جعفر الخليلي: «أمة في رجل»

Wednesday 1st of November 2017 04:44:22 PM ,

عراقيون ,

وديع فلسطين
في موكب جنازي مهيب رحل عنا الأديب العراقي الكبير جعفر الخليلي في الثاني من شباط 1985، وكأنما شاء ان تكون رحلة النهاية رحلة يؤنسه فيها صفاؤه من الأعلام. فمنذ مطلع العام المذكور والمنايا تفتك بكبار الباقين من اعلام أمتنا العربية،

وموكب الموت في مسراه يخطف من بيتنا الدكتور فؤاد صروف محرر «المقتطف» العنيد الذي توفي في بيروت في العشرين من يناير، ثم محمد عبد الغني حسن اديبنا المصري الكبير الذي غادرنا في صمت في الثاني والعشرين من يناير، ثم جعفر الخليلي الذي ودع الدنيا في الثاني من فبراير ثم احمد حامد الصراف مترجم رباعيات عمر الخيام الذي وافته منيته في حوالي منتصف فبراير في العراق، ثم الشاعر السوري علي دمر الذي توفي في السعودية في شهر مارس واخيراً – وليته كان آخراً – عامر العقاد الذي اختصر رحلة الحياة وغادرنا في الرابع والعشرين من مارس، فياله من موكب حزين، أنه حرم الضاد اعلامها المذخورين، فقد فجعنا معشر أوداء هؤلاء الأعلام في صداقات لنا امتدت على رقعة العمر وكانت زاداً للنفس، ومنبعا لموحيات الصفاء وملاذاً تستجير به من هجير الحياة.
ومن الجنايات التي لا تغتفر لمجتمعنا الأدبي أن الاجيال الطالعة من الأدباء تكاد تجهل حتى الكبار الكبار من أعلام المفكرين في عالمنا العربي، بل في وطننا المصري، اولئك الاساتذة الذين استفاضت اثارهم ومآثرهم، وعاشوا يخدمون الضاد من ريق العمر الى منتهاه، وذادوا بأمانة وشرف وتقديس عن مثلى القيم وفضلى المآرب وعظمى الغايات، واغنوا الفكر والعالم والعرفان بنفائس المحبرات، وكانوا على الدهر ضوء في طريق الفكر الحضاري، وأئمة في محراب الكلمة النيرة ورسلاً ينطقون باللفظة المبينة، والحرف الصادق والرأي البناء السديد.
ومن المجني عليهم في دنيانا الادبية حبيبنا الراحل جعفر الخليلي الذي كان أمة برأسه ومجموعة من الرجال لا تتكرر. وها هو عمله وآثاره وريادته وقد فرضت نفسه على الجامعات الامريكية، فقام باحث من الثقات في جامعة ميشغن بوضع رسالة دكتوراه عن الخليلي ودوره الرائد في الأدب الروائي العراقي، وفيها احاط بجانب واحد فقط من جوانب الخليلي المتعددة، وما كان له ان يحيط بجوانبه الأخرى لاتساعها وتراميها وترحبها. ولقد كان من اسباب سعادتي ان اشتركت في ترجمة هذه الرسالة الجامعية مع الدكتور صفاء خلوصي الاستاذ الاكسفوردي، كما كان جميل التوفيق ان قدم لهذه الرسالة محمد عبد الغني حسن فاجمل القول وركزه في عبارته الختامية ونصها.
«ولا شك أن اجتماعنا هنا ما بين مسلم ومسيحي، وشرقي وعربي، ومصري وعراقي، وسني وشيعي، وعربي وأعجمي، هو اجتماع واجماع على المكانة الأدبية المرموقة التي يتمتع بها صديقنا الاستاذ جعفر الخليلي الذي تخصه هذه الدراسة الجامعية بالتفصيل والتحليل.
نعم، لقد كان جعفر الخليلي مجموعة من الرجال تكاملت في شخصه، وائتلفت في نسيج انسانيته وتغلفت بخلقه وقيمه ومثلياته. ومن الواجب الحتم التعريف بهذه الشخصية الفريدة لجمهور ينبغي ان يعرف لهذا الرجل فضله واياديه لاسيما وهو يؤمن. كما نؤمن معه، بانه وطننا العربي وطن واحد للضاد، يتعالى على صغائر ما ابتدعوا وصنفوا ورسموا من سمات وهويات وتأشيرات واستمارات ونماذج واسماء ومسميات، وما شئت من اوراق تعبقر العرب في استنباطها واستحداثها وتضمينها وتزويقها وتكديسها حتى صيروا وطنهم اوطانا ودارهم دياراً وامتهم أمما ورحم الله الشاعر المهجري اليأس فرحات الذي استهول ان تكون دول العرب سبعاً، فكيف وقد أربى عددها اليوم علي العشرين وهو القاتل:
إذا كانت الدولات سبعاً ليعرب فكم دولة تستوعب الصين والهند؟
نشأ جعفر الخليلي في النجف في بيئة علمية دينية ادبية وهو من مواليد عام 1904 وفي النجف تعلم وتمرس بالحياة اديباً وفقيها، وفيها أصدر جريدة «الفجر الصادق» عام 1930 وجريدة «الراعي» عام 1934 -1935، ثم اصدر جريدته المخلدة الآيات «الهاتف» وهي برسالتها وشكلها وطابعها ومنهاجها تكاد تكون الطبعة العراقية لجريدة «السياسة الاسبوعية» التي اصدرها في مصر الدكتور هيكل باشا وجعلها منتدى فكريا منصوباً لأمة العرب قاطبة. وعلى هذا النسق عينه سارت جريدة «الهاتف» منذ انشائها في عام 1935 والى احتجابها في عام 1954 بعد انتقالها من النجف الى بغداد، فكانت ميدانا لاقلام ادباء يعرب في الوطن والمهجر، وكانت تتوخى هدفين ساميين هما: اعلاء شان الأدب وعقد أسباب الوئام بين الادباء العرب، هكذا صارت «الهاتف» بستاناً ادبياً نفتقر الى مثله اليوم، وفي سبيل الحفاظ على المستوى الأدبي الرفيع لهذه المجلة باع الخليلي متاع بيته وهو قد اضطر ايضاً في اخريات عمره الى بيع مكتبته الخاصة بدريهمات تصون كرامته وتبقي على عفته.
إنها تجربة في الصحافة الادبية خاضها الخليلي بمفرده، وانسحب منها بعد اغلاق «الهاتف» بقرار اداري في وقت يكاد يتزامن مع احتجاب «المقتطف» لصروف و»الرسالة» للزيات و»الثقافة» لأحمد امين و»الكتاب”لعادل الغضبان «والكاتب المصري”لطه حسين «والفصول» لمحمد زكي عبد القادر و»مجلة علم النفس» ليوسف مراد وكان هذه المحلات العلمية جميعا كانت على موعد وميقات مع الموت! هذا عن الصحفي جعفر الخليلي. اما ريادته التاريخية المذكورة فتتمثل في ميدان القصة الذي سبق الى خوضه وبرز فيه، لا اديبا مبدعاً وحسب، بل مؤرخاً للقصة كذلك. فهو في مجموعته «قرى الجن”يخترع عالماً مطوبا او مدينة فاضلة يعيش اهلوها ناعمين بالحرية والعدالة والسلام. وقد اختار الخليلي هذا الاسلوب الرمزي في القصة لكي يتخلص من مأزق الواقع في عالم غير طوباوي وهو اسلوب في انطاق الحيوان او الجن دروس الحكمة، لجأ اليه الفيلسوف بيدبا في «كليلة ودمنة”وتوفيق الحكيم في «حمارياته» وكامل كيلاني في كتب الاطفال التي صنفها. وللخليلي اثار روائية اخرى، بعضها يتخذ شكل اليوميات، وبعضها يجري مجرى الاعترافات وبعضها يقوم بدور البطولة فيه اولاد الخليلي نفسه، وبعضها ينحو منحى النقد الاجتماعي الذي يساق في قالب قصصي.
على ان من امتع الاثار الادبية التي اصدرها جعفر الخليلي كتابه العظيم الموسوم «هكذا عرفته”وقد اصدر منه حتى الان ست حلقات ضخام، وهناك حلقات اخرى لم يتح لها الصدور في حياته وهو في هذا الكتاب يتجرد إلا من انسانيته وادبه، ويروي باستطرادات مستلهمة ذكرياته عن الاصدقاء الراحلين، وكلهم من كبار الشعراء والادباء والعلماء، فيسوق اطرافا من حياتهم وتوادرهم وفكاهاتهم ومسامراتهم، وينقل من رسائلهم العشرية والنثرية التي كانت من شهودها او الخائضين فيها ويميط اللثام عن كثير من الآراء التي لا تستعلن عادة من الكتابات المنشورة، ويورد ما لا تعرفه الناس عن شاعر كبير كالصافي النجفي، او عن شاعر مهجري متميز كجورج صيدح، او عن مجاهد عربي عظيم كمحمد علي الطاهر، او عن اديب سوري عصامي كسامي الكيالي او عن شاعر مهجري مرموق كالياس فرحات، او عن العلامة الوطني الكبير عجاج نويض، وهلم جرا.
وفي اعتقادي ان هذه السلسلة النادرة المثال من الكتب تسد فراغا كبيراً في ادب السير والتراجم لانها تدور جميعا حول رجال عرفهم الخليلي وكانت له معهم عشرة وصداقة طويلتان، فخبر من امورهم واحوالهم ما لم يتح لسواه، واتى بما لا يسع غيره ان ياتي به إلا بالمخالطة والمصاحبة وطوال المطارحات.
ويحتفظ الخليلي باضابير كثيرة من الرسائل الخاصة التي ظل يتبادلها مع اصحابه واعلام عصره طوال اكثر من ستين عاما وهي ومن واقع متابعتي الشخصية لرسائل الخليلي فانها تعد ذخيرة ادبية وتاريخية ينبغي ان تصان من عبث الايام.
ولئن كان الخليلي قد عالج موضوعات تستغرب منه، ككتابه عن التمور العراقية وكتابه الذي سماه «تسواهن» وهو نظرات في الغناء والرقص والجمال، فقد انصرف الى الاعمال الموسوعية الباذخة باخراجه ثلاثة عشر جزءاً من «موسوعة العتبات المقدسة» وهي موسوعة تاريخية جغرافية عن البقاع المقدسة، كانه في تقديره ان تقع بعد اتمامها في اكثر من عشرين جزءاً. ولكنه الخليلي كان يملك الهمة والعزيمة والصبر على البحث، ولكن هذه الارصدة الثلاثة تصبح صفراً ان افتقدت رصيد المال، وهكذا بقيت هذه الموسوعة ناقصة، واني لها بمن يتصدى لاتمامها.
وكان الخليلي يجيد اللغة الفارسية اجادة تامة، فنقل عنها شعراً ديواناً اسماه «نفحات من خمائل الادب الفارسي”كما اعد دراسة مقارنة عن التعارض بين الادبين العربي والفارسي، وله دراسات ادبية عن النجف، ودراسات اخرى عن الحواضر العربية فضلاً عن انه له ديواناً لشعر الوجدانيات تحت الطبع. وقد استبدت بالخليلي رغبة «عارمة في ان يصلح المجتمع بارائه ونظراته، فتخيل نفسه قاضيا يجري العدل بين الناس ويعالج ما اعوج من امورهم، والف كتابا عن تجارب القاضي لا يستريب قارئه في ان مؤلفه قاض لا غش فيه فلما جرب منصة القاضي بالخيال، شاء ان يجرب حياة السجون بالواقع فتقدم بطلب الى السلطات راجيا ان يزج به في السجن لتتاح له فرصة دراسة اوضاع المسجونين عن كثب، والوقوف على مآسيهم، واستصفاء العبرة من حياتهم البائسة. فوافقت السلطات على ابداعه احدى الزنزانات، وعاش حياة السجن بجميع دقائقها، وخرج ليصدر كتابين كبيرين داخلين بالجوانب الانسانية وبما وقف عليه من تفاصيل كان هذا سبيله الوحيد الى الوصول اليها.
وعني في كتابه بالاشارة الى السبل الكفيلة بمعالجة اسباب الاجرام وصولاً الى المجتمع المثالي الذي يعيش فيه الناس في حب وتواد ونقاء وصفاء.
وكان طبيعياً ان يطرق الخليلي باب التاريخ وميدان الجغرافيا، فهو كما ذكرنا متعدد الاهتمامات متشابك الغايات فوضع كتاباً كبيراً عن الثورة العراقية الكبرى، ولخص كتاباً عن العرب واليهود في التاريخ، وصنف كتابا عن جغرافية البلاد العربية وعني في الفترة الاخيرة بدراسة تاريخ الحواضر العربية. فيالها من حياة خصيبة اربت علي الثمانين من الاعوام، حفلت بالعطاء وجني الثمار، وانبعثت بكل مأثيها من ينبوع القيم والفضائل، وليس بمقدورنا ان نرد جميع اثار الخليل خصائصه التي تميز بها وعرف. فوفائه لأحبائه هو الذي حدا به الى انصافهم في السير التي عقدها عليهم. واشواقه في العالم المثالي هي التي حفزته على تسطير ما كتبه عن المدن الفاضلة التي اخترعها وصورها ادق تصوير، وايمانه العميق هو الذي دفعه الى اخراج موسوعة العتبات المقدسة، وحبه للانصاف هو الذي وضع في يمناه قلم الناقد البصير فجادت دراساته النقدية بدعا في التقييم والتقويم، ولست تجد في ادبه الروائي موقفا نابيا ولا غلبة لفاسق على صالح، وهو في جريدة «الهاتف» لم ينطق عن هوى، ولا ازدهاه مجد او مال، فكان مثالا للصحفي الشريف النظيف القلم والضمير.
وصفوة القول ان حساب الربح والخسارة في حياة الخليلي يمثل ارصدة ربحية في جوانب القيم والاخلاق والمثل، وارصدة مكشوفة في ابواب المكاسب والمغانم والماديات. وها هو يموت غريبا عن بغداده الحبيبة ونجفه الذي ثوى فيه ابوه واجداده فلفظ اخر انفاسه في دبي بعد ازمة قلبية باغتته وهو يشد بيده الابوية الحانية على يد ابنته الغالية فريدة.
ألا رحم الله ابا فريدة، ونفعنا بسيرته الزكية وحياته الرضية.
مجلة الهلال 1986