ذكريات سجين ينتظر تنفيذ الحكم الأخير

Saturday 10th of June 2017 05:38:52 PM ,

ملحق اوراق ,

بغداد/ أوراق
بعد سنوات طويلة قضاها باسكوال في السجن، شعر أن حريته لا تعني له شيئاً، كل ما حوله مكروه بالنسبة له حتى نفسه، ويرى في أمه السبب الأكبر لما حصل للأسرة عامة وله على وجه الخصوص، لذا كان جلّ غضبه ومقته موجهاً نحوها، مما دفعه لقتلها مردداً: لا أستطيع أن أسامحها.. فبعد أن ألقتني إلى العالم لم تقدم لي أي معروف.

احداث نطالعها في رواية (عائلة باسكوال دوارت) للكاتب كاميلو خوسيه ثيلا بترجمة رفعت عطفة. هو الآن محكوم ينتظر الاعدام، وليس امامه سوى تصفح أوراق حياته، يتذكر أباه البرتغالي بشاربه الأسود الكثيف استيبان دوارتي الذي سُجن بعد اتهامه بالتهريب وقد ناهز الأربعين من عمره، طويل وبدين مثل جبل يصفه بالفظ الغليظ، لكنه يشعر تجاهه بكثير من الاحترام وغير قليل من الخوف، فهو نفسه ذلك الرجل الذي كان كثيراً ما يتملكه الغضب فيضرب أمه ويضربه لأتفه الأسباب، برغم أن أمه كانت ترد بالمثل أحياناً إذ كان الصغير باسكوال لا يملك سوى الاستسلام وهو في سن غضة، أما أمه التي تخاصم المياه فكانت بسحنة صفراء ضاربة إلى الخضرة بخديها الغائرين، ومظهرها كله يدل على أنها مسلولة، وهي جافة وعنيفة ولها مزاج يمضي في طريق كل الشياطين بلغة تنطلق من فمها.. وكانت العلاقة بين أبويه سيئة، فهما قليلا التعليم والفضائل أيضاً، وذلك ما ورثه عنهما باسكوال الريفي من استرمادورا راوياً مذكراته بين جدران السجن، فتتكشف لنا احداث مروعة عاشها بطل. يتحدث باسكوال عن حياته واصفاً مسكنه وقريته ورغبته في الصيد البري الذي اشتهر به بالمهارة بين القرويين ويفضله على صيد الأسماك فهو يراه مضيعة للوقت.. وعند عودته يجلس ليستريح بالقرب من التقاطع المؤدي إلى القرية، وغالباً ما تسبقه كلبته إلى هناك قبل أن يجلس على الصخرة المدورة ويشرع بتدخين سيجارة بينما كلبته تجلس قبالته على رجليها الخلفيتين، وأذناها البنيتان في حالة تيقظ، وكأنها تحاول فهم ما يقوله مع نفسه.. عاش حياته بين أب مهرب وسكير وأم مريعة لا تملك شيئاً من عاطفة الامومة، وأخت طيبة تهرب من البيت وتقع في شراك رجل يحملها على ممارسة بيع المتعة، وأخ متخلف معتوه يموت غرقاً في طشت زيت. أما هو وبحسب ما يقوله عن نفسه رجل مصاب باللعنة، يتزوج مرتين وينتقل من جريمة الى اخرى لينتهي بقتل أمه التي يعتبرها المسؤولة عن كل ما جرى له ولأخته روساريو من مصائب.. يذكر حين ولدت أخته كانت ولادتها صعبة وجافة والألم أكبر من طاقتها، وكانت تحل كل شيء بالصياح، وقد ساعدت أمه امرأة من القرية متخصصة في الندب والولادة وهي انجراثيا التي استعملت خلطة خاصة وضعتها على بطن الأم لتخفيف الألم، ولكن استمرار الصياح دفع انجراثيا إلى اتهام الأم بأنها زنديقة ومسيحية سيئة. والأب كان مهتاجاً من الصياح أيضاً حتى أنه وصف الأم بعد الولادة بالخبث والاحتيال وغادر البيت ولم يعد إلا بعد يومين سكراناً ليقبل الأم وينام في الإسطبل.. وحين كبرت روساريو كانت ضعيفة ونحيلة فثدي أمها فارغ حتى انها أوشكت على الموت، لكنها تجاوزت كل ذلك وكبرت، ولم تكن استثناء عن عادات العائلة فسرعان ما تعودت على السرقة بخفة ورشاقة مثل غجرية عجوز، كما اعتادت على السكر ومضت من سيئ إلى أسوأ واشتغلت قوادة.. ولما بلغت سن الرابعة عشرة سرقت كل ما في البيت ورحلت.. ثم بعد ذلك تعود مصابة بالحمى، وترقد في الفراش نصف ميتة نحو السنة.. حتى قدمت لها انجراثيا علاجاً من الاعشاب سرعان ما شفيت به.. ورحلت من جديد فتعرفت على الرجل باكو لوبيث الملقب أبو شداد.. ثم تستقبل العائلة مولود جديد يدعونه ماريو في حين يصاب الأب بداء الكَلَب على أثر عضة كلب، وصار ينهش ويعض الآخرين مما اضطرهم الى حبسه بمساعدة الجيران، لكنه لم يعش طويلاً، فمات بعد أيام مفتوح العينين، وبدلاً من أن تحزن الأم كانت تضحك من منظر الأب الميت.. وعندما بلغ ماريو العاشرة مات هو الآخر. بكت عليه روساريو كما بكى باسكوال، غير أن الأم لم تذرف عليه دمعة حتى بلغت كراهية باسكوال لأمه مبلغاً، وبات يفكر بالوقت الذي شعر فيه أن أمه ما عادت بالنسبة لقلبه أماً، فلم يجد فيها فضيلة واحدة تستحق منه الاهتمام او الاحترام فتحولت الى عدو بالنسبة له.. وهكذا أصبح باسكوال نفوراً وفظاً مفرط الخوف متجهماً، وكان هذا الاضطراب يمزق العائلة. وقد وصل به الحال ذات يوم انه اختلف مع شخص يدعى زكريا في الحانة فطعنه بالسكين ثلاث طعنات.. وذات يوم يعود الى البيت ويجد الفرس قد رفست زوجته لولا وأسقطت جنينها، فيذهب إلى الفرس في الإسطبل ويطعنها عشرين طعنة.. وكانت لولا قد تزوجها بعد أن اغتصبها.. وقبل أن تخونه مع أبي شداد قتل أبا شداد وسجن.. وهكذا تعكس الصورة طبيعة المناخ البيئي الذي نشأ فيه البطل، لكنه برغم إيقاع القسوة والخشونة والسلبية وقبضة الفقر الشديدة الا أن الحياة رسخت داخله قيماً انسانية مفعمة بالزهد والتجرد الى حد الاستغناء الذي يتجلي بمشاعر صوفية موحية.