أكثر من ثيمة رئيسة في رواية قضية ضائعة

Saturday 19th of August 2017 06:47:25 PM ,

ملحق اوراق ,

ترجمة: نجاح الجبيلي
لاجدوى الثيولوجيا
يمكن أن نطلق تسمية الشر الإنساني على”ريكيه”غير أن الشر الموضوعاتي للرواية والأداة التي يتمثل فيها”ريكيه”كونه شريراً، هو الثيولوجيا. إن التمسك الأعمى الراسخ الخالص بالدوغما الكاثوليكية هي الصفة التي تميز كل من الأب توماس وريكيه.

وهاتان الشخصيتان أكثر شبهاً بالفريسيين في العهد الجديد”الإنجيل”إذ يعرضان ورعهما الديني بأبهة وتفاخر. هذا الموقف.... يعتمد بصورة كبيرة على قابليتهما في مناقشة نقاط ملغزة في الثيولوجيا الأخلاقية- وهو الموضوع -كما يوحي غرين- الذي له علاقة واهية بحياة الناس الفعليين ومعاناتهم.

إحدى لحظات الكتاب تلتقط بشكل رمزي هذه الثيمة. في المشهد الأخير يفحص الدكتور”كولين”طفلاَ صغيراً مصاباً بالجذام. يشير رئيس الرهبان بأن الطفل قد جاء له سابقاً من أجل الحلوى.
وبشكل سريع جداً يلتقط غرين لاجدوى الدوغما إزاء قيمة الطب. إن”حلوى”كبير الرهبان- البونبون الثيولوجي ومواعظه السكّرية- يمكن أن لا تنقذ الطفل من جذامه. ومن جهة أخرى تستطيع الطرق العلمية للدكتور”كولين”أن تفعل ذلك.
وبالطريقة نفسها يتصرف”كيري”الرجل الذي لا يجيد شيئاً سوى تحقير الثيولوجيا- بسلوك أكثر مسيحية من أي شخص آخر في الرواية. ولذا فإن غرين يؤيد قيمة السلوك المسيحي (الذي هو الإيثار والكرم والتضحية) بينما يظهر أنه لا يوجد رابط ضروري بين أن تنطق بالدوغما وأن تكون مسيحياً. في الواقع إن أولئك الذين ينطقون بالدوغما لا بد من أنهم هم الحمقى والشريرون في عالم غرين الموحش.
المعاناة إزاء القلق
إن كلمات”كيري”الأولى هي:”أنا أشعر بالقلق إذن أنا موجود”تتحول في ذاكرته في نهاية الرواية إلى”أنا أعاني إذن أنا موجود". هذا التحول من القلق إلى المعاناة ليس أكثر من حركة من”قضية ضائعة”إلى شفاء كي تعثر على معنى الحياة.
كما يشير الدكتور كولين إن مرضى مستعمرة الجذام اليائسين الذين فقدوا رغبتهم في الوجود ليس أولئك الذين في مخاض المعاناة لكن أولئك الذين قد جرى شفاؤهم بشكل ظاهري. فأعضاؤهم المبتورة لم تعد تؤلمهم فهم بالكاد يقلقون. إن المعاناة هي علامة الوجود؛ إن المريض الذي يعاني لا يأخذ في الاعتبار تعاسة ظرفه أو ظرفها.
إن المريض الذي أعضاؤه المجذومة فاقدة للحسّ هو من جهة أخرى في موقع عرضة للشبهة وجودياً. إن كيري مثل”ديو غراتياس”هو فاقد حسّ الحياة. فهو لا يهتم بشيء لذا فإنه لا يعاني. إنه لا شيء له ليفقده. فهو بالكاد يشعر بالقلق.
ومع ذلك في نهاية الرواية لا يوجد شيء لدى كيري كي يفقده. وعلى سبيل التناقض فهو يحصل على شيء كي يفقده ولهذا فإنه رجل كامل. إنه متحرر من المعاناة.
أهمية (أو لاأهمية) أن تكون مشهوراً
لم تكن شهرة كيري بالنسبة له ذات أهمية في الاقل عند هذه النقطة من حياته. إنها في الواقع ثقلها الأكبر: وهو السبب الذي يجعله يهرب من أوربا ويتورط في مشكلة في أفريقيا. إنها أكثر أهمية بالنسبة للآخرين بخاصة بالنسبة لريكيه والأب توماس وباركنسون. إن السبب في هذا هو بالأحرى بسيط- إن هؤلاء الرجال غير المهمين (ومع ذلك ذو الأهمية الذاتية) الذين يرون في كيري الفرصة كي يزيدوا من وقفتهم في العالم. إن بمستطاعه أن يمسح على أكتاف كيري (كما يكزه ريكيه بشكل متواصل) فإنها تعد أخباراً مهمة بالنسبة لهم. صحيح؟
إن ريكيه يبرر استعماله لشهرة”كيري”عن طريق الاصرار المستمر بأن الرجال المشهوين لا ينتمون إلى أنفسهم بل إلى العالم. ومن سوء الحظ بالنسبة لكيري فإن هذا يبدو صحيحاً. إنه لا يستطيع أن يصنع حياته من جديد مهما ابتعد. إن شيئاً من الروح الفضولية سوف تلفت انتباهه وتجبر الصحبة عليه وتفسّر أفعاله ومعتقداته بالنسبة لهم – وبإيجاز تعيش فيه. إن كلمات كيري الفعلية ومعتقداته لا علاقة بها بالطريقة التي يجري تمثيله. إن الرجل الشهير كما يبدو ليس أقل من خيمة ملائمة للآخرين.
كملاحظة جانبية فإن غرين قد حصل على فكرته لرواية”قضية ضائعة”من خلال التجربة الشخصية. بعد كتابة العديد من”الروايات الكاثوليكية”الباحثة (على الرغم من أنه دائماً يحنث بهذا الشرط بنفسه) يحصل غرين على المكانة غير المستحقة بالنسبة للتقوى. إن الناس من فئة كيري المخلص والأب توماس في العالم يضايقونه بسبب معتقداته الدينية. لذا فإن”قضية ضائعة”يمكن النظر إليها كبيان لهذه التجربة وطعنة مقصودة لمعذبيه.
في وصف”كيري"- الملحد الكاثوليكي- ربما حاول أن يلقي ينشر لقبه المسمى”الروائي الكاثوليكي".
مستعمرة الجذام كونها مجازاً
إن كلاً من الدكتور كولين وكيري يشيران باستمرار إلى الظروف السايكولوجية كمكافئ لحالات الجذام. هذا المكافئ المجازي يمكن أن يكون خاصا ًجداً (كما في الحوار المتبادل إذ أن كيري يصف نفسه كونه”أحد المجذومين") وعاماً في الوقت نفسه.
يجري المجاز تقريباً كما يلي:”يعد كيري نفسه مثل”قضية ضائعة”مريض بالجذام توقف عن المعاناة الجسدية لكنه قد شوّه عن طريق المرض ما وراء اعترافه الذاتي. ولهذا توقف عن الشعور بأزماته في العقيدة والمهنة والحب..الخ.
إنه لم يعد يهتم بمثل هذه المسائل التي عذبته مرة؛ إنه مجرد رجل مشوّه قلق بلا هدف وضجر. وفي مسار الرواية يكتشف أحاسيسه. يتعلم كيف أن يعيش مع”تشوهاته”مثل القضايا الأخرى الضائعة (دو غراتياس مثلاً) ويتعلم كيف يكمل مهمات حياته البسيطة دون أصابع اليدين أو القدمين.
وبصورة عامة يتيح الجذام لغرين وسائل كي يرمز بشكل مادي إلى الظروف السايكولوجية. إننا كلنا إلى حد ما مجذومون نعاني خلال الحياة. بعضنا تم شفاؤه والآخر يخضع إلى أسوأ ما يفعله المرض. إننا نعالج أنفسنا بالعقيدة وافعال الخير وإطراء الآخرين والجنس. إن الحياة بطريقة ما هي مرض: إننا أما نتعلم أن نبقى أو لا نتعلم.
المهنة والجنس
يوحي غرين بتوازٍ بين حياة المرء الجنسية وحياته العملية: إذ أن المرء إذا كان منتجاً في أحدهما فإنه يكون فعالاً في الآخر وبالعكس. وهذا لا يحمل الحقيقة على كل شخص بالطبع- فالدكتور كولين يبقى ملتزماً بمهنته على الرغم من أنه أعزب وكذلك الكهنة. إنها تنطبق بشكل محدد على كيري.
في مناقشة التحرر من الوهم يلاحظ كيري بشكل مستمر أنه بينما فقد الاهتمام بعمله فإنه في الوقت نفسه فقد الاهتمام بالحياة الجنسية. فعلاً الأمران متقاربان جداً ومرتبطان بقصته السابقة. إن مغازلاته أدت إلى انتحار حبيبته ماري في الوقت الذي فقد الإيمان بمهنته كمعماري.
على مستوى الثيمة للصنفين شيء مشترك. كل من الجنس والعمارة يمكن أن يؤديا إلى إنتاج الأنواع. إن شهرة كيري كمعماري”تجعل منه أخلاقياُ”إلى حد ما تماماً كما أن الجنس يمكن أن يؤدي إلى إنتاج الأنواع. بطبيعة الحال إن كيري ليس لديه اهتمام في الأطفال لكن السلوك الجنسي ما يزال مرتبطاً بالقوة الفعالة – هنا في المستقبل.
وبينما يفقد اهتمامه بالحياة يفقد اهتمامه بالمستقبل. إن أفعاله الإبداعية بالمعنى المجازي(العمارة) والحرفي (الجنس) للمصطلح تصبح بلا معنى بالنسبة له.
اللامعقول والمسرحة
في صفحات عديدة من رواية”قضية ضائعة”يؤكد غرين على لامعقولية الحكاية. هذه اللامعقولية مرتبطة بشكل ثابت بالمسرح والتي تعني أن المسرح يمكن أن ينظر إليه كنسخة فارغة من الحياة. وهكذا فإن كيري وصل إلى الوعي بالجوف المسرحي للوجود. لقد زعمت الأخبار أنه كان مشهوراً صاحب مجد عالمي وتلاحقه الصحف وكل ذلك بدا له لامعقولاً كما أن وجوده هو بلا قيمة في نظره.
إن النسيج المسرحي يظهر في الجزء الأخير من الرواية والتي يؤدي فيه ريكيه دور فارص”الزوج الذي تخونه زوجته”وهي شخصية ستوك في الكوميديا الفرنسية في ذلك الوقت.
يؤدي ريكيه دوره بشكل ميلودرامي إذ يلوح مهدداً ببندقيته ويعلن عن استقامته. ويظهر المشهد بأكمله كونه لامعقولاً بافتراض أنه لم يجري جرحه بشكل حقيقي. ومع ذلك فإن حدوده اللامعقولة تصل إلى رأس تراجيدي- يؤدي دوراً إلى الحد الذي يقتل منافسه المفترض كيري الذي يموت في ظروف لامعقولة تماماً وبلا معنى.
اللامعقول هو ثيمة ثابتة فيما يمكن أن يصطلح عليه بـ"الأدب الوجودي". دون الرب تبدو شؤون ودرامات الظرف الإنساني فارغة وبلا معنى؛ الفلاسفة الوجوديون غالباً ما يتكلمون عن تمييز وفهم لامعقولية الحياة. ربما يأخذ كيري بنصيحتهم معترفاً بتفاهة الحياة حتى لو يحاول أن يخلق فضاءً للمعنى.
وتناسب كلمات كيري الأخيرة:”هذا أمر لامعقول أو شيء...”ولا نسمع الكلمة الأخرى والتي لا يمكن القول أنها لم تكن هي، مجرد أنها غامضة ولا يمكن وصفها فقط هي غامضة وغير قابلة للوصف في الأقل ضمن عالم القلق والكوميديا السوداء التي يعطيها لنا غرين.
بندله
بينما يبقى ديو غراتياس تقريباً سرّاً عبر الرواية فهو يفيد في تقدم مصطلح ثيماتي رئيس- بندله. هذا المصطلح يوضح مكاناً ذهب إليه”ديو غراتياس”مع أمه- شلال- إذ يقول بأنهما كانا هناك سعيدين. إنه يمثل كل شيء فقده في مستعمرة الجذام. حين يتجول في الغابات ويحبس في أحد المستنقعات غير قادر على مساعدة نفسه يذهب للبحث عن”بندله".
يتخذ كيري من المصطلح كي يمثل السعادة المفقودة للطفولة التي يشعر بها أغلب الناس. إن”بندله”هو مكان البراءة- موقع سايكولوجي أكثر من كونه مادياً. يمكن للمرء ربما أن لا يعود منه ومع ذلك فإن وجوده ضروري. يخلق”بندله”الأمل بين المعاناة إنه تقريباً تعويض للفردوس. إن”كيري”(وغرين) لا يجيزان فكرة أن هناك فردوساً لكن الهدف السابق يبدو أقرب.