حياة شرارة تروي صفحات من حياة نازك الملائكة

Wednesday 13th of September 2017 06:24:39 PM ,

عراقيون ,

عدنان حسين أحمد
لم تفلح الدكتورة حياة شرارة في كتابة السيرة الذاتية للشاعرة نازك الملائكة لسببين أساسيين وهما وجود بعض الفجوات التي لم تستطع أن تغطّيها في السياق الزمني مثل حقبة الستينات التي ظلت مجهولة لكاتبة السيرة وليس لديها إلاّ بعض المعلومات المُبتسرة التي لا تفي بالغرض المطلوب. والسبب الثاني هو شحة المعلومات عن بعض أفراد أسرتها وأقاربها.

وقد أوشكت شرارة أن تغض النظر نهائيًا عن هذه السيرة متذرعة بالنسيان وكثرة الشواغل لكنها اقتنعت بضرورة إصدار الكتاب تحت عنوان «صفحات من حياة نازك الملائكة”وليس سيرة ذاتية لها كي لا تنحرج من الفجوات الزمنية وشحة المعلومات.

لا بد من الإشارة إلى أن نازك قد ولدت في 23 أغسطس (آب) 1923. وقد سمّاها الوالد نازك تيمنا باسم الثائرة السورية نازك العابد. كانت عائلة نازك تحمل لقب اللخمي حتى عام 1760، وهو العام الذي مُنحت فيه العائلة لقب الجلبي بفرمان سلطاني وظل هذا اللقب قائمًا حتى وصفَ الشاعر عبد الباقي العمري عائلتها بأنهم يشبهون الملائكة في هدوئهم فاستحسنت العائلة اللقب الجديد وتبنته بشكل دائم.
لا ننفي أهمية وتأثير بعض أفراد الأهل والأقارب على نازك ولكن تظل حياتها الشخصية وتجربتها الشعرية هي المحور الأساسي لهذه «الصفحات”أما الإطناب في وصف المنازل التي سكنتها والموضوعات الجانبية التي خاضتها فقد أثقلت كاهل الكتاب بمعلومات زائدة لا تلبي حاجة القارئ اللبيب.
لا شك في أنّ هذه «الصفحات”مكتظة بالوقائع والأحداث والمعلومات الشخصية التي تصبّ في السيرة الذاتية والإبداعية للشاعرة. فالتلميذة نازك كانت تحب اللغة العربية والإنجليزية والتاريخ والفلك والعلوم ولكنها كانت تمقت الرياضيات مقتًا شديدًا. نظمت الشعر المحكي «العامي» قبل سن السابعة، وكتبت أول قصيدة بالفصحى وهي في سن العاشرة، كما كانت تُلحِّن وتغنّي في الوقت ذاته. تأثرت بعدد من الشعراء نذكر منهم محمود حسن إسماعيل، وبدوي الجبل، وبشارة الخوري. نشرت أولى قصائدها في مجلة «الصبح» وهي في سن الثالثة عشرة ولكنها لم تُدرِجها في ديوان «عاشقة الليل» لأنها تنتمي إلى مرحلة ما قبل النُضج، كما نشرت قصائد أخرى في مجلة «فتاة العراق”قبل أن تحتفي بها مجلة «الآداب”اللبنانية المقروءة على نطاق واسع في الأوساط الثقافية العربية. تنطوي هذه الصفحات على شذرات مهمة تسلّط الضوء على بعض الجوانب النفسية في حياة نازك فهي شخصية إشكالية بامتياز، فقد كانت ميّالة للعزلة منذ طفولتها إذ كانت تشعر بأنها مختلفة عن سائر الفتيات في سنها فلا غرابة أن تنطوي على نفسها في مرحلة الطفولة والصبا ولكنها بدأت تحب الصداقة وتُسعَد لمعرفة الناس بعد سن الثلاثين. وتعترف نازك بأن فلسفة شوبنهاور المتشائمة قد أثرّت على حياتها في مرحلة الشباب تأثيرا كبيرا. ثم توسعت قراءاتها الفلسفية لتمتد إلى نيتشه وجورج سانتيانا وجون ديوي. يوضِّح لنا التشاؤم، المُشار إليه سلفًا، أنّ أسباب الحزن والكآبة والألم هي التي تطغى على قصائد نازك في الأعم الأغلب.
دخلت نازك معهد الفنون الجميلة عام 1942 ودرست في فرع العود على يد الفنان محيي الدين حيدر، كما درست التمثيل لعدة أشهر لكنها توقفت عندما تعارضت دروسه مع دروس العود. وهذه مرحلة مهمة جدًا في حياة نازك فمعظم أخوالها كانوا يعزفون على العود والكمان وحتى أمها التي لم تكن تعرف العزف على الكمان كانت تمرر أناملها على الأوتار قبل أن ينام الأطفال لكي تألف آذانهم الأنغام الموسيقية وهم لم يكملوا سنتهم الأولى بعد!
تعلّمت نازك بتحريض من نزار الإنجليزية والفرنسية التي لم تتقن لفظها جيدا، كما حاولت تعلّم اللغة اللاتينية الأمر الذي أتاح لها التلاقح مع الثقافات الأوروبية على وجه التحديد وفتح مخيلتها الشعرية على آفاق لم تألفها من قبل.
توقفت د. شرارة عند قصيدة «الكوليرا» التي كتبتها نازك في 27 أكتوبر (تشرين الأول) 1947 بينما كانت تستمع إلى المذياع وهو ينقل أخبار جائحة الكوليرا التي ضربت مصر وارتفع عدد ضحاياها في اليوم الواحد إلى ألف ضحية وهو رقم كارثي كبير دفعها لأن تنجز القصيدة في بحر ساعة واحدة لا غير، وقد نظمتها بأسلوب الشعر الحر الذي لم يعجب أمها أول الأمر حيث قالت: «ما هذا الوزن الغريب؟ إن الأشطر غير متساوية، وموسيقاها ضعيفة يا بنيتي”(ص135). أما الأب الذي لم ترُق له هو الآخر هذه القصيدة فقد ردّ عليها ببيت شعري يقول فيه:
(لكل جديد لذة غير أنني/ وجدت جديد «الموت» غير لذيذ).

غضبت نازك وقالت بصوت عالٍ: «قل ما تشاء. إني واثقة أن قصيدتي ستغيّر خريطة الشعر العربي”(ص135). وقد صدقت نبوءتها بالفعل وترسّخ اسمها في المشهد الشعري العراقي كواحدة من روّاد الشعر الحر مع نخبة من أقرانها المعروفين مثل السياب والبياتي والحيدري وشاذل طاقة. وبدأ صيتها يذيع عربيًا بعد أن أصدرت «عاشقة الليل»، و«شظايا ورماد».
انتبه إليها في بغداد الشاعر البريطاني ديزموند ستيورات فحصل لها عام 1950 على زمالة دراسية في جامعة برنستون بولاية نيوجرسي وكانت الطالبة الوحيدة فيها لأن هذه الجامعة كانت مخصصة للبنين فقط. وقد أفادت فائدة جمّة خلال وجودها في أروقة هذه الصرح الثقافي الكبير.
عانت نازك من تجربة مريرة حينما رافقت أمها المصابة بورمٍ في رأسها إلى لندن. وبعد إجراء العملية توفيت الأم فدفنتها هناك وبدأت تشعر بالحزن والكآبة حتى إن طبيبًا نفسانيًا أشرف على علاجها وكانت هذه بداية لإصابتها بمرض الأعصاب الذي سيتفاقم في النصف الثاني من الثمانينات. ويعوقها من الكتابة في بعض الأحايين.
أفادت نازك كثيرًا من رحلتها الثانية إلى أميركا، حيث نالت الماجستير من جامعة وسكونسون في مدينة ماديسون ونشرت الكثير من المقالات باللغة الإنجليزية. وحينما عادت إلى العراق عُينت عام 1957 مُدرِّسة معيدة في كلية التربية لتنتقل بعد زواجها من الدكتور عبد الهادي محبوبة إلى جامعة البصرة ومنها إلى بغداد التي أمضيا فيها سنة واحدة قبل أن يذهبا إلى جامعة الكويت.
تفاقم مرضها العصبي فأخذت تتناول الحبوب المهدئة التي تبعث الخمول في أوصالها وتمنعها من الانفعال الذي يحتاج إليه الشعر فانحسر نشاطها الأدبي والفكري ولم تستطع الرد حتى على رسائل الأهل والأصدقاء. عادت إلى العراق عام 1987، ثم كرّمتها جامعة البصرة بالدكتوراه الفخرية، لكنها لم تستطع الذهاب إلى حفل التكريم بسبب المرض. وفي عام 2007 توفيت في القاهرة إثر هبوط حاد في الدورة الدموية ووريت الثرى عن عمر يناهز الرابعة والثمانين.
أصدرت نازك ثمانية دواوين شعرية نذكر منها «قرارة الموجة»، «شجرة القمر» و«يغيّر البحر ألوانه». أما أهم كتبها النقدية فهو «قضايا الشعر المعاصر» و«سيكولوجية الشعر». لم تقتصر نازك على كتابة الشعر ونقده وإنما كتبت القصة القصيرة وأصدرت عام 1997 مجموعة بعنوان «الشمس التي وراء القمة»، كما حاولت كتابة رواية كان في نيتها أن تسمّيها «ظل على القمر» لكنها لم تكملها مع الأسف الشديد.

عن الشرق الاوسط