حــــوار مـــــع: سارتر والموسيقى وأشياء أخرى

Tuesday 28th of November 2017 05:57:32 PM ,

منارات ,

علي الشوك *
هذه قراءة، وترجمة لجزء من حوار مع سارتر عندما بلغ السبعين من عمره، أجراه معه ميشبل كونتا في آب 1975. وقد حركت فضولي، من بين مواضيع هذا الحوار، اهتماماته الموسيقية لكنني سأبدأ بالأشياء الأخرى، دون أن أتوقف عندها كثيراً.

نحن نعيش في عصر باتت الأشياء تتقادم فيه بتسارع كبير، بما في ذلك انحسار ظل وجوه ثقافية كانت ملء السمع والبصر في يوم ليس ببعيد. وهو ما يصدق عليه قول الفنان الأميركي آندي وارهول من أن الفنان في عصرنا بات يحظى بالشهرة ليوم واحد فقط. وهذا ينسحب الآن على سارتر بقدر ما ينسحب على مثقفين ومبدعين آخرين. فأين هو سارتر الآن، ومن يتذكره، ربما سوى من يستبد به الحنين إلى تلك الأيام، ومن يكتب عنه لأغراض أكاديمية؟ فحتى في أيامه الأخيرة بدا أن الستارة كانت تنسدل على أسطورته. وقد نطق بهذه الحقيقة محاوره بسؤاله: (هل تشعر بالأسى لأن المثقفين الشباب لم يعودوا يقرأونك اليوم، وإنهم باتوا يعرفونك من خلال أفكارك الخاطئة فقط؟) وجوابه: (أستطيع أن أقول إن ذلك يحزنني كثيراً).

(بقدر تعلق الأمر بك، أم بهم؟).

(إذا شئت الحقيقة، بقدر تعلق الأمر بهم أيضاً، لكنني أظن أنها مرحلة عابرة).

من أسف أنها لم تكن مرحلة عابرة، على ما يبدو. فزماننا هذا طمس الكثير من الأصوات وحتى أصداءها، ولم يكن سارتر استثناء. بل لعله كان من أكثر المفكرين المرشحين للنسيان، بحكم موقعه المترجرج في عالمي الفكر والسياسة.. وأنا لم أكن معجباً بأفكاره، لكنني أعجبت بكتاباته الروائية، ورغم ذلك، لا أجد في نفسي رغبة قوية لإعادة قراءة هذه المؤلفات، بالمقارنة مع مؤلفات روائية أخرى أهم منها. وفي كافة الأحوال، كنت ولا أزال أفضله على البير كامو، على عكس ما ذهب إليه بعض الكتاب - اليمينيين؟ - ممن رأى أن تطور الأحداث في زمننا هذا أثبت (صحة) مواقف كامو، و (خطأ) أفكار سارتر. لكن الانتكاسة لا ينبغي - في رأيي - أن تعد معياراً صحيحاً للأشياء).
كنت أقرأ الحوار مع سارتر بإحساس من الحب والحنين والحزن في وقت معاً. فهو في السبعين من عمره، وفي مرحلة أفول مجده، كان يدعوك إلى الإحساس بالإشفاق عليه، برغم أنه كان صلباً ومتماسكاً إلى حد غير قليل. لكن ضعف بصره الذي حرمه في أواخر أيامه من القراءة المباشرة (كانت سيمون دي بوفوار تقرأ له) كان شيئاً محزناً، مثلما كان طرش بيتهوفن شيئاً أليماً. وعلى أية حال، وجدت في اهتماماته الموسيقية ضرباً من العزاء له، ولاسيما بعد أن علمت أنه كان أكثر من متذوق للموسيقى. لكنني سأنقل شيئاً من حديث سارتر عن همومه بعد عجزه تقريباً عن القراءة والكتابة، قبل أن أنتقل إلى الموسيقى:

ميشيل كونتا: هل تشعر بأنك فارغ من كل عمل؟

سارتر: نعم. فأنا أمشي قليلاً، والصحف تقرأ لي، وأصغي إلى الراديو، وأحياناً ألمح شيئاً خاطفاً مما يجري على شاشة التلفزيون، وفي الواقع تلك هي الأشياء التي تمارسها عندما تكون فارغاً من كل عمل، كنت معتاداً على كتابة ما كنت أفكر به قبل ذلك، بيد أن اللحظة الأساسية تكمن في الكتابة نفسها. أنا لا أزال أفكر، ولأن الكتابة أصبحت مستحيلة بالنسبة لي، فإن النشاط الحقيقي للفكر قد أخمد بشكل ما.

وما لم يعد سهل المنال بالنسبة لي هو شيء بات العديد من الشباب يهزأون به: الأسلوب، أو فلنقل الخطاب الأدبي لطرح فكرة ما أو موضوع ما. وهذا بطبيعة الحال يقتضي تنقيحاً، تنقيحاً قد يعاد النظر فيه خمس أو ست مرات. أما الآن فلم يعد بوسعي تصحيح ما أكتبه حتى مرة واحدة، لأنني لا أستطيع قراءة ما أكتبه. لذا، فإن ما أكتبه أو ما أقوله يبقى بحكم الاضطرار في صيغته الأولى. وبوسع أحدهم أن يقرأ لي ما كتبته أو قلته. وإذا حزب الأمر فبوسعي تغيير بعض التفاصيل، لكن هذا غير مسألة إعادة الكتابة التي كنت أمارسها بنفسي.

ميشيل كونتا: ألم يكن بوسعك استعمال المسجل، والإملاء، والإصغاء إلى نفسك، والإصغاء إلى تنقيحاتك؟

سارتر: أعتقد أن هناك فرقاً كبيراً بين الكلام والكتابة. إن المرء يعيد قراءة ما يعيد كتابته. بيد أن المرء يستطيع القراءة ببطء أو بسرعة: بعبارة أخرى، أنت لا تعلم كم سيستغرقك التفكير ملياً في جملة ما. من المحتمل أن ما لا تراه صحيحاً في الجملة قد لا يكون واضحاً لديك في القراءة الأولى: ربما كان هناك خطأ متأصل فيها، أو ربما كان هناك ارتباط هزيل بينها وبين الجملة السابقة أو اللاحقة أو الفقرة ككل أو الفصل، الخ.
هذا كله يفترض أنك تقترب من نصك كما لو كان لغزاً سحرياً، إنك تغير كلمات هنا وهناك الواحدة بعد الأخرى، وتراجع هذه التغييرات ثم تحور أشياء أخرى، وهكذا دواليك. أما إذا استمعت إلى المسجل، فإن وقت الإصغاء يتحدد بسرعة حركة الشريط وليس بما يستجيب لمتطلباتي. لذلك سأكون دائماً إما متخلفاً عن الآلة أو متقدماً عليها.

ميشيل كونتا: هل جربته؟

سارتر: سأحاول، سأحاول يقيناً، بيد أنني على ثقة من أنه لن يفي بالمرام. فأنا كاتب في المقام الأول، وقد ترسخ هذا منذ نشأتي وتكويني ولا يزال حتى الآن، لذا فات أوان التغيير. أما لو كنت فقدت بصري وأنا في الأربعين، فلربما كان الأمر مختلفاً.
وفي ذاتي، يبقى النشاط الثقافي كما كان، أعني به شيئاً انعكاسياً. فعلى الصعيد الإنعكاسي أستطيع أن أنقح ما أفكر فيه، بيد أن هذا يبقى ذاتياً محضاً. هنا أيضاً تتطلب العناية بالأسلوب كما أفهمها فعل الكتابة بالضرورة.
إن كثيراً من الشباب اليوم لا يحفلون بالأسلوب، ويعتقدون أن ما يقوله المرء ينبغي أن يقال ببساطة، وهذا كل ما في الأمر. أما بقدر تعلق الأمر بي، فإن الأسلوب - الذي لا ينفي البساطة، بل على العكس من ذلك - هو وسيلة لقول ثلاثة أو أربعة أشياء في دفعة واحدة. هناك الجملة البسيطة، بمعناها المباشر، ثم في الوقت نفسه، تحت هذا المعنى المباشر هناك معان أخرى ترد. إذا لم يكن المرء قادراً على منح اللغة هذه التعددية في المعنى، فلا جدوى من الكتابة.
إن ما يميز الأدب عن الكتابة العلمية، على سبيل المثال، هو أنه ليس غير غامض؛ إن فنان اللغة يرتب الكلمات بطريقة تتوقف على كيف يؤكد أو يضفي عليها ثقلاً، وسيكون لها معنى واحد، وآخر، وآخر أيضاً، في كل مرة على مستويات مختلفة.

ميشيل كونتا: تحتل الموسيقى موقعاً كبيراً في حياتك، لكن أناساً قليلين يعرفون ذلك..

سارتر: كانت الموسيقى تعني الكثير بالنسبة لي، كمتعة وكعنصر مهم من عناصر الثقافة، كان كل فرد من عائلتي موسيقياً: كان جدي يعزف على البيانو والاورغون، وكانت جدتي تعزف على البيانو بصورة جيدة، وكانت أمي تجيد العزف عليه أيضاً وتجيد الغناء. وكان خالاي الاثنان - ولاسيما خالي جورج - الذي كانت زوجته تتمتع بمؤهلات موسيقية جيدة جيداً - كانا عازفين ممتازين على البيانو، وأنت تعرف أن ابن خالي (شفايتزر) كان لا بأس به في عزف الاورغون.. وباختصار كان كل واحد من عائلة شفايتزر يعزف، وفي أثناء طفولتي عشت في وسط موسيقي.
في نحو الثامنة أو العاشرة من عمري كنت أتلقى دروساً في البيانو. ثم انقطعت عنها حتى الثانية عشرة، في لاروشيل. هناك، في المنزل الذي كنت أعيش فيه مع أمي وزوجها (الثاني، بعد أبيه المتوفى) كانت غرفة الاستقبال واسعة، ولم يكن يدخلها أحد إلا عند استقبال الضيوف، لكن فيها بيانو كبير. وهناك كنت أستعيد ما تعملته بمفردي، في البدء كنت أعزف مقاطع من اوبريتيات، وبعد ذلك معزوفات بأربع أيدٍ، كنت أعزفها مع والدتي، عند لسون على سبيل المثال، وشيئاً فشيئاً، بدأت أعزف مقطوعات أصعب، لبيتهوفن، وشومان، وباخ في مرحلته المتأخرة، عزفاً لم يكن متقناً تمام الاتقان، لكنني استطعت أخيراً ضبط درجة السرعة (tempo) إلى هذا الحد أو ذاك، وإن لم يكن ذلك بصورة دقيقة تماماً، لكنني حاولت أن أضبط الميزان الموسيقي إلى حد ما.

ثم أفلحت أخيراً في عزف معزوفات صعبة نسبياً، مثل سوناتات شوبان وبيتهوفن، باستثناء سوناتاته الأخيرة جداً، الصعبة جداً.
لكنني كنت أستطيع عزف بعض مقاطعها. وعزفت لشومان، وموتسارت، وكذلك ألحاناً من اوبرات أو أوبيرتات مما كنت أستطيع غناءها أيضاً.. بل كنت أعطي دروساً في البيانو عندما بلغت العشرين من عمري، في الإيكول نورمال.
وفي الأخير أصبح العزف شيئاً مهماً بالنسبة لي. على سبيل المثال، كانت سيمون دي فوفوار تأتي بعد الظهر للعمل في بيتي في 42 شارع بونابارت، وتبدأ بالقراءة أو الكتابة قبل أن أفعل أنا مثل ذلك، وكنت غالباً ما أجلس أمام البيانو زهاء ساعتين.

ميشيل كونتا: هل عزفت لأصدقاء؟

سارتر: كلا، لم يطلب مني أي منهم ذلك. فيما بعد كنت أعزف مع ابنتي المتبناة آرليت: كانت تغني أو تعزف على الناي، وكنت أصاحبها في العزف. كنا نفعل ذلك عدة سنوات، ثم، يا ويحي، لم أعد أستطيع الآن أن أعزف أي شيء. لذلك صرت أستمع الآن إلى الموسيقى أكثر من أي وقت مضى. وأملك أن أقول إن لدي معرفة جيدة بالموسيقى، من الباروك حتى اللامقامية.

ميشيل كونتا: لم تؤلف عملاً موسيقياً ما؟

سارتر: نعم، بل إنني ألفت سوناتا أيضاً، وهي مدونة. أظن أن كاستور (سيمون دي بوفوار) لا تزال تحتفظ بها. لعلها أشبه قليلاً بدبيوسي. لا أذكر جيداً أي شيء آخر. أنا أحب ديبوسي كثيراً، وكذلك رافيل.

بعد هذا كله، يبدو من المستغرب أنني لم أتحدث عن الموسيقى في كتبي، أحسب أن ذلك يعود إلى أنه ليس لدي الكثير مما أقوله بشأنها مما لا يعرفه الناس. طبعاً هناك تلك المقدمة التي كتبتها قبل زمن طويل لكتاب رينيه لايبوفتيس - أحد الموسيقيين القلائل الذين تعرفت عليهم بصورة شخصية - لكنني في هذه المقدمة تحدثت عن الموسيقى أقل من معنى الموسيقى، وهي يقيناً ليست من بين أفضل كتاباتي.
هذه المادة نشرت عام 2004
في صحيفة الحياة اللندنية