امينة البارودي تتوقع ان يقبض عليها البوليس

Monday 7th of August 2017 07:38:45 PM ,

كان زمان ,

وصل الى القاهرة منذ عدة ايام مغني الاوبرا الايطالي المشهور انطونيو انا لورو ليلحق بزوجته المصرية امينة البارودي.. ونزل انا لورو في مطار القاهرة يركع على الارض رافعاً يديه نحو قرص الشمس الملتهب، مغنيا في تعبد لإله الدفء.. مانع الحرارة ومعطي الحياة!
وقيل لانا لورو: ولكن اهل القاهرة هربوا الى اوروبا.. هربوا مما تغني له الان..
وصاح انا لورو بلهجته التمثيلية:

- ولو.. اني احب الشمس.. ثم رفع يديه الى السماء قائلاً:
- لقد عشت عاما بطوله في الشتاء.. لقد اشتغلت الموسم كله في مصر واوربا وامريكا الشمالية، ولما انتهى الموسم نزلنا الى امريكا الجنوبية لإحياء موسم آخر، هو موسم الشتاء عندهم.. لقد عشت شتاءين في عام واحد.. شتاء في نصف الكرة الشمالي.. وشتاء في نصف الكرة الجنوبي.
وراح انطونيو سنينو كما تسميه امينة البارودي – يغني من جديد مصليا لقرص الشمس.. إله العزف، ومانح الحرارة ومعطي الحياة!.
وبدا انا لورو يروي لآخر ساعة قصته في عام.. واخذت امينة البارودي تساعده.. لقد عاشت معه العام كله ثم سبقته الى القاهرة بأسبوعين.
ان حياة مشاهير النجوم في العالم لم تعد تصفيقا يصم الآذان.. ولا زهورا تنهال من كل جانب.. ولا صفوفا من المعجبين والمعجبات يحيطون بالنجوم طلبا لإمضاءاتهم.. او لنظراتهم!
ويبدأ"انالورو"يروي قصته وتبدأ"أمينة البارودي"تساعده.. او بمعنى اصح تقاطعه!
***
يقول انطونيو انالورو:
- لقد طفت بالعالم كل أكثر من مرة.. وطفت حوله في هذا العام، وهناك مسألة هامة احب ان اقولها قبل ان اروي قصة عام من حياتي كمغني اوبرا..
تلك هي ان العالم ليس فيه حدود لقد وجدت في طوافي حول الدنيا شعوباً، ولكني لم اقابل حدودا، او ان الحدود التي لقيتها، حدود وهمية صنعها البشر، ولم يصنعها الله.. بل ان البشر الذين صنعوا هذه الحدود، لم يتقنوا صناعتها كما اتقنوا صناعة غيرها من المخترعات!!
خذوا مثلا بلدي وبلادكم ان آثار العرب عبر البحر تملأ صقلية وجوهر الصقل احد ابناء صقلية، عبر البحر ليبني لكم القاهرة.
ووجه الشبه بين الناس في مصر وبين الناس في صقلية واضح الى درجة عجيبة، حتى في سجن الوجوه، فضلا عن الاخلاق والمميزات الشخصية.
وهذا مثال واحد قريب والامثلة في العالم الواسع كثيرة!
وسكت أنا لورو – او يضطر الى السكوت – فقد بدأت امينة البارودي تتكلم – اتذكر حفلة"اوفييدا"باتينو؟
ويمسك انا لورو بأمينة يسألها:
- هل شعرت بأنك غريبة في حفلة"اوفييدا"وتضرب امينة على صدرها بيدها وتقول بطريقتها الخاصة: ثم كيف قد؟
- ابدا والله يانينو!
ويعود انا لورو ليروي كيف اقيمت حفلة لتكريمه في"اوفييدا"وكانت زوجته ضيف الشرف فيها، وكان العلم المصري – تكريما لها – يملأ كل جوانب نادي سبورتنج، ثم كيف قدموا لها علبة فضية اثرية.
ومرة ثانية يسأل انالورو:
- هل شعرت بأنك غريبة في حفلة"اوفييدا"؟
وتضرب امينة على صدرها بيدها وتقول بطريقتها الخاصة:
- ابدا والله يا نينو!
***
وسكت انالورو برهة كانما يستعيد ذكرى العام من اوله.. ثم يعود الى الكلام:
- كدنا عند بداية الموسم، نذهب – امينة وانا – الى السجن فقد ذهبنا الى فرنسا لنقوم بتنفيذ عقد بالغناء على مسارحها وانتهى الغناء، وعدنا في اتجاه الحدود الايطالية مارين من"كاركاسون".
ان طريق"كاكاسون"هو اسوأ طريق في العالم، ذلك ان عربات النبيذ تملأ الطريق وتزحمه، هذا عدا ما يمر عليه من عربات اخرى، وقد حدث ونحن ذاهبان، ان كدنا نصطدم باحدى هذه العربات، ثم جاء دور العودة، وامينة ممسكة بعجلة القيادة، وانا اقول لها: حاذري من عربات النبيذ قرب"كاركاسون".
ووصلنا الى القرية نفسها، وكانت الساعة حوالي الخامسة والنصف صباحا، والطريق امامنا خال فسيح.. واقبل واحد يبدو انه شرب حمولة عربة كاملة من عربات النبيذ.. واطلقت امينة تغير السيارة تحذره، واذا الرجل يفزع من النفير، وبدل ان يبتعد عن السيارة القى بنفسه امامها، وحاولت امينة ان تتفاداه ونجحت في ان لا تدوسه ولكنها صدمته بجانب السيارة فاذا هو يقفز عاليا في الهواء ثم يرتمي ساكنا هامدا.
قلت ان الشارع داخل كاركاسون كان هادئاً ساكنا في تلك الساعة من الصباح، ولكن ذلك الحادث لم يكد يقع حتى امتلأ بعدد ثم اكد اتصوره من الناس وبدا الزحام حولنا.. وهو زحام عدائي رهيب ويسكت انا لورو، لان امينة عادت تقاطعه..
وقالت امينة واهدابها الطويلة ترتجف تاثراً:
- لقد انشقت الارض وظهرت منها سيدة عجوز تولول وتندب وتقول:
- قتلوا ابني..
وانشقت الارض مرة ثانية وخرج منها رجل عجوز يمسك بندقية ويقول بصوت ثائر:
- افسحوا الطريق حتى اقتل هؤلاء الذين قتلوا ابني.
وتسكت امينة البارودي، وتقول لانا لورو:
- اكمل انت ما حدث
ويقول انا لورو ضاحكا:
- انا الآخر لا ادري ما حدث.. فقد اغمى علي كما اغمى عليك!
ويستطرد انا لورو:
- ولقد افقنا من الاغماء فوجدنا نفسينا في قسم البوليس، واسرعت اطلب محاميا وجاء رجل يقول لنا:
- لا داعي للمحامي.. اني استطيع ان اسوي الامر نظير خدمة ارجو ان تؤدياها لي، فاني في حاجة الى دواء من ايطاليا، فلو ارسلتما الي هذا الدواء ودفعتما لاسرة المصاب شيئا من المال فان المسألة يمكن ان تنتهي عند هذا الحد..
وكدت اقبل العرض ولكن امينة اعترضت.
وضربت امينة صدرها بيدها قائلة:
- طبعا"يانينو"لو دفعنا له شيئاً، لكان معنى ذلك اننا نعترف بالمسئولية ويضيع علينا حقنا في التأمين!
ويمضي انا لورو:
- وكانت امينة على حق، فقد ظهر بعد ان جاء المحامي الذي طلبناه ان المصاب هو الذي تسبب في هذا الخطأ وواصلنا سيرنا وان ظلت امينة طول الطريق، حتى الحدود الايطالية، ترتجف من الرعب، وتتوقع في كل دقيقة ان تجد احد جنود مراقبة الطرق والحدود، يستوقف سيارتنا ويقول لها:
- قفي ايتها السيدة، لقد مات الرجل الذي صدمته بسيارتك!
***
وتقول امينة البارودي:
- ووصلنا الى روما في الوقت المناسب لنحضر احتفال افتتاح موسم الاوبرا وهناك تعاقد"نينو"على الظهور في احد الافلام.. ثم كان علينا ان نسرع الى فينيسا حيث كان على"نينو"ان يقيم موسما آخر.
ووصلنا الى فينيسيا استعدادا لبداية الموسم، وبدانا البروفات.. ثم جاءت برقية من روما تخبرنا بان على نينو ان يذهب يوما واحدا لكي نلتقط له عدة مناظر في فيلمه تمهيدا لعرضه.. واتفقنا ان نسرع الى روما يوما واحدا ونعود.. ولم نستأذن من المسرح الذي كان على نينو ان يغني فيه.
وكان الحظ السيء يترصدنا فقد انتهى العمل في روما في يوم واحد كما قدرنا وذهبنا لنستقل الطائرة عائدين الى فينيسيا، ولكن الجو كان غير صالح للطيران، ورفض قائد الطائرة ان يغامر في جو تسوده الاعاصير.
وتأخرنا يوما ضاع فيه علينا موعد احدى البروفات.
ثم وصلنا في اليوم التالي الى فينيسيا قبل الاقتتاح بليلتين، ولكن المايسترو قال لنينو:
- لقد تأخرت دون عذر، وغبت عن البروفة دون ان نستأذن، ولذلك فقد وقعنا عليك غرامة قدرها مليون ليرة وتدخل عمدة فينيسيا الشيوعي ليقول:
- وفوق هذا فقد الغينا حفلاتك الثلاث وضاع عليك الموسم والعقد كله وذهب"نينو"فاستشار محماي ميلان الشهير، كارتو لوني، فاشار عليه برفع قضية..
وكان امامنا شهر نمضيه في روما قبل بداية الموسم في امريكا الجنوبية واشترينا شقة بجوار فيللا"تورلونيا"الشهيرة في شارع"فتنانا"واخذنا نعدها كما نريد.
وقالت امينة البارودي:
- ورأى ان يقوم هو بكل اعمال الطلاء لانه يهوى"الدهون بالبوية".. وظل ايما ممسكا بالفرشاة و"البوية"فطلى الجدران والسقوف والاثاث.. وملابسه وملابسي ايضا!!
***
وقال انا لورو:
- ثم جاء اليوم الذي وجدنا فيه انفسنا في يونيس آيرس عاصمة الارجنتين.
ثم استدرك:
- لقد قلت من قبل ان العالم ليس فيه حدود، وانما فيه شعوب.
كان اول من ركبنا معه سائق تاكسي، اصله من صقلية ودعيت الى نادي"ريفريلات"وهو نادي اصحاب الملايين في الارجنتينوكان رئيسه ووكيله ايطاليين، واولهما ملك الخشب في الارجنتين والثاني ملك النسيج وقال لي ملك الخشب.. الايطالي.. رئيس نادي اصحاب الملايين في الارجنتين هل تعرف كم يبلغ تعداد الجالية الايطالية هنا؟
وهززت رأسي نفيا.. فقال:
- اننا هنا اربعة ملايين من الايطاليين!
وكان الموسم في يونيس آيرس، وفي مونتفيديو بعد ذلك حافلا مليئا وكانت امينة قد اشتاقت الى الصيف.. اي الى مصر فعادت وبقيت وحدي في مونتفيديو..
***
وانتهى الموسم وركبت الطائرة عائدا الى روما.
ولكن محركها احترق، ونزلت الطائرة في بورت ناتال، هبوطا اضطراريا حيث بقينا 48 ساعة وكنت شبه سجين في هذه الساعات، لدرجة اني كنت اذهب الى البحر لاستحم تحت حراسة احد جنود البوليس، وجاءت طائرة اخرى لتأخذنا لمواصلة الرحلة..
وعبر الاطلنطي هاجمتنا زوبعة لم ار لها مثيلا من قبل، وفجأة هوت الطائرة، واذا كل الركاب يتقلبون مع حوائجهم في جنبات الطائرة.
ثم تدخل القدر، فاستقرت الطائرة، ولم ترتطم بامواج المحيط العاتية.
وتنهدت وقد ايقنت اني نجوت من موت محقق، وطاف بذهني خاطر"الموت"وتساءلت: ماذا كان يحدث لو وقع هذا؟..
وضايقتني الفكرة لسبب واحد:
- سوف اترك بعدي ارملة جميلة طروبا، وسوف تنساني بعد قليل، ولن تزور قبري، لانه لن يكون لي قبر وسط امواج المحيط الواسع. وتدخلت امينة البارودي عاتبة:
- لا يا"نينو"
وصاح.. انا لورو: ماذا ستفعلين اذن؟
- ساركب طائرة الى وسط المحيط والقي منها طاقة من الورد على امواجه وست انا لورو ثم سألها:
- ومن سيكون بجوارك في الطائرة وترددت امينة البارودي قبل ان تجيب.
- الحقيقة.. لا اعلم!

آخــر ســاعة/ أيلول - 1951