نازك الملائكة تروي قصة الحداثة العراقية

Wednesday 13th of September 2017 06:19:30 PM ,

عراقيون ,

جمال كريم
صفحات من حياة نازك الملائكة”الصادر عن المدى، وهوكتاب سيري لكن ليس عن حياتها بل عن حياة الراحلة الشاعرة الرائدة نازك الملائكة وقد بذلت الكاتبة جهدا كبيرا في تقصي أدق التفاصيل المتعلقة بنشأة الملائكة من الجانب الاجتماعي والثقافي،

وذلك من خلال المصادر الموثقة واللقاءات الشخصية مع ذوي ومقربي وأصدقاء الشاعرة، فهي بهذا المنجز لم تعتمد فقط على ما وقع بين يديها من مدونات أو وثائق، بل أضافت الى كل ذلك،-مثلما ذكرت- زيارات ولقاءات ومقابلات نقلتها بما عرف عنها من أمانة علمية وبحثية فضلا عن كتاب نازك”لمحات من سيرة حياتي وثقافتي”، تقول الراحلة شرارة في مقدمة كتابها: منذ أن سجلت ذكرياتي عن نازك الملائكة في مقال بعنوان”تلك أيام خلت” ظلت تخامر ذهني فكرة الكتابة عن سيرة حياتها بشكل تفصيلي بحيث أستطيع ان اعطي صورة شخصية حية لها تنبض بالحركة.غير ان المشاغل الادبية اليومية وغير الادبية جرفتني في تيارها ولم تفسح لي المجال لاعمل فكري في هذه الدراسة وأشرع في البحث عن السبل المؤدية الى الحصول على مئات التفاصيل الصغيرة الىومية التي لابد منها لكل من يريد أن يكتب عن سيرة حياة شاعر أو كاتب.

و عن طبيعة هذا العمل الذي أنجزته تضيف شرارة: كنت أدرك أنه ينطوي على شيء من المغامرة واكتشاف ما يسرني وما يسوءني، ما يشحذ عزيمتي أوما يثبطها.غير أنني لم أكن أميل الى التخلي عن هذه الفكرة.كنت أعتقد أنني استطيع أن انجح في هذا العمل،لانني كنت مطلعة منذ صغري على حياة نازك الملائكة وعائلتها والبيت الذي عاشت فيه. فقد كانت الزيارات بين عالتينا مستمرة، وكنت أصغي لنازك عندما تقرأ الشعر، وأسعد عندما أسمعها تغني وتعزف على العود في آن واحد واجلس صامتة مثل الاخرين عندما تسمعنا الموسيقي الكلاسيكية.كنت معجبة بشخصيتها، بهدوئها، بتواضعها بشاعريتها، بتوجهها لنا، باهتمام الناس بها، كل ذلك كان حبيبا في الى نفسي.وارتسمت لها في ذهني صورة شاعرية شفافة ظلت تلازمني حتى الان.
ان هذه العلاقة الاجتماعية، كما، تشير شرارة، بين الاسرتين فضلا عما تعيشانه من أجواء ثقافية وأدبية متقاربة، جعلتها تلتقي وتصغي بل تعجب وتطري كل هذا الاطراء بنازك، ثم ليكون ذلك من بعد محفزا قويا في انتاج هذا الكتاب السيري عنها، يقع الكتاب في ميئتين واربع وعشرين صفحة من القطع المتوسط، تغطي حياة الشاعرة من مرحلة الطفولة والصبا والنضوج و بداياتها الاولي مع تجربتها الشعرية وبخاصة صدور ديوانيها الاولين من بعد ذلك، وحتى رحلة دراستها الاكاديمية في جامعة”برنستون”ا الاميركية وعودتها الى الوطن والاغتراب ثانية حين درست في جامعةالكويت، والعودة مرة أخري، ثم لتخطو نحو عتبات السبعين من عمرها قبل أن تغادرأرض العراق الى الابد.

الشكل الشعري الجديد
وفي فصل”سير الزمن والتضلع بالثقافة”تعرض شرارة الى تحولات اجتماعية واقتصادية هامة
أما الفصل الذي خصصته شرارة لديواني نازك”عاشقة الليل”الذي كتبت مقدمته اخت الشاعرة احسان الملائكة والصادر 1947،و”شظايا ورماد”الصادر عام 1949،فقد تابعت خلاله الاحداث والهزات والنكبات التي وقعت وعصفت بالمنطقة اعوامئذ، وكان لها كبير الاثر على نفس نازك وقريحتها الشعرية الفتية، وتذكر أيضا، تلقف القراء لدوانها الاول وانقسامهم بين معجب ومتعجب لما احتوي من تعبير عن الحزن والكآبة والشؤم، ثم لتشير بعد ذلك الى ولادة أول قصيدة”تفعيلة”، للشاعرة وهي قصيدة”الكوليرا”والتي اعتمدت على الشطر الشعري بدلا من وحدة البيت الشعري المؤلف من صدر البيت وعجزه، فحين انتشر وباء الكوليرا في مصر وحصد مئات الارواح من الضحايا، حاولت الشاعرة ان تعبر عن حزنها الكبير فكتبت تلك القصيدة وبشكل شعري جديد، وفي ذلك تقول شرارة : وهكذا ولدت اول قصيدة نظمتها في الشعر الحر،وهي قصيدة”الكوليرا”التي كتبتها في بحر ساعة.أثارها الشكل الجديد الذي عبر عن احزانها واخذت تردد:
الموت،الموت،الموت
تشكو البشرية تشكو مايرتكب الموت.
رحلة الدراسة وصيف الاحزان
وتتحدث شرارة في فصل ”الرحلة الدراسية الاولى” عن امنية الملائكة في حصولها على الزمالة الدراسية التي أهلتها للقبول في جامعة ”برنستون” الاميركية عام 1950/ 1951 ومن ثم قبولها في المرحلة الدراسية الثانية (1954- 1956) والتي نالت خلالها درجة الماجستير في الادب المقارن من جامعة”وسكونسن/ ماديسون”، وعن بعض تجربتها في الدراسة تنقل الكاتبة هذا المقبوس من مخطوط”لمحات من سيرة حياتي وثقافتي”للملائكة:”وقد اتيحت لي في هذه الفترة الدراسة على أساطين النقد الادبي في الولايات المتحدة مثل: ريتشرد بلاكور،وآلن داونر،وآلنتيت،ودونالد ستاوفر،وديلمور شوارتزوكلهم أساتذة لهم مؤلفات معروفة في النقد الادبي كما عرفوا بابحاثهم في مجلات الجامعات الاميركية وسائر الصحف الادبية”.
كما تتابع شرارة الحدث الجلل والذي هز كيان نازك وأصابها بفجيعة كبري، ألا وهو وفاة والدتها الشاعرة”أم نزار”، في لندن صيف عام 1953، خاصة وانها كانت مرافقتها في رحلة اللاعودة الى الوطن بحياة، التي كتبت عنها نازك قائلة:”ثم عدت بالطائرة الى بغداد وحيدة لارفيق لي الا الدموع بعد أن دفنت رفيقة سفري الغالية. واستقبلني أهلي يبكون في المطار وكانوا في جزع شديد على من أن أصاب بانهيار عصبي.والواقع انني احتملت العبء في لندن كل الاحتمال وانما بدا الانهيار عندما وصلنا منزلنا....ألخ”.
وبعد فاجعة الام التي تركت في نفس نازك عظيم الالم والحزن يتوفي جدها لابيها في صيف العام ذاته غير أنها ما لبثت أن عادت لتمارس حياتها الاجتماعية والثقافية والادبية، فتقول شرارة في صفحاتها عن نازك عامئذ : هكذا مر عام 1953 مثقلا بالاحزان والفجيعة من يد الموت الغادرة التي تخطف الاحباء في غفلة من الاهل.غير ان الزمن كفيل بأعادة الحياة الى طبيعتها المالوفة، ودفع الالم الى اركان غائرة غير مرئية في أعماق النفس، وهكذا بدا كل فرد في العائلة يواصل عيشه السابق وهمومه وطموحه. عادت نازك الى نشاطها الادبي، واستهلت نتاجها الشعري بالحدث الذي هز حياتها وهو موت امها فكتبت (ثلاث مراث لامي) نظمتها في آب/أغسطس 1953 لتتنفس به لواعج روحها..
وتتقصي شرارة بامانتها العلمية المعهودة، الحياة الاجتماعية والفكرية والادبية والاكاديمية للشاعرة نازك بعد عودتها الى الوطن من رحلتها الدراسية الثانية عام 1956، حيث تنتقل هي وزوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة الى البصرة، لتدرس هناك في قسم اللغة العربية، ثم لتنتخب رئيسة للقسم ذاته، بعد عملها لسنوات تعود الى بغداد عام 1968 ثم لتسافر بعد عام الى الكويت حيث تدرس في جامعتها لسنوات طوال حتى احالتها على التقاعد، وخلال الصفحات تتابع شرارة، رحلاتها الى عواصم أخري وتتطرق ايضا الى مشاركاتها في المهرجانات الادبية التي كانت تدعى اليها، وتذكر أن عام 1974 كان حافلا بالنسبة لنازك، فقد نظمت قصائد كثيرة وعقدت لقاءات وادباء وفنانين، كان منها لقاؤها بالفنان الموسيقار محمد عبد الوهاب، فضلا عن طبع ديوانها””للصلاة والثورة”وطبع كتابهب”التجزيئية في الوطن العربي”، كان كل ذلك في فندق بلادون، ثم لتحط رحال أسفارها في دمشق حيث”وجهت لها وزارة الثقافة والارشاد السورية دعوة لقضاء يومين في ضيافتها”، وأقامت هناك الامسيات الادبية التي تخللتها قراءات شعرية لبعض من قصائدها المشهورة، تقول شرارة”قالت : سألقي قصيدةحب (ويبقي لنا البحر) فتعالى التصفيق في القاعة وارتسمت البهجة على الوجوه وطافت الابتسامات على الشفاه.ابتسمت نازك بدورها ايضا، فقد أدركت ان الجمهور يهتم بالحب والعواطف أكثر من اهتمامه بقضية فلسطين...........تلتها قصائد أخري :”الملكة والبستان”و”رحلة على أوتار العود”وهي من قصائدها الجميلة التي تحبها......كانت آخر قصيدة لها”دكان القرائين الصغيرة”وفيها تسير الشاعرة في جو من الحلم في أحد الاسواق الشرقية......كانت تسال العابرين عن مكان الدكان الذي تباع فيه القرائين الصغيرة وأرشدوها الى دكان اسمه مندلي، وظلت تبحث عنه دون جدوي ولم تستطع ان تهتدي اليه ابدا.ويسافر حبيبها دون ان تقدم القرآن الصغير هدية له.فما ان نزلت عن خشبة المسرح ومشت على السلم حتى تقدم منها الشاعر أحمد سليمان الاحمد، ومد يده لها وقال تفضلي.نظرت الى ما في يده فرأت قرآنا صغيرا يقدمه لها......شكرته وقالت له: ما أروع هذا، لقد عثرت على دكان مندلي أخيرا”.
وتتابع شرارة في الصفحات الاخيرة من كتابها تقدم العمر بالشاعرة نازك الملائكة و ما له من تاثيرات سلبية على حالتها الصحية، فضلا عن ذلك تراكمات هموم الحياة الىومية الخاصة منها أو العامة،واخذت في هذه الفترة تتوالى عليها الدعوات لمؤتمرات أدبية وثقافية لم تلب أكثرها، وتحقق نازك حلمها بعد سنوات طوال من الغربة والتنقل والترحال والاسفار، حيث تشتري لها بعد كل ذلك دارا لها في بغداد.
وتذكر شرارة أن جامعة البصرة منحت الملائكة في حزيران عام 1992، شهادة الدكتوراه الفخرية تقديرا منها لمكانتها الشعرية ولعملها في جامعة البصرة بضع سنوات عند بداية تاسيسها في ستينيات القرن الماضي، والمفارقة التي لا بد من ذكرها كما أري، أن الراحلة حياة شرارة كانت قد انتهت من تالىف كتابها هذا في تموز من العام نفسه.
تبقي ملاحظة مهمة ولابد من سوقها، هي ان كتاب”صفحات من حياة نازك الملائكة”يعد مرجعا امينا ومهما ليس في تتبع حياة الرائدة نازك الملائكة، وانما يعد أيضا مرجعا مهما للكثير من الاحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية التي مرت على المجتمع العراقي طوال أكثر من ستة عقود.
لقد دونت الراحلة شرارة كل ذلك وفق رؤية منهجية علمية عميقة وواضحة.