أرنولد توينبي والفرات الأوسط

Sunday 18th of June 2017 05:04:45 PM ,

ذاكرة عراقية ,

ترجمة كريم راهي
هذا مجتزأ من فصل يخص الشأن العراقي في كتاب (مسح لشؤون دوليّة 1934) للمؤرّخ البريطاني (أرنولد جوزيف توينبي مطبوع في أوكسفورد وصادر عام 1935 وهو يخصّ بعض التغيرات السياسيّة التي مرّت على منطقة الفرات الأوسط خلال فترة الإحتلال البريطاني وما بعدها، آثرنا أن نترجمهُ ونضعه كاملاً للباحثين في شؤون المنطقة المشار لها.

يذكر أن توينبي زار العراق عام 1957 وتجول في بعض مناطق الفرات الأوسط، ويعدّ كتابه المرجعيّ هذا،بأجزائه المتعدّدة، والذي يغطي مساحة زمانية واسعة، واحداً من أهم تركاته.

منطقة الفرات الأوسط
تتضمن منطقة الفرات الأوسط بشكل عمليّ لواء الديوانية الذي يعدّ الأكثر أهمية ومن وجهة نظر إدارية، فكانت المحافظة الأكثر صعوبة في العراق. تبدأ المنطقة من طريق جنوب شرق سدة الهندية وصولاً إلى السماوة وهي مسافة تقدر بحوالي ستين ميلاً. هذه المنطقة من الفرات تصب مياهها إلى سلسلة من الأهوار حيث سيضيع المجرى الرئيس للنهر. ثم تتحد المجاري المختلفة مجدداً على مسافة قريبة فوق السماوة. عند انحسار الماء بعد موسم الفيضان، تُزرع هذه الأهوار بالرز. على حواف الأهوار هناك الكثير من بساتين النخيل. ويتعذر خلال فترة الفيضان اجتياز هذا الريف ما عدا طريق أو طريقان منشآن حديثاً، بينما تصبح المواصلات خلال بقية السنة صعبة. وبصرف النظر عن منطقة الأهوار التي تتضمن قضائي الشامية وأبي صخير، فهنالك في الديوانية منطقتان مهمتان أخريتان هما (1) قناة الدغارة في قضاء عفج (حوالي خمسين ميلاً شرق منطقة الأهوار) و (2) الرميثة حوالي خمسة عشر ميلاً شمال غرب السماوة، التي يتبع إليها القضاء. عند نهاية حرب 1914-18 فإن هاتين المنطقتين أصبحتا مهجورتين تماماً، لأن القنوات التي ترويهما كانت قد أهملت. بعد بناء سدة الدغارة في 1926 كان هنالك على بحالٍ ما، بعض التحسن. هذه السدة تتحكم بماء قناة الحلة، والذي بعد خروجه من الفرات في سدة الهندية، فهو نفسه سينقسم إلى فرعي عفك والديوانية عند سدة الدغارة. ويروي فرع الديوانية منطقة الرميثة. كان الماء سبب معظم مشاكل الديوانية. وكان خط سكة حديد بغداد- البصرة يمر من الحلة إلى الديوانية ومن ثم إلى الرميثة، السماوة، أور (قرب الناصرية).
في زمن العثمانيين كانت كل منطقة اللواء وخاصة منطقة الأهوار، خارج السيطرة. كان أحد أهم أسباب ذلك هو انعدام المواصلات. كانت القبائل وأهمها قبيلتا آل فتلة والخزاعل، بعيداً عن شخصيتهم المستقلة بطبيعتها، تحت التأثير الكبير للمدن المقدسة في كربلاء والنجف. هذه الأماكن هي بالطبع شيعية، بينما كان العثمانيّون سُنة، وكان أغلب القادة الدينيين (يسمون بالمجتهدين) من أصول فارسية. سيطرت هنا، خلال الحرب، الفوضى العارمة. كانت القبائل قد شهدت القليل أو لم تشهد على الإطلاق من الحرب أي شيء، لأن القوات البريطانية لم تمر خلال هذا الطريق. في الحقيقة كان هناك ضابط عثماني قاوم في الحلة حتى الهدنة. وكان هذا بغاية الأهمية، فالقبائل الفراتية على عكس تلك التي في دجلة لم يروا شيئاً من قوة الجيش البريطاني. كانت البداية بإدارة المنطقة في 1919 وتحقق تقدم منصف، لكن في عام 1920، حدث تمرد عربي. وقد ابتدأ في الحقيقة من الرميثة، ثم انتشر بسرعة في كل الفرات الأوسط، ومن ثم إلى مناطق أخرى في العراق. كانت أسباب التمرد هي:
1- تذمر القبائل لوقوعها تحت السيطرة
2- بروباغندا دينية قادمة من المدن المقدسة
3- بروباغندا فيصل (أو أتباعه)، والمال (هذا الأخير تقدمه بريطانيا) من سوريا.
شاركت كل القبائل تقريباً بقيادة عبد الواحد الحاج سكر من آل فتلة، بينما سيد نور (صاحب مكانة دينية مقدسة) قدم الكثير من الدعم المادي (والسيد نور هذا شديد الخضوع لزوجته وله عدد كبير من الأبناء، وقد فقد مكانته بعد ذلك بسبب نزاعاتهم).
تم القضاء على التمرد ولكن ليس بسهولة ولا بدون عقبات، لاسيما قوات الجيش التي تعمل بالقرب من أبي صخير، حيث تم أسر أو قتل عدد كبير من رجال فوج مانشستر. حكم بالموت من محكمة عسكرية على عبد الواحد لكنه سرعان ما منح عفواً.
في عام 1921 حصلت بداية أخرى بإدارة هذه المنطقة، وبرغم العديد من الصعوبات فقد تم تحقيق التقدم الملحوظ مرة أخرى. إذ بنيت مراكز حكومية محصنة في أماكن مختلفة مثل الشامية، الفيصلية، غماس، الرميثة، وعفك، كما تم شق الطرقات هناك. وقد تم جمع إيرادات الأراضي في الموعد المحدد فأصبحت الديوانية أغنى مدينة من ناحية الواردات في العراق ويرجع الفضل في ذلك إلى زراعة محصول الرز.
فيما عدا مسألة المياه، فإن الصعوبة الأساسية كانت تكمن في النزاعات الكثيرة والمعقدة على الأراضي. وهذه النزاعات كانت إمّا بين القبائل، أو ضمن القبيلة نفسها، وقد كانت تحدث بصورة أساسية حول حدود الأرض. كانت هذه المشاكل مستحيلة الحل، وبالرغم من الأداء الإداري الممتاز للمفتشين البريطانيين ج.س.كيتشنغ و أ.ه.ديتشبرن، هذه الصلة، فقد بقيت بعض النزاعات دون حل حتى بعد انتهاء الوصاية في 1932. وبالتدريج فإن المشاعر السياسية في هذه المنطقة تبدلت من كونها ضد البريطانيين لتصبح موجهة ضد الحكومة العراقية في بغداد. كانت الشكاوى الرئيسية للقبائل :
1- الفساد الإداري (كان هناك متصرف مشهور بصيته السيء بالفساد الإداري).
2- تدخل البغداديين في تسويات النزاعات على الأراضي لأسباب سياسية أو لكسب خاص (حتى تلك التي تنتهي بتسويات عادلة فدائما ما يكون هناك طرفٌ يشعر بالحيف).
3- كراهية التجنيد الإلزامي (تم تشريع قانون التجنيد الإلزامي في 1934)، (4) الشعور بالمظلمة فهم كانوا قد باؤوا بالحمل الأثقل من ثورة 1920 ولكن سياسيّو بغداد كانوا وحدهم الرابحون، (5) هناك شعور بالظلم من كون القبائل لا تحصل على تمثيل كافٍ في البرلمان.(*)
كان الملك فيصل يدرك تماماً حجم الخطر القائم في الفرات الأوسط، وقد حاول قدر الإمكان مراعاة مشاعر القبائل. وقد تمكن من ذلك إلى حدٍ ما، عندما قام بجولة في منطقة الأهوار في ربيع عام 1933، ونجح باستمالتهم من الخلافات الغاضبة إلى لهفة صادقة. ولسوء الحظ فإنّه بعد وفاته، لم يبق أحد في بغداد ليتكبّد العناء الكافي في محاولة استيعاب مشاكل القبائل. وبدأت نذائر المشاكل تلوح في صيف عام 1933 عندما كان فيصل في انكلترا، ومن المحتمل إنّه قد تم تجنبها فقط بسبب المشاكل الآشورية في الشمال. بعدها، ظل الاستياء يغلي ببطء، حتى غلى عام 1935. كان يمكن للحكومة أن تواجه وضعاً مستحيلاً لو أن القبائل توحدت ونهضت سوية، لكنها لم تفعل. في نهاية آذار 1935، كان عبد الواحد من آل فتلة، وإلى حدٍ بعيد، أذكى رجل سياسي قبليّ في العراق، لكنه أثار ارتياب أغلبية القبائل. كان طموحاً للغاية، وكان هدفه تأسيس الحكم القبلي في العراق. قطع الطرق في منطقة الأهوار، وحاصر (رغم أنه لم يهاجم) الشرطة في مناطق عدة، وبصورة عامة وقف ضد الحكومة. وصادف أن الإيرادات لم تدفع في هذه المناطق منذ أشهر.
أما شعلان العطية فقد كان شخصية مختلفة – صادق ومتدين- ولسنين عديدة لم تكن له أية صلة ببغداد. فيصل، الذي علم بتأثيره، حثّه كي يصبح عضواً بالبرلمان في بغداد. لكنه قبل موافقته استشار المجتهدين في كربلاء مُستعلماً عمّا إذا كان العمل لصالح حكومة سنيّة حلالاً أم حراماً. كانت شكواه الأساسية المياه والنزاعات على الأراضي. في العام 1933، كان قرار سيئ الصيت وظالم في قضية نزاع غير مهمة على أراض، قد نجح بالقضاء على ثقة القبائل بالحكومة. فقام بالاستيلاء على سدة الدغارة التي كانت تتحكم بمياه قناتي عفك والديوانية. كانت النية في البداية تحطيم التمرد بالقوة، لكن، وربما لحسن الحظ، كان الاعتقاد بأن الجيش لا يمكن الاعتماد عليه، ونتيجة لذلك تم التوصل إلى تسوية. قدم عبد الواحد وشعلان إلى بغداد لمبايعة الملك، لكنهما جاءا برفقة 180 رجل قبلي مسلح، الأمر الذي يوحي إما بعدم ثقتهما أو بعدم خضوعهما.
حصلت المشكلة التالية في منطقة الرميثة. كان رجال القبائل هنا، لاسيما الديوانية الهائجة، قد شهدوا النجاح النسبي لعبد الواحد وشعلان، لذا ظنّوا أن بإمكانهم أن يكسبوا شيئاً لأنفسهم. قطعوا سكة الحديد والتيليغراف. وكان تمردهم، لسوء الحظ، مشتتاً ومعزولاً، وكانت الحكومة قادرة على التعامل معهم بسهولة، من خلال الطائرات التي قصفتهم، وتقريباً دون تمييز، بالقنابل. وصادف أن طائرة من نوع ر.أ.ف اسقطت عن طريق الخطأ. فقام رجال القبائل بالاعتذار والتوضيح أنهم ليسوا على نزاع مع البريطانيين. (كان تحليق طائرة بريطانية فوق منطقة مضطربة خطأ فادحاً).
يبدو أن التمرد امتد إلى منطقة المنتفك بعيداً جنوب الفرات. وكان هذا اللواء، أيضاً، قد سبب المشاكل للعثمانيين، لكنه كان مسالماً منذ ذلك الوقت. كانت كل المشاكل هنا زراعية، نزاعاتٌ بين ملّاك الأراضي (عائلة السعدون) والشيوخ، وبين الشيوخ أنفسهم والمزارعين. بدأت هذه المشاكل نتيجة لسياسية فرق تسد العثمانيّة، عندما منحوا أراضي القبيلة إلى عائلة دخيلة وقوية. حصل تطور قليل في حل هذه المشكلة الكبيرة، وفي عام 1931-2 فشلت ذريعاً لجنة تسوية الأراضي، المكونة بأكملها من عراقيين. كان الوضع آخذاً بالتطور في عام 1935، في منطقة الفرات الأوسط وقد يصبح ذي أهمية دولية، إذ يمر عبر هذه المنطقة سكة حديد بغداد- البصرة ولكونها أيضاً ممراً جوياً للطائرات بين انجلترا والهند.
-------------
(*) رغم كون الانتخابات العراقية حرة في المسمى، ولكنها على أرض الواقع ليست كذلك. فقد قام مسؤولي السلطات المحلية بتوجيه المجموعة الثانية من الناخبين – الانتخابات تجري بمرحلتين- للتصويت لشخص معين. (المؤلف).