اذاعة بغداد وفيضان 1954

Sunday 29th of October 2017 08:23:14 PM ,

ذاكرة عراقية ,

سندس حسين علي
باتت بغداد ليلتي الرابع والعشرين، والخامس والعشرين من آذار1954 هلعة قلقة من المصير الذي كان يتهددها في كل لحظة بفيضان مياه دجلة عليها، فقد بدأت مناسيب المياه في بغداد بالارتفاع بعد منتصف آذار 1954،فرُوِع البغداديون ترويعا لم يروه من قبل.

إذ كانت مناطق السداد الشرقية في بغداد طوال يوم الرابع والعشرين من آذار كخلية النحل حافلة بالنشاط، واستمرت أعمال صيانة وتعلية سدة (ناظم باشا)، وقد تعاون أفراد الجيش والشرطة والآهلين وطلاب المعاهد العالية مع الجهات المسؤولة لدرء الخطر الذي هدد العاصمة. ولم تهدا نفوس سكان بغداد إلا بعد إعلان نبا من مديرية الري العامة، بجنوح النهر إلى الانخفاض البطيء.

لم تكافح بغداد الماء فحسب، بل كافحت الإشاعات أيضا، فقبل الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم قطع راديو بغداد إذاعته، وأذاع نبأ يقول: ((إنَّ بعض الإشاعات سرت في العاصمة مؤداها أن كسرة حدثت في سداد بغداد، وإنَّ الإذاعة اتصلت بالمسؤولين فنفوا لها الخبر نفيا قاطعا)).
كانت حالة الطوارئ معلنة في أقسام الإذاعة وكل الموظفين متواجدين في مكاتبهم يؤدون عملهم.
استمرت الإذاعة العراقية تعمل ليلاً ونهاراً ولم يحدث لإذاعة بغداد أن واصلت البث ليلاً ونهاراً قبل حدوث فيضان عام 1954. وكانت تذيع أنباء الفيضان والأغاني والأناشيد الحماسية الوطنية, وقد أنقسم الناس على فريقين، الفريق الأول كان ينكر ما تذيعه من أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب بينما تتعرض بغداد للخطر، والقسم الثاني يرى إن الإذاعة لم تكن مخيرة في ذلك، فلو أنها أذاعت بدل الغناء مثلا آيات القران الكريم لحسب أهل بغداد إن مدينتهم غرقت ولزاد الهلع إضعافا مضاعفة وانتشرت الإشاعات. كذلك أذاعت لجنة إسالة الماء من دار الإذاعة البيان الآتي:
((شاع في العاصمة بان اللجنة ستقطع الماء عن الدور لمدة ثلاثة أو أربعة أيام, وحيث لا صحة لتلك الإشاعات وان اللجنة مستمرة في تجهيز الماء وتصفيته فإنها تحيط الجمهور علما بذلك وترجو أن يطمئن الجميع بأن الماء سيجهز كالمعتاد)).
قامت إذاعة بغداد بإذاعة القصائد التي تهيب بشجاعة المواطنين ومنها القصيدة التي ألقاها الشيخ محمد بهجة الأثري التي جاء في مطلعها:
يا (نوح)..! قمْ, دارتْ بنا الأزمانِ
قد غِبْتَ عنهُ, فأيْنَ مَنكَ َسفينةٌ
عُبدَ الهوى، وتَجَدَّدَ الطُوفانُ
يا نوحُ يَفزعُ نحَْوَهَا الإنسانُ؟

أصدر أمين العاصمة فخري الطبقجلي يوم الثامن والعشرين من آذار، بيانا إلى كافة موظفي ومستخدمي الأمانة أذيع من الإذاعة العراقية جاء فيه:
((إنَّ ما بذله موظفوا ومستخدموا الأمانة من الهمة والجهد في درء خطر الفيضان في العاصمة كان مثار التقدير والإعجاب ونظرا إلى أن منسوب النهر سيحافظ على مستواه طيلة ستة وثلاثين ساعة لذلك وحذرا من المفاجآت الطبيعية التي يحتمل حدوثها كالعواصف والأمطار فأننا نهيب بكافة موظفي ومنتسبي الأمانة أن يكونوا جميعا على أهبة الاستعداد للمشاركة في أعمال مكافحة الفيضان وعليهم اتخاذ الحيطة والحذر من الآن لتنفيذ الاستعدادات المطلوبة فور صدور الأوامر إليهم)).
إلا أن خطر الفيضان أصبح يهدد بغداد ولا يحول بينها وبين كارثة الفيضان سوى سدة ناظم باشا التي تحيط ببغداد من الناحية الشرقية, والتي يخشى أن لا تقوى في بعض مواقعها من الصمود أمام المياه المتدفقة, وبينما هدأ الناس بعد القلق الذي كان يساور النفوس صباح يوم الثامن والعشرين من آذار بعد هبوط منسوب المياه, إذ بالأنباء تنتشر بعد الظهر فجأة بين الناس عن الخطر المحدق ببغداد. إذ تسربت المياه إلى كثير من الدور والمؤسسات الرسمية القريبة من النهر وتحولت ساحة السراي الكبرى ومديرية الدعاية العامة إلى بحيرة تعذر على الموظفين اجتيازها بيسر والوصول إلى دوائرهم.
على الرغم من الجهود التي بذلت إلا إنَّ الماء قد أحاط ببغداد من وراء سدة ناظم باشا والذي صار أعلى من السدة نفسها, فأصدرت مديرية الري بيانا, وما أن سمعه الناس من دار الإذاعة حتى دب الفزع والهلع في سكان بغداد وضواحيها ((...وسهر الناس ليلة 28 آذار حتى الصباح وهم يتوجعون ويرتجفون وكانت أيديهم على قلوبهم)). فقد سهر ألوف الناس من سكان العاصمة على السدود وشواطئ النهر وهم على أهبة الاستعداد لمعاونة ومساعدة أفراد الدوائر المختصة في العمل على أحكام المنافذ وتعلية الأماكن المنخفضة التي كاد تيار دجلة أن يطغى عليها وقد كانت الشواطئ على طرفي دجلة من شمال الكاظمية حتى ديالى تزودهم بالعمال وأفراد الشرطة والجيش والأهالي الذين كانوا يستنيرون بالاضوية الكهربائية والفوانيس سهروا حتى الصباح. انكسر سداد ناظم باشا فكان فيضان 1954 أخطر فيضان شهدته بغداد.
اجتمع الآلاف من الناس في بيوتهم حول الراديو يصغون وأيديهم على قلوبهم إلى ما يذاع من نشرات الفيضان، إذ كانت إذاعة بغداد تذيع نشرات أخبار الفيضان كل نصف ساعة أو اقل لكي يطلع الجمهور على التطورات أولاً بأول، وكانت بغداد تسهر مع الإذاعة لذلك الغرض. فقد عاش الناس ساعات طويلة على أعصابهم، مرة يهرعون إلى الشارع وأخرى ينصتون إلى الراديو، إلى إن أذاع وزير الداخلية سعيد قزاز نداءاً إلى أهالي بغداد من الساعة العاشرة والنصف مساء الثامن والعشرين من آذار, وبنبرات حزينة ونفس كسيرة, قابلها الناس بالبكاء والعويل جاء فيه:
((مواطني الأعزاء: انتشرت في الساعة الماضية أخبارا مقلقة للسكان حول حدوث بعض الكسرات في سداد مدينة بغداد، وان تلك الأخبار لا صحة لها ولم تحدث أي كسرة بفضل الله تعالى حتى هذه الساعة. لا أريد إن اقلل من أهمية الخطر المحدق بمدينة بغداد هذه الليلة...ولكن أود إن اطمن مواطني الأعزاء بان كل جهود عملية في وسع البشر لدرء الأخطار والأضرار عن المدينة, قد اتخذت وان أبناءكم المخلصين من أفراد الجيش والشرطة ومن منتسبي الدوائر المسؤولة باذلون أقصى جهودهم للمحافظة على العاصمة وتخفيف الضغط عن سدادها)).
واستجابة لنداء وزير الداخلية، أخذت الإذاعة تنقل مباشرة انطلاق المتطوعين للعمل على تقوية السدة على شكل جماعات تعقب أحداها الأخرى وبين الحين والحين كانت سيارات أمانة العاصمة تقف قرب السدة فينزل منها أساتذة وطلاب وطالبات المعاهد العالية والثانوية، والكل في سباق لملء أكياس التراب ووضعها فوق بعضها عند حافة الماء لتغطية السدة وتقويتها، وكانت تصف الطالبات وهن يمسكن بأكياس الجنفاص والطلبة يعبؤنها بالتراب بـ (المعاول) ومن لم يجد (معولاً) يستعمل يده, وكان منظر الفتيات الناعمات وهن يتوشحن التراب المتطاير من آلات التفريغ الضخمة الهائلة يزيد من حماسة الجند والشرطة
فيندفعون في العمل من غير هوادة ولا لين.
كان لمواكبة الإذاعة المباشرة للحدث، أن أثار حماسة وقرائح الأدباء والشعراء للإشادة بموقف المرأة والطالبات وألقى الشيخ محمد بهجة الأثري قصيدته من الإذاعة عن المرأة والطالبات اللاتي شاركن لدرء خطر الفيضان في قصيدته إذ قال:
وأخْصُصْ كواعِبَ كالأزاهرَ نضرةً
غالبن كاللبوات ما اجتاح القرى
وفدين بالمهج الغوالي موطنا
نوراً حَرائِر حَليها العرفان
والمدن واستعلى له السلطان
كرمت لهن بظله الأزمان

لقد برهن الجميع بذلك على روح وطنية عالية وشعور بالواجب كان موضع عرفان وإعجاب. وبذلت الجهود من جميع الجهات.
أعلنت اللجنة الصحية المنبثقة من اللجنة العليا لإغاثة منكوبي الفيضان من إذاعة بغداد عن اجتماعها، واتخاذها عدة مقررات لها أهميتها في حفظ منكوبي الفيضان ومن أهمها التطعيم ضد التيفو والجدري، ونصب شبكة من الأنابيب لاستعمالها في تزويدهم بالمياه الصالحة للشرب ورش المطهرات والمعقمات على الفضلات وعلى البيوت والمخيمات التي يلجأون إليها مع رش جميع المستشفيات والمحلات التي تركد فيها المياه التي تحيط بمناطق سكناهم.
كانت ليلة التاسع والعشرين من آذار أسوأ وأخطر ليلة عاشتها مدينة بغداد، وفي الساعة العاشرة من مساء تلك الليلة عقد اجتماع برئاسة رئيس الوزراء فاضل الجمالي ووزير الداخلية سعيد قزاز وعدد من رؤساء الوزارة السابقين وأعضاء من مجلس الأعيان والنواب وكبار المسؤولين ومدير الري العام المستر(اف. اس.هاردي) F. S.Hardi, ومتصرف لواء بغداد عبد الجبار فهمي وعدد كبير من الموظفين والاختصاصيين أيضا، في بناية مديرية الري العامة, تم استعراض الحالة الراهنة. وبعد مناقشات مستفيضة للموقف اتخذت الأكثرية قرارا خطيرا بأخلاء سكان الرصافة إلى جانب الكرخ.
حينما وصل الأمير عبد الإله إلى مقر الاجتماع وجد نفسه بين قرار الأخلاء الذي أتخذ بالأكثرية وقرار وزير الداخلية المعارض له, واستطاع وزير الداخلية من أقناعهم إلى مضاعفة الجهود والعناية بالسداد, وتمخض عن قرار من مجلس الوزراء يومذاك في إعفاء مديرية الري العامة من المسؤولية وإناطة مسؤولية درء خطر الفيضان عن بغداد إلى الجيش. وكانت جميع تلك البيانات وما يدور حولها، ينقل عن طريق الإذاعة حتى يعلم المواطن, ما هو الوضع الذي كان يحيط به.
بعد مناقشة دقيقة للموقف أعلن بيانا رسميا من دار الإذاعة، قضى ((بإخلاء الجانب الشرقي من بغداد والأهالي لاسيما نقل الشيوخ والأطفال الصغار والمرضى من المناطق المجاورة للسداد الشرقية إلى جانب الكرخ كوسيلة احتياطية فقط...وكذلك من المستحسن أن يكون الآخرون أيضا على استعداد للانتقال إذا دعت الحاجة)).
سأل وزير الداخلية سعيد قزاز مدير الري العام البريطاني الجنسية المستر (هاردي) عن درجة الخطر المحدق فرد عليه بان درجة الخطر المحدق بالعاصمة 95 %, فأذاع وزير الداخلية عن طريق الإذاعة إصراره بعدم الجلاء لما يولده تنفيذ ذلك القرار من ارتباك قد يؤدي إلى التهلكة. كذلك رفض الجلاء أيضا وبشدة من قبل بعض الجهات العليا على اعتبار أن الجلاء عن بغداد ربما تتعرض بيوت السكان ومحلاتهم إلى النهب والسرقة فضلا عن مشكلة أين المكان الذي يستوعب ذلك العدد الهائل من السكان وكيفية تدبير أمورهم المعاشية الضرورية، وتم اتخاذ القرار النهائي، بعدم الجلاء ومواجهة الوضع مثلما هو مهما كانت النتائج.
أدت الإذاعة العراقية دوراً مهماً في توجيه المواطنين, وطمأنتهم وعدم سماع الإشاعات ثم توجيه حراس السدود، بسحب المراقبة وقرارات المسؤولين, كانت العامل الأول والأهم في الإعلام آنذاك، كذلك سرعة إيصال الأوامر وتنفيذها.
لم يقتصر رفض الجلاء عن بغداد على المسؤولين فقط, بل كان موقف الجيش العراقي المشرف أيضا، فحينما وجد رئيس أركان الجيش أن الموقف بائساً والغرق يحيط بالفوج (الذي أستقدم من الموصل) على السدة الشرقية من كل جانب، أراد إصدار أمر بالانسحاب حرصا على أرواح منتسبي الفوج, فتحدث بذلك مع أول ضابط من ضباط الفوج صادفه، فأجابه: ((لا ننسحب أبدا... أرواحنا ليست أغلى ولا أعز من أرواح بغداد)) فكان لنقل وقائع اللقاءات التي أجراها وزير الداخلية من اذاعة بغداد أن ألقى الشيخ محمد بهجة الأثري قصيدة بعنوان (بغداد والفيضان) وهي تحية مرسلة إلى الجيش والشباب ومعاهد العلم إذ قال فيها:
وذَكرْتُ مأسَدَة كأنَّ لُيوثَها
لِله دَرَّ الجيشِ من مَتَحمسِ
نَضَد التُّلولُ على التّلولِ مجالداً
في (السَّدِ)مما رَبَّهُ(خفَّانُ)
قامت على إِخلاصه الأوطانُ
الله...ماذا تفعل الشجْعانُ!

بشرت الإذاعة أهالي بغداد بإحضار الحكومة ثلاث جرافات كبيرة من مشروع الثرثار لنقل وتهيئة التراب اللازم لتعبئة الأكياس لتقوية السداد, وأعلنت الإذاعة عن مساهمة الجهات البريطانية ومعظم الشركات الأجنبية التي كانت تتولى تنفيذ بعض مشاريع مجلس الأعمار بالياتها ومركباتها في تلك الحملة، لدرء ذلك الخطر, فقد أرسلت تلك الجهات (15) ألف من الأكياس المعبأة بالتراب من منطقة الحبانية مساهمة منها لدرء ذلك الخطر, وكانت الإذاعة تذيع بين الحين والأخر حالة الفيضان وتبرعات الشركات والمواطنين، فقد أذاعت أن بعض الشركات وأصحاب المخازن في بغداد قد قدموا، عدداً من أجهزة الراديو والمصابيح (اللوكسات) إلى القوات المرابطة على السدود القائمة بمكافحة الفيضان والمحافظة على السداد الشرقية عن طريق أمانة العاصمة, ترفيها عنهم وتخفيفا لما يكابدونه من مشاق إذ قدمت تلك الشركات أفخر أنواع الراديو التي تمتلكها. لم تقتصر مساهمة العراقيين في الدفاع عن الوطن في موضوع أو مادة أو صوت وإنما شارك كل من موقعه ومن دون استثناء حتى بائعي الفوانيس فالتضحية بالنفس والجود بالنفس أقصى غاية الجودي.
وقبل أن يتلاشى شبح الخطر الماثل أمام الناس والذي كان يتهددهم خطر الفيضان كل لحظة، ألقى الملك فيصل الثاني خطابا أشاد فيه بمواقف الشهامة والنجدة التي تجلت في المواطنين وفي مقدمتهم رجال الجيش الذي وصفهم بـ ((المجاهدين، والشرطة، والطلاب، والعمال، والمتطوعين وبموقف الدول العربية التي شاركت العراق في ذلك الموقف)) وقال: ((بان مشروعي الثرثار ودربندخان اللذين تقوم الحكومة بالعمل على انجازهما بأسرع ما يمكن فيكفلان أذا ما كملا الوقاية من الفيضان))، وأضاف ((بان الحكومة ستعمل ما في وسعها للتخفيف من وطأة الضائقة عن المتضررين في حوادث الفيضان)).
خرج فاضل الجمالي بعد صمت طيلة أيام الفيضان للتحدث من دار الإذاعة حديثا فكان حديثه عصبياً وانفعالياً، فزاد من عدم ثقة الناس بالحكومة العراقية والتي كان رجالها طيلة أيام الفيضان يلقون الخطب الرنانة من دار الإذاعة، بل أخذ بعض المسؤولين باستغلال تلك الظروف كي تعرفه الناس المنكوبة من طريق التبرع لهم بالقليل على أمل الحصول على أصوات لهم في الانتخابات المقبلة. فاستحقوا ما قال الشيخ محمد بهجة الأثري بحقهم في تلك الأبيات:
يا كِاليءَ الأوطانِ في أَزمانِها
هل ينقضي منها لكَ الشُّكرانُ؟

في حين أشاد الشاعر بالشباب الوطني بقوله:
حَيَّ الشبابَ المُرخَ صينَ نُفوسَهُمْ
ونفوسُهُمْ تغْلِى بِها الاثمانُ

وهكذا نجحت الإذاعة في مواكبة درء خطر الفيضان مباشرة أثره بإعلان التعبئة العامة لجميع فئات الشعب بما كانت تذيع من نداءات وتوجيهات والشعر لاستنهاض الهمم.

عن رسالة (توجهات الاذاعة العراقية 1936 ـــ 1958)