نوع من التطهر الأرسطي

Tuesday 22nd of August 2017 06:59:48 PM ,

منارات ,

محمود أمين العالم
أمل دنقل من أعمق وأفعل وأكثر شعراء الرفض في أدبنا المعاصر، أكثرهم جدارة ووضوحا وحسما، وهذا ما دفع بعض الكتاب إلي اعتبار أن أشعاره يغلب عليها الجانب السياسي والإيديولوجي، وقد يكون هذا صحيحا ولكن في تقديري لم تكن هذه المضامين السياسية انعكاسا مباشرا لوقائع ولكنها كانت تعبيرا فنيا، والرفض في شعره كان معالجا معالجة شعرية رفيعة.

وقد وجه إلي أمل دنقل في أواخر المرحلة الناصرية وبدايات المرحلة الساداتية اتهامات بكون شعره ذا طابع سياسي صرف، وفي تلك الفترة يبرز الاتجاه إلي (الحداثة الجديدة) التي تغلب الطابع الفني الخالص وأبرز ممثليها أدونيس ولكني أزعم أن شعر أمل رغم طابعه السياسي كان مصاغا صياغة فنية رفيعة، ولهذا ففي هذه المرحلة انطبع النقد الحاد والرفض الحاد الذي وجهه أمل إلي الواقع ليس حتى إلي الواقع المباشر، بل إلي الرؤية المستقبلية إلي الواقع المباشر، الواقع البعيد الذي كان يحذر منه.
أكاد أقول إن عيونه الشعرية أقرب إلي عيون زرقاء اليمامة، كان يري البعيد في مأساته ويحذر منه في شعره سواء في أواخر مرحلة عبدالناصر فضلا عن مرحلة السادات. ولو تأملنا أهم قصائده سنجد فيها هذا النذير لما سوف يحدث ويتفاقم مستقبلا. (كلمات سبارتاكوس الأخيرة)، (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، (تعليقا على ما حدث)، (أغنية الكعكة الحجرية)، وأخيرا.، (لا تصالح).
كان الصوت في هذا الوقت جهيرا حادا قاطعا ضد ما يحدث ونذيرا لما سوف تتفاقم إليه الأوضاع في المستقبل، كان يقول هذا الشعر وسط تيارات الحداثة التشكيلية الجديدة، والكثير من الأصوات الحداثية التي لن تكن تدرك فداحة المأساة القائمة وتفاقمهم في المستقبل، وكل هذا استطاع ان يغطي علي شعر أمل دنقل.. أتذكر انه في تلك الفترة كان هناك مؤتمر للشعر في بيروت وكان هناك هجوم من جانب شعراء الحداثة الجديدة على أشعار أمل باعتبارها ذات طبيعة حادة، ولهذا لم يبرز أمل بشكل كاف رغم الاحترام والتقدير الذي يكنه له الشعراء والنقاد.
أما اليوم فقد برزت المأساة بشكل بارز، وهي المأساة التي تنبأ بها وحذر منها.. فعندما رفض الصلح مع إسرائيل في لا تصالح.. لم نصغ إلى رفضه، اعترفنا بإسرائيل فضاعت فلسطين، وفي هذه المرحلة التي تحققت فيها نبوءات أمل في ابرز صورها فمن الطبيعي ان يبرز هذا الصوت النذير والنبوءة.. الى جانب أيضا بعض الأصوات الأخرى، وقد يكون هذا الاهتمام كنزع من 'التطهر الارسطي' كما في المسرح، كما انه يعيد الجدل حول الصراع القديم حول الشكل والمضمون ويبين أن الشعر معركة وقضية ومعجون بحركة الحياة والتاريخ ومنشغل بالقضايا الكبرى.
واتمني ألا نجعل من الاحتفال به وبشعره مجرد مرثية لمرحلة ولمأساة تحققت ونحاول ان نواجهها الآن بحثا عن إجابة.

جريدة اخبار الادب 2003