأينا ماذا فعلت كتاباته فى شاب مثل إسماعيل مظهر. وأذكر أن عاملاً مصرياً وهو محمد دويدار وكان عطشجي بالسكة الحديد قال أنه كان قد حفظ كتاب شميل لشرح مقالات بخنر عن ظهر قلب [راجع محضر النقاش معه في كتابنا عن تاريخ الحركة الشيوعية المجلد الثاني] ولكن شبلي شميل قد حظي باهتمام وتقدير لا بد أنه قد مات به وهو مستريح. فالأفغاني مثلاً أمتدحه قائلاً فالدكتور الشميل حكيم شرقي انخرط مع مجموع من العلماء من الذين أيدوا مذهب داروين وهجموا على مألوف الشرقيين، وقد تحمل الشميل في نشر مذهب داروين وتحمله أعباء المكفرين له عن غير علم ما يعد فضلاً له وشجاعة. وإني أقدر للشميل قدرته فى دقة بحثه وتحقيقه وجرأته على بث ما يعتقده من الحكمة وعدم تهيبه من سخط المجموع"، بل أن الخوري بولس الكفوري صاحب جريدة المهذب في زحله بلبنان قد وجه نداء للمصريين واللبنانيين على السواء للتبرع لطبع الأعمال الكاملة لشبلي شميل فانهالت التبرعات وصدرت الأعمال الكاملة في مجلدين. ومات شميل ويبقى خالداً على مر الزمان عبارته”الحقيقة أن تقال لا أن تُعلم فقط”فقد كان دائماً يسخط على من يعلمون الحقيقة، ويخافون من إعلانها جبناً. وما أكثر هؤلاء حتى في زماننا الحالي أو بالدِّقة.. وبالذات فى زماننا الحالي.
الدراسة نشرت بشكل حلقات في
صحيفة المدى