في ذكرى رحيله (22 تشرين الاول 1963) ناظم الغزالي.. حياة زاخرة بالذكريات الفنية

Sunday 22nd of October 2017 06:38:15 PM ,

ذاكرة عراقية ,

اعداد : ذاكرة عراقية
تحدث الموسيقار العراقي المرحوم سالم حسين الامير عن ذكرياته مع الفقيد ناظم الغزالي فقال:
في عام 1943 كنا موظفين في أمانة العاصمة، وعندما التحق في معهد الفنون- قسم التمثيل أظهر موهبة ممتازة جعلت عميد المسرح العراقي حقي الشلبي يقول عنه كلاماً جميلاً، لكن حبه للغناء فارق حدود التصور، فكان يقدم وصلات غنائية خلال أعمال مسرحية لفرقة الزبانية، ثم حسم خياراته لصالح الغناء.

ناظم الغزالي كان شديد الذكاء، وذكاؤه وحسن اختياره ومجموعة العمل التي معه كانت من أسباب نجاحه، فقد كانت أجمل ألحانه لناظم نعيم، وأجمل كلماته «من غير القصائد» لجبوري النجار، والتوزيع الموسيقي جميل بشير، أما فرقته الموسيقية فكانت تضم «أنا» سالم حسين الأمير- قانون- /ناظم نعيم- كمان/ حسين عبدالله- إيقاع/ خضر الياس- ناي/ جميل بشير- عود/، أما القصائد التي كان يختارها للغناء فكانت في الغالب للعباس بن الأحنف- إيليا أبو ماضي- المتنبي وغيرهم.
ويبدو أن الإجهاد قد دفع به إلى قدره المحتوم، فقد كنّا في مشروع عمل في بيروت، لتصوير فيلم شاركت فيه الممثلة اللبنانية جاكلين، حسن المليجي، طروب، سافر إلى أوروبا يقود سيارته متنقلاً بين بلدانها، وعندما عاد تم إرساء شراكة فنية جديدة أجبرته على العودة إلى بغداد سريعاً لاستكمالها، وعدت معه بالسيارة أيضاً وكانت رحلة طويلة ومرهقة، وهي رحلة جعلت زوجته الفنانة سليمة مراد تعود بالطائرة.. لم يستمع الغزالي رحمه الله لنصائحي عندما طلبت إليه في بيروت أن يستريح لمدة عشرة أيام على أقل تقدير، وصلنا بغداد فجراً، وقررنا إلغاء جميع ارتباطاتنا الفنية في ذلك اليوم.
في العاشرة والربع اتصل بي د. عزيز شلال عزيز عميد معهد الفنون الجميلة وقتها، وأخبرني بنبأ وفاة الغزالي، وأضاف: إن عم ناظم المدعو مصطفى معه في هذه اللحظة، فتوجهنا جميعاً يصحبنا الفنان المعروف أسعد عبد الرزاق إلى بيت المرحوم الغزالي، وترجّل الجميع مشياً، ولكنني لم أقو على السير من هول الصدمة، فقد كان أخاً وصديقاً، ولم نكن نفترق لأي سبب.

• وكتب الاستاذ سعدي السعدي الباحث في التراث الموسيقي البغدادي :
ذكر الغزالي في اخرلقاء صحفي له عام 1963 مع الاستاذ مرعي عبدالله من مجلة السينما والعجائب.ان اول اغنية له قبل 14 عاما ويقصد بذلك عام 1949 - كانت (زهور الضفاف بما تحلمين)...الحان الفنان الكبير رياض السنباطي للفنانة المصريه امال حسين ولشدة تأثره بها غناها الغزالي وعلى الهواء مباشرة من دار الاذاعة العراقيه لم تلق الحماسة والتشجيع والقبول من جمهور المستمعين.

كان نتيجتها ان ابتعد الغزالي عن الغناء لاكثرمن عام فانصرف ينهل من معين المقام العراقي فالتقى بااستاذه ومعلمه الاول الاسطورة محمد القبانجي فتعلم منه الكثيرمن فنون المقام وسحرادائه...

فكان اول مقاماته الراشدي - ياصاح جف الدمع هب لي دمع جاري للشاعر جبوري النجار واغنية قديمة على جسرالمسيب.والذي غناه ناظم وبالمباشرمن الاذاعة فاجتاز الاختبار بتفوق وتلقى التهاني وكلمات التشجيع والاعجاب من المستمعين والقبانجي ومديرالاذاعة وعندها واصل حفلاته الاسبوعيه. تلك هي البداية الحقيقية له فذاع صيته وعرف اسمه وعلا نجمه كقارئ شاب مقتدر...
بدايته الناجعة هذه جعلته يقف على اعتاب مرحلة مقامية جديدة وضعته امام مسؤولية مضاعفة لتعزيز وتأكيد دوره في اثراء فن المقام حتى بلغت حصيلته النهائية من المقامات بحدود 35 مقاما بين رئيسي مثل العجم والصبا والنهاوند والحسيني والفرعية الكثيرة المسجلة بصوته. اماعن اول اغنية عراقية حديثة ناجحة للغزالي فكانت عام 1950 (وين الكه الضاع مني)...كلمات الشاعر ابراهيم الامين والحان الفنان الكبير وديع خنده(سمير بغدادي).

بين الغزالي ووديع الصافي
في الأشهر الأولى من عام 1963 تلقى ناظم الغزالي دعوة من وزارة الإعلام في الكويت على ان يقوم باحياء حفلات غنائية هناك مع مجموعة من نجوم الغناء العربي آنذاك فاستعد استعدادا كبيرا من الناحية الفنية والاغاني وتهيئة الشعر والمقدمات الموسيقية، وصحبه من العازفين كل من: حسين عبدالله، ايقاع، وخضر الياس ـــ عازف الناي، وناظم نعيم ـــ كمان، وسالم حسين ـــ قانون ـــ وانضم إلى هؤلاء عازفون من فرقة الاذاعة الكويتية.
وفي الليلة الأولى من الاحتفال كان موعد ظهور المطرب ناظم الغزالي في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، واستقبل الجمهور ناظم الغزالي بترحاب وحماس كبيرين ورغم التزام المطرب ناظم الغزالي بالوقت المحدد له الا ان الجماهير المتعطشة لغنائه تطلب المزيد من الوقت وعند مغادرة المسرح غادر اغلب الجمهور قاعة الاحتفال الذي اقيم على مسرح سينما الاندلس ولم يبق في القاعة الا نفر قليل من محبي غناء المطربة نجاة الصغيرة والمطرب الكبير وديع الصافي وغيرهما من عمالقة الغناء العربي.
وفي ظهر اليوم الثاني التقى المطرب الكبير وديع الصافي بسالم حسين عازف القانون ورئيس الفرقة الموسيقية المصاحبة للفنان ناظم الغزالي وطلب منه ان يؤجل ناظم الغزالي وصلته الغنائية لتكون ختام الحفل!!.
وما احل المساء وبدأت الحفلة وتعدى الوقت منتصف الليل اخذت الجماهير تنادي بصوت عال ناظم الغزالي مما حمل عازف القانون الفنان سالم حسين ان يظهر على المسرح ويطمئن الجمهور بأن المطرب ناظم الغزالي سيأخذ دوره بعد الفقرة المقبلة ليتسنى للجمهور الحاضر ان يستمتع بصوته اطول فترة ممكنة.. وهنا هدأت ثورة الحاضرين.. وما ان حان وقت المطرب ناظم الغزالي حتى دوت القاعة بالتصفيق والتشوق الحار لسماعه.. واستمر ناظم الغزالي بالغناء والجماهير تطلب المزيد حتى انبلاج الصباح.. لما رأت وزارة الإعلام تعلق الجماهير ناظم الغزالي طلب منه وزير الإعلام آنذاك ان يمكث في الكويت لتسجيل بعض اغانيه ومقاماته للاذاعة والتلفزيون واستغرق ذلك عشرين يوما.. وفي هذه الاثناء جاء صاحب فندق (طانيوس عاليه) في لبنان الموجود في الكويت طالبا منه التعاقد لاحياء عدة حفلات خلال الصيف في لبنان.. وقد تكللت حفلاته بالنجاح والشهرة الواسعة المدى حتى اطلق على ذلك الموسم السياحي بموسم ناظم الغزالي وكان المستمعون يخرجون إلى الشارع وهم يرددون اغاني ناظم الغزالي.

الغزالي والبحث الموسيقي
كان الغزالي يقوم بتدوين الكثير من الملاحظات التي تتعلق بالأغنية والمغنين، ففي مكتبة الفنان الراحل”منير بشير”في”دائرة الموسيقى”في وزارة الثقافة، كان هناك كتاب كبير دُون على صفحته الأولى”طبقات العازفين والموسيقيين من سنة 1900 ـ 1962”. يستهله بالحديث عن بعض أولئك أمثال:”خضر إلياس، رضا علي، ناظم نعيم، محمد القبنجي”وآخرين.
وهناك ما يلفت في حديثه عن”القبنجي”، إذ كتب:”…سافر إلى القدس عام 1932 وهناك أقام حفلتين. ثم ذهب إلى القاهرة إذ شارك في مؤتمر”الموسيقى العربية”، وبقي هناك ثلاثة أشهر وسجل للحكومة المصرية”خمساً وثلاثين”إسطوانة، لم يبق منها سوى خمس أو عشر إسطوانات محفوظة في معهد فؤاد الأول”.
وشرع الغزالي عام 1952، بنشر سلسلة من المقالات في مجلة”النديم”تحت عنوان”أشهر المغنين العرب”. ويقال إنه حين توفى كان في مكتبته”عشرون شريطاً”سجل عليها أغنياته كافة وأغنيات المرحومة”سليمة مراد”. وهناك الشريط رقم 21 سجل عليه بعض أغنياته وأغنيات مراد أثناء التمارين في بيتهما.
وفي مكتبته أيضاً كرّاس كبير دوّن فيه الأغنيات التي أدتها جميع المطربات العراقيات خلال أربعين عاماً بين"1910 و1950"، وفهرس لأغاني أستاذه”محمد القبنجي”، وفيه نصوص لأربع وستين أغنية مع ذكر السنة التي سجلت فيها تلك الأغاني على الإسطوانات. وفي دفتر آخر دون عناوين أشهر المخطوطات العربية في علم الموسيقى والغناء تلك الموجودة في محتويات مكتبة المتحف العراقي مع ذكر أرقامها وبعض الملاحظات حول كل مخطوط. وفي صفحة 77 كتب الغزالي الأغنيات التي أدّاها”الجالغي البغدادي”على مدى سبعين عاماً من 1870 وحتى 1940. مع معلومات تشير إلى عدد الذين أدوا كل أغنية وما كان منها مسجلاً على الإسطوانات. وفي سجل كبير آخر نجد الراحل الغزالي كتب المقامات العراقية المؤداة والطبقة وطريقة الغناء. كما دون كل أغاني الراحلة سليمة مراد. وهناك صفحات بخط يد الراحل دوّن فيها”تاريخ الديالوج في الغناء العراقي”. لكن الخسارة وقعت بوفاته إذ أنه لم يكمل أغلب هذه الدراسات أو الأبحاث والمخططات، ثم إننا بعد وفاته لم نر أو نقرأ أي من هذه الكتابات أو الكتب.

وفاته
وكتب الاستاذ كمال لطيف سالم عن وفاة الغزالي وما قيل حولها فقال :
كان المرحوم ناظم الغزالي يحلق ذقنه، فطلب شيئاً من الماء، وحين جيء به إليه سقط على الأرض فأستدعي له أول الأمر الدكتور (البير حكيم) الذي فحصه وأوصى بالاتصال بالدكتور شوكت الدهان ليقوم بسحب مخطط لقلبه، والى هنا كان الفنان ناظم الغزالي حياً، ويقول الأستاذ محمد القبانجي عن موت الغزالي:
- لقد أخبرني صديق في مساء يوم الاثنين وصل ناظم الغزالي الى بغداد فاتصلت تلفونياً بداره فأجابني من في الدار وطلبت ناظم فأخبروني بانه ليس على ما يرام فألححت بطلبه على التلفون، وذهبوا واخبروه برغبتي في مكالمته، وجاءني الجواب بأنه في وضع لا يستطيع معه التحرك والحضور الى التلفون، كما اخبروني بان الدكتور البير حكيم قد استدعي لفحصه،وانتهت المكالمة التلفونية.
وبعد أكثر من نصف ساعة تلقيت نداء تلفوني من أحد الأصدقاء يقول فيه: ان الموت طوى حياة ناظم الغزالي.. لم أصدق!! تناولت سماعة التلفون بسرعة وأجريت مكالمة مع بيت المرحوم الغزالي فقيل لي انه فارق الحياة، لم أصدق النبأ فذهبت الى الدكتور توفيق عبد الجبار واصطحبته معي الى دار المحروم الغزالي فأجرى الفحص عليه فأكد لي انه ميت، ثم جاء الدكتور خالد ناجي وأجرى الفحص عليه فأكد بدوره الوفاة.
ويضيف الأستاذ القبانجي:
- ان الغزالي كان يرتدي دشداشة وكان يبدو لي مبتسماً، بعد ذلك تم نقل جثة المرحوم ناظم الغزالي الى معهد الطب العدلي بناء على مشورة بعض الأصدقاء، وبقيت الجثة حتى اليوم الثاني.
وقد أجرى الدكتور عبد الصاحب علش أحد أطباء معهد الطب العدلي عملية تشريح الجثة وقال: ان عملية التشريح لجثة الفنان ناظم الغزالي استغرقت نحو الساعة ولا استطيع التحدث بشيء الآن حتى تتم معرفة نتائج الفحوص التي يجريها المعهد لمعرفة أسباب الوفاة.

وقال الدكتور علش أيضاً: أنه سيتم تسليم الجثة لأهله صباح هذا اليوم الثلاثاء.
وفي الساعة السابعة من صباح يوم الثلاثاء ذهب لفيف من أصدقاء الفقيد الى مقر مديرية الطب العدلي حيث نقلوا جثمانه الى داره عن طريق قناة الجيش فشارع فلسطين، فشارع مستشفى دار السلام ثم داره حيث وضع هناك وسط الدموع والتوجع وبدأت وفود المعزين تتوالى على دار الفقيد.
وبدأت ارتال السيارات في الشارع الكبير الذي يقع فيه دار الفقيد، والشوارع الكثيرة المحيطة حيث ازدحمت بها على سعتها، وعند الساعة العاشرة تماماً وضع الجثمان على سيارة مكشوفة يحيط بها عدد من الفنانين في مقدمتهم المرحوم علاء كامل وخزعل مهدي ومحمود القطان ومحمد كريم، ومضى الموكب الطويل من دار الفقيد الى مثواه الأخير عن طريق ساحة الأندلس فالسعدون فساحة الطيران فجسر الجمهورية فجانب الكرخ فدار الإذاعة فساحة مطار بغداد ثم مقبرة الشيخ معروف وسط موكب كبير من المواطنين الذين أفجعتهم المصيبة بفقده على هذه الصورة، وبعد ان صلّ على جثمانه وري التراب وسط الدموع والبكاء من ألوف المشيعين، وبعد تلاوة الفاتحة ألقى الأستاذ الكبير محمد القبانجي كلمة مؤثرة قال فيها:
ظهرنا للوجود وكل شيء
له بدء لعمرك وانتهاء
لئن ذهبت اوائلنا ذهابا
فأولنا وآخرنا سواء

- أخي الحبيب ناظم: لا تسل عن عظيم كدري حين علمت بخير وفاتك على حين غرة.. فكنت والله.. لا أعلم أفي يقظة أنا أم في منام، ولا تسل عما عراني من الدهشة والانقباض، وما ألم بجوانحي من الكدر فقد كانت ساعة لا ترى فيها عيناً باكية وقلباً خافقاً وكبداً تتقطر من الأسى، فلله تلك الساعة ما أمرها على القلب بكيت.. نعم بكيت أنا وإخوانك الأوفياء الأصفياء عندما رأيناك مسجى على فراش الموت والابتسامة على شفتيك.. ان صوتك الحنون ينبعث مع الأثير الصامت وكأنك تقول لا تبكوا عليّ أيها الأخوان فأن كنت سأغيب عنكم بجسدي فأنني لن أغيب عنكم بروحي.. نعم بكينا ولو كان البكاء يجدي نفعاً لبللنا الثرى بدمعنا وأضفنا اليه من دم القلوب والأحداق، لقد كنت وإخوانك نرقب مجيئك بعد غياب طويل عن أرض الوطن، وبعد هذه السفرة التي كنت فيها على ميعاد مع الموت والتي كنت فيها نجماً ساطعاً بفنك وأدبك في الأقطار العربية، لقد كنت مثالاً للمغني الأديب الناجح، وقد أبيت ان ينعتوك بما أنت أهل له تواضعاً واعترافاً بأستاذك المفجوع بك، فقد كنت والله ترتفع باعترافك وتسمو بإنصافك.