حياة شرارة.. اغتيال فكرة

Wednesday 4th of October 2017 06:45:17 PM ,

عراقيون ,

حاربت الظلام ودافعت عن الإنسان

اعداد / يوسف محسن
كتبت شقيقتها بلقيس شرارة متذكرة موت طفلة العذراء (حياة شرارة): لم نكن نعلم برحيلها عنا ذلك اليوم حتى المساء، عندما لفنا الليل بعتمته، و جمعنا زوجي رفعت الجادرجي في غرفة تطل على نهر التايمز في لندن، وقال لنا موجها كلامه لي ولشقيقتي مريم وزوجها جيم: لقد جمعتكم هذا المساء لأخبركم بخبر مؤلم جدا بالنسبة لي ولكم، وتوقف لحظة عن الكلام،

ساد صمت غريب، آذان صاغية، عيون محدقة، ما الذي سيقوله لنا، بلع رفعت لعابه، ونحن بالانتظار احتبست الكلمات بين شفتيه، شعرت بمعاناته، أحسست أنه يحمل عبئا ثقيلا، لا يدري كيف يتخلص منه، طال الصمت، ونحن ما زلنا آذانا صامتة وعيونا محدقة، ثم أردف قائلا بجرأة: توفيت (حياة) هذا اليوم، ساد الصمت ثانية وهيمن الوجوم علينا، انفلتت كلمتان من بين شفتي، سكتة قلبية؟ لم يرد عليّ، توقف قليلا متنهدا بعمق، ثم استرسل في إكمال جملته: لقد أنهت حياتها، كما أنهت ابنتها مها حياتها أيضا.

مسارات عائلة وهجرات
غادر محمد شرارة بلدته بنت جبيل مطلع العشرينيات إلى النجف في العراق وانقطع إلى دراسة العلوم الدينية حتى حاز مرتبة الاجتهاد العام 1935، في العام 1930 تزوج زهرة عبد الكريم الزين (شقيقة المؤرخ العاملي الشيخ علي الزين) وقد اجتمع الاثنان مع حسين مروة وهاشم الأمين وثلاثة غيرهم، إذ أسسوا في النجف مجموعة (الشبيبة العاملية النجفية) أواخر عشرينيات القرن الماضي، والتي كانت تنادي بإصلاح الأنظمة الدراسية الدينية وتحديثها، وقد ترك الجميع الدراسات الدينية في ما بعد واتجهوا نحو الأدب والتأريخ والماركسية، ولدت حياة محمد شرارة العام 1935 في النجف وكان والدها قد ترك العمامة والمشيخة والتحق في سلك التعليم الثانوي في الناصرية، ومن ثم تجول في عدة محافظات قبل أن يستقر في بغداد العام 1944 بعد حيازته على الجنسية العراقية، تحول منزله إلى صالون أدبي عامر،إذ كان يؤمه أدباء من مختلف المشارب الأدبية والسياسية, منهم: (السياب، نازك الملائكة، بلند الحيدري، الجواهري، لميعة عباس عمارة، أكرم الوتري، آل الملائكة، ناجي جواد الساعاتي، عزيز جعفر أبو التمن، كاظم السماوي، حسين مروة، حسين مردان..) وكان يدور الجدل حول التجديد الديني والتحديث واخر الموضات الثقافية وأتاح بيت العائلة لـ (حياة) فرصة تاريخية للقاء شعراء وكتاب ومثقفين وسياسين كانوا يتوافدون على صالون والدها الادبي، العام 1948 داهمت الشرطة منزل والدها فصادرت العديد من المطبوعات وكذلك دفتر حياة شرارة الصغير الذي كانت تدون فيه جلسات الصالون الادبي، سجن الوالد لمدة شهرين مع العديد من مفكري العراق وطرد من وظيفته، بعد ثورة 14 تموز 1958، أعيد الوالد إلى سلك التعليم ولكن بعد انتكاس الثورة أرغم الوالد على مغادرة العراق فذهب إلى الصين، في العام 1969 ألتقت مجددا مع والدها،إذ توفي العام 1979 ودفن في مقبرة وادي السلام في النجف.

قوة الشكيمة
ولدت حياة شرارة عام 1935 في مدينة النجف، أكملت دراستها الابتدائية والثانوية في بغداد، انخرطت (حياة) في العمل السياسي وهي لم تبلغ الخامسة عشرة من عمرها وأصبحت نصيرة سلم، وأرسلها الحزب الشيوعي العراقي الى براغ لحضور مؤتمر السلم العالمي العام 1952، وأصبحت بعدها عضوا في رابطة المرأة العراقية، وفي اتحاد الطلبة العام، في العام 1956 اضطرت بسبب مضايقات الشرطة لها إلى التوقف عن الدراسة ومغادرة العراق إلى القاهرة،إذ تابعت دراستها، العام 1961 سافرت إلى موسكو، وحصلت على شهادة الدكتوراه في الادب الروسي، وضعتها تجربة الدراسة في مصر وجها لوجه أمام أعلام قرأت لهم فكان لقاؤها المباشر بهم هناك وما تكوّن لديها من انطباعات عنهم مادة لبعض تلك الذكريات (طه حسين، رشاد رشدي، سهير القلماوي..).
عادت إلى بغداد وعينت في جامعة بغداد أستاذة في فرع اللغة الروسية، وتزوجت من الجراح العراقي محمد سميسم، مطلع السبعينيات بدأ زوجها يتعرض للملاحقات على خلفية عضويته في الحزب الشيوعي العراقي وسجن وعذب وتوفي في السجن العام 1982. صدر مرسوم بنقلها من الجامعة إلى وزارة النفط في سامراء, ولم تنفذ القرار،أعيدت إلى الجامعة مجددا، العام 1994 طردت من سلك التعليم في جامعة بغداد وقطع عنها راتبها، فاتجهت نحو الكتابة والبحث والتأليف متحملة الحصار السياسي من قبل السلطات في العراق ومنعت من السفر ومن نشر ما تكتب، أدى هذا كله إلى حادث مؤلم وغامض تسبب بوفاتها اختناقا بالغاز مع ابنتها الكبرى صباح في الأول من آب العام 1997، بعد سقوط النظام العام 2003، كشف عن موتها بأنه عملية تصفية سياسية، إذ نشر موقع الحزب الشيوعي العراقي خبرا عنها ينص على أن (الدكتورة حياة محمد شرارة زوجة الدكتور محمد صالح سميسم وابنتها أغتيلتا ذبحا في منزلهما في بغداد).

انتصار الإبداع والفكر
من خلال ابداعاتها وترجماتها للفكر الانساني نتبين أنها كانت في سلوكها الاجتماعي, وتوجهها الثقافي, وانتاجها العلمي, ورؤيتها الحياتية ضد النزعة الظلامية مؤمنة بالانسان وقدراته اللامحدودة، نشأت في بيئة ثقافية وفكرية وأدبية، فوالدها محمد شرارة، شاعر معروف وله صالون ثقافي وأدبي، وبعد عودتها إلى العراق عملت في جامعة بغداد فترة من الزمن حتى بدأت السلطات ملاحقتها بالرغم من محاولتها عدم الإعراب عن مواقفها من سياسة الحكومات آنذاك، وانصرفت إلى التأليف والترجمة.
فنشرت «تأملات في الشعر الروسي”(1981) و»غريب في المدينة» و»مسرحية المفتش العام”لجوجول و»يسينين في الربوع العربية» (1989) و»ديوان الشعر الروسي”(1983) و»مذكرات صياد”(1984) و «رودين وعش النبلاء”لإيفان تورجينيف و»مسرحيات بوشكين» (1986) و»تولستوي فنانا». كتبت كتابا نقديا مهما عن الشاعرة العراقية نازك الملائكة بعنوان «صفحات من سيرة نازك الملائكة»، وروايتين نشِرت إحداهما بعد وفاتها بعنوان «إذا الأيام أغسقت» وهنالك رواية أخرى لها لم تنشر بعنوان «وميض برق بعيد»، في كتاب «بيلينسكي”تستهل الباحثة بدراسة حياة بيلينسكي لما لها من أثر كبير في تكوين مملكته النقدية. فرغم حرمانه من لهو الطفولة، وحنان الأسرة، والطغيان الاجتماعي، استطاع ان يشق طريقه في دروب حياته الشائكة. تقوم المؤلفة بدراسة اعماله النقدية، وتعرفنا على الفكر الفلسفي الذي حدد منهجه، أما كتابها المشترك مع الاستاذ محمد يونس (مدخل إلى الأدب الروسي) فيبدأ الكتاب بمقدمة يبينان فيها كيف حفز الوضع الاجتماعي المتردي في المجتمع الروسي، الكتاب والشعراء الى السعي لإيجاد الحلول والمخرجات، ولاسيما القضية الفلاحية. فضلا عن ذلك سعى الشعراء والكتاب لخلق ثقافة روسية، تستوعب المضامين الأدبية الجديدة لمجتمع متعدد القوميات، بعد ذلك ينتقلا لدراسة وتحليل كتابات عدد من الادباء الروس الذين برزوا مثل بوشكين وغوغول وتورغينف ودوستويفسكي وتولستوي وتيشيخوف، في حين يعد كتاب (نازك الملائكة) احد الكتب السيرية المهمة، فقد تناولت شرارة سيرة الشاعرة مستفيدة من صلتها القوية بعائلة الشاعرة، فضلا عن الدراسة الميدانية التي قامت بها عبر الاتصال بعشرات الاشخاص ابتداء من الشاعرة ذاتها و أخوتها وأصدقائها وجميع معارفها، فضلا عما كتب عنها في المجلات والكتب الأدبية، أما رسالة الدكتوراه (تولستوي فنانا) فقد قامت د. حياة شرارة بدراسة وتحليل تراث تولستوي خلال فترة نشوئه الأدبي، وكتاباته الأولى حتى سنوات الثمانين، وتحليل أسلوبه الأدبي، كما وضحت ارتباط أدب تولستوي بالفترة التاريخية لروسيا التي عاش أحداثها ثم ننتقل الى دراسة الروافد الأدبية التي كانت مصدر إلهام الكاتب الفكري والادبي، كما أشرفت حياة شرارة على إصدار كتابي والدها (المتنبي بين البطولة والاغتراب) و(نظرات في تراثنا القومي).

الموت احتجاجا
رواية (اذا الايام أغسقت) كانت ترمز بها شرارة إلى مكان وزمان محدد, المكان هو الجامعات العراقية، الزمن فترة الاستبداد والحصار، تسعينيات القرن الماضي في هذه الرواية تصور معاناة الاستاذ الجامعي العراقي من خلال آثار الحصار الاقتصادي، وظلم وإذلال النظام، وتصور الإهانات التي تلحق به وبالأساتذة أمثاله من قبل السلطة التي ترمز إليها بالعميد، ومن رأس الهرم، كما تصور الإذلال والإهانات التي لقيها وهو واقف في طابور طويل، ولساعات، ليستلم تلك الهبات والمكارم الصغيرة، التي تهبها الدولة في نهاية كل شهر، وتمضي د. حياة في تصوير معاناة المثقف العراقي من خلال وصف الحالة المعيشية للأستاذ الجامعي، ووصف ملاحقة النظام السياسي. والخراب الذي تسلل إلى الجامعات وحول نورها إلى ظلام يولد دمارا ويوسع من رقعة الجحيم عبر إجراءات يومية تترافق مع مخطط يستند إلى الرعب والجوع كوسيلتين للوصول إلى الخنوع والإذلال، الرواية تبرر أسباب ذلك الانتحار الذي تكتم يومها الإعلام الصدامي، محاولا أن يجعل من ذلك الاحتجاج البطولي أمرا غير ذي بال، فالأساتذة يشعرون بالسأم وضغط الحياة وجدبها, ووقوفهم صفوفا وفي النسق, كي يحصلوا من الجمعية على بعض المواد الغذائية, والأكثر جلبا للأسى خضوعهم لما عرف بالوزن, ويعاقب إداريا من يزيد وزنه عن الحد المقرر, وعمليات التجويع القاسية, التي يمارسها الفرد ضد ذاته رغم جوع الحصار, كي ينجو من العقاب, وينقل لنا الدكتور نعمان بطل الرواية المثقف, صورة مؤسفة لضعف الإنسان, فترى الأستاذ الجامعي, وقد أعياه الحر, والجو الرطب الخانق انتظارا لدوره في فحص وزنه, يلجأ لدخول غرفة الفحص عن طريق الشباك, متنازلا عن منزلته العلمية والاجتماعية وكأنه صبي صغير، فضلا عن زجهم في معسكرات التدريب على السلاح في العطلة الصيفية, وإرسالهم الى جبهات الحرب, بعد أن زجوا في سنوات سبقت الحرب, بمعسكرات العمل القسري, الذي يسمى تجاوزا بـ (العمل الشعبي) مستعيرين التجربة الستالينية والماوية في أعمال السخرة، فضلا عن سوسة الرشوة الفاسدة، التي صارت ديدنا يقوض كل المثل التي يحاول البطل الراوي المحافظة عليها في الحياة الجامعية.

سبق لهذه المادة ان نشرت في صحيفة الصباح ونعيد نشرها لأهميتها