ليل علي بابا الحزين: التوازي السرديّ والمطابقة التاريخية

Wednesday 6th of December 2017 06:54:18 PM ,

عراقيون ,

ناظم عودة
تعتبرُ روايةُ (ليل علي بابا الحزين) للروائي العراقيّ عبد الخالق الركابيّ، روايةً مرجعيةً لفهم طبيعة الحدث التاريخيّ المتمثل بالاحتلال الأمريكيّ للعراق.
منذ البداية، يضعنا الراوي أمام مشكلتين: مشكلة تفسير الاحتلال من منظور تاريخيّ، ومشكلة البحث عن وسيلة أو حافز لإنجاز روايته المخطوطة والمهملة في أدراج مكتبته.

وطيلةَ الرواية، يكشفُ لنا المؤلفُ المشكلات التي كانت تعيق إنجازه روايته القابعة في الأدراج. وإجمالاً، تعبّرُ تلك المشكلات عن أنّ كتابة الرواية ليست مجرد تداعيات لأحاسيس وحوادث، إنما هي عمل يقتضي تحضيراً خاصاً، شأنها شأن التحضيرات الأولية لفيلم سينمائي. فالمؤلف، عاد إلى بعض المصادر المتعلقة بتاريخ العراق الحديث، واقتبس بعضاً منها وأدخلها في عقدة الرواية. والكتابات التي عاد لها، كلها كتابات توثيقية على قدر كبير من الأهمية. وأراد المؤلف بذلك، أنْ يصوغ وجهة نظره صياغة تقتربُ كثيراً من الموضوعية في عرض الآراء المختلفة.
ومنذ البداية، أيضاً، يستثمرُ الحكاية المعروفة في ألف (ليلة وليلة) لخلق طريقة سردية قائمة على الازدواج الرمزي، كعلي بابا، والمغارة، وبدر ويحيى ودنيا. فعلي بابا، تارة يشير إلى الإنسان العراقي البسيط والفقير الذي وجد نفسه على حين غرةٍ يخوضُ في ليلٍ حزين لا يريد أنْ ينتهي. وتارة، يشير إلى مجموعة من اللصوص، الذين انغمسوا في عمليات السلب والنهب، بعد أنْ روّجَ الأمريكان هذا الاصطلاحَ أيام الاحتلال. وكذلك المغارة، فهي تارةً تكون كناية عن العراق باعتباره مغارة كنوز لا تنتهي انفتحتْ أمام اللصوص الدوليين والمحليين على حدّ سواء. وتارة، يكون مثل المغارة التي ينتظرُ فيها اللصوصُ، وها هم الآن يخرجون بعد أنْ وفّر لهم الاحتلالُ والساسةُ المفسدون أو من هم صنيعة الاحتلال، فرصةَ الخروج أسراباً تسرقُ وتحرقُ وتدمّرُ خالقةً فوضى عارمة في عموم البلاد. وهكذا عنونَ المؤلف الجزء الأول من الرواية بــــ: (الخروج من المغارة) ليسرد علينا ذلك الهيجان والخروج الفظيع لهؤلاء اللصوص الذين قاموا بعمليات السلب والنهب. لكن المؤلف، عنده وجهة نظر معينة في هذه المسألة، أوضحها خير إيضاح من خلال شخصية بدر، الذي صيغَ صوغاً رمزياً مركّباً، فهو يتضمن عدداً من الإشارات والدلالات: فعيونه الزرقاء والنظرة الدونية المصحوبة ببعض العداء والعنف من قبل أخيه فرج، تمثل مقاربة لموقف العرب من العراق الذي يشكُّ أشقاؤه في نقاء عِرْقه، ويعتبرونه بلداً هجيناً من أعراق ومِلَلٍ ونِحَلٍ مختلفة. والشللُ الذي أصابه وجعله حبيس العربة المدولبة، هو دلالة على الشلل الذي أضعف العراق بعد ثلاث عشرة سنة من الحصار المقيت الذي ساهم في خوار جسده وسهولة الانقضاض عليه واحتلاله. أما شغف بدر الكبير بتاريخ العراق وحضارته، فهو يرمزُ إلى العراق نفسه إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ما ذكرتُه آنفاً، فكأنّ العراق يروي تاريخه المأساوي بلسانه كما يروي بدر تاريخه الحزين بلسانه. وإذا ما اعتبرنا الأمر كذلك، فإنّ المؤلف ربما أراد أنْ يشير، من خلال الزيجات الثلاث لأمّ بدر، إلى زيجات العراق بالديانات الثلاث: يهودية، مسيحية، وإسلامية. وإلى القوميات الثلاث (عرب، كرد، وتركمان).
ولكي يتخلّصَ المؤلفُ من الحشو التاريخيّ اتّبعَ طريقةً لتفعيل التاريخ وجعل الحياة تسري فيه من خلال التوازي السرديّ بين ما يسرده (بدر) وما يسرده الراوي، كأنهما خطّان متوازيان لكنهما في الحقيقة يلتقيان في نقطة محورية واحدة. فالتوازي، هو مجرد تقنية سردية قامت بوظيفة أساسية في هذه الرواية، وهي طريقة لاستخراج المادة التاريخية وتأويلها تأويلاً يتضمنُ المنظور الذي نظر من خلاله الراوي للحدث. لقد ابتكر الركابي حيلةً سرديةً، بأنْ جعلَ التاريخَ يتمثلُ في شخصية بدر، الآثاريّ ومدير المتحف في مدينة الأسلاف بجنوب العراق. وقد ارتبطَ الساردُ بعلاقة صداقة حميمة مع بدر، تلك العلاقة التي توازي علاقة السارد الحميمة بتاريخ العراق وشغفه بحضارته القديمة.
تنطوي الرواية، كخصيصة من خصائصها الفنية، على تداخلٍ سرديّ، ما بين سرديات بدر لتاريخ العراق أيام الاحتلال الانكليزي، وسرديات الراوي لبداية الاحتلال الأمريكيّ والملابسات التي رافقتْه من أسباب ومسببات وكيفية تفكيك الدولة العراقية، واختفاء طبقات ونشوء طبقات غيرها من محدثي النعمة، كاشفاً بذلك الشخصيات المزيفة وتحولاتها وأساليبها في المراوغة في الوصول إلى السلطة أو المراكز المؤهلة للسرقة والنهب، كنجيب الكذاب وحمزة مقطاطة ورياض وغيرهم.
إنّ الحوار الذي كان يدور على ألسنة مثقفين متنوعي المواقف والخلفيات، كان طريقة لتحليل الحدث التاريخي والإحاطة بتفاصيله وخلفياته إحاطةً موضوعيةً. كما أنّ الحوار في السجن بين الراوي ونجيب ويحيى وعطا وموسى، كشفَ المواقفَ المتباينة من الاحتلال، وكأنّ المؤلف يسوّغ بعضها بالحالة الواقعية المزرية وقمع السلطة مُتَّخذاً من السجن مكاناً أو خلفيةً لاتخاذ تلك المواقف في ظل سياق قمعيّ. فالظرفُ يدفعُ الإنسان، أحياناً، لاتخاذ مواقف غير مقتنع بها. والراوي، بالرغم من نقده الشديد، إلا أنه لم يتخلَّ عن حسّه الإنسانيّ في تسويغ تلك المواقف.
من الناحية الفنية، يوظّفُ المؤلفُ خاصيةَ التناوب السرديّ لتجلية التداخل بين سيرتين للعراق في ظل الاحتلالَيْن: الانكليزي، والأمريكي. وقد قام الركابي، بتفتيت الحكاية بتأويلها بما يناسب السياق الواقعيّ الذي صنعتْه ظروف الاحتلال، وإعادة خلقها لإبراز التناقضات والوضع الملتبس سياسياً واجتماعياً. فهي رواية نقدية بامتيازٍ، يطال النقدُ فيها جميعَ شخصياتها بما فيها المؤلف الراوي، الشخصية المتردّدة والمتذبذبة وغير القادرة على الحسم، والكسولة في إكمال مخطوطة الرواية. غير أنّ هذا النقد، قُدِّمَ إلى القارئ من خلال البناء الكنائيّ للرمز الذي يُقدِّمُ مستويين من الدلالة على نحو ما ذكرتُ فيما يتعلقُ بالمغارة وعلي بابا وبدر. وكذلك، يحيى ودنيا، فهما يشيران إلى ذلك الحطّاب البسيط والفقير وزوجته في حكاية ألف ليلة وليلة. فالحطّاب، بالرغم من عوزه الذي دفعه إلى فتح المغارة وسرقة ما فيها، إلا أنه في النهاية قام بفعل السرقة، وينطبقُ عليه الوصفُ كما ينطبقُ على اللصوص الآخرين. ويحيى، الطيبُ والفقيرُ، ودنيا المسيحية المضطهدة والفقيرة والطيبة التي سوّغتْ ليحيى العمل في المنفذ الحدودي مع إيران والمتاجرة غير المشروعة التي تصل إلى حدّ تمرير آلاف الأطنان من الأطعمة الفاسدة إلى العراق. والراوي، ينتقدُ هذا الفعل إلى الحدّ الذي يجعله يقاطع صديقه الحميم يحيى، لأنّ ما قام به يكشفُ عن الطبيعة الانتهازية لهذه الشخصية التي هي نموذج مصغَّر لما انتشرَ في المجتمع العراقيّ من شخصيات كانت سبباً من أسباب الكارثة.
ولم ينجُ النظام السابق من النقد، من خلال شخصية مدير السجن بأوصافه وسلوكياته المتعجرفة، وطريقته في توجيه التهم الملفَّقة وسجن الناس في ظل غياب القضاء،كما هو الحال في سجن (موسى هادي الحداد) بتهمة تشابه الأسماء، وسجن عطا وصبيه بتهمة الصيد باستعمال الديناميت، وسجن الراوي ويحيى بتهمة حمل الكاميرا والتقاط الصور في أماكن ممنوعة. كما أنّ حالة السجن، كانت كناية مزرية للواقع آنذاك في ظل سلطة قمعية.
وبالتزامن مع التناول السرديّ للاحتلالين، ثمة سردٌ يتعلقُ بحماسة المؤلف الكبيرة لإنجاز روايته المخطوطة، كأنّ إنجاز الرواية، في هذا الوقت، هو سعيٌ لقول كلمة المؤلف وتثبيت موقفه من الحدث التاريخيّ المزلزل. وكأنه يقول، لابدّ من التوثيق التحليليّ لقول الحقيقة، وهل ثمة ما يبقى طوال التاريخ غيرُ الحقيقة! فعندما يسألُه بدر عن سرّ حماسته لهذه الرواية، يجيبُه:"ذلك يعودُ ليقيني بوجود وازع أخلاقيّ يجعلُ من هذا الإنجاز واجباً لابدّ لي من أدائه مهما كلّفَني الأمرُ مسوغاً بذلك مغزى وجودي على سطح هذا الكوكب». وهذا الوازعُ، هو نفسه دفعَ (بدر) إلى أنْ يسردَ شفاهياً حقيقة ما جرى خلال الاستعمار الانكليزي. فهذا يندرجُ ضمن ما يسمى: سرد ما بعد الكولونيالية. وبدر، هنا، يقوم بمهمة سردية مختلفة، إذْ إنّ ما يقومُ به هو في الحقيقة ينتمي نظرياً إلى الطريقة التي طبقتْها مجموعة من المؤرخين الهنود الجدد (سميت بمجموعة دراسات التابع: Subaltern Studies) الذين شككوا بالسرديات الرسمية لتاريخ بلادهم، واعتمدوا طريقة جديدة تخالف سرديات النخبة والسرديات الصادرة من الدوائر والمؤسسات الرسمية، وهذه الطريقة تعتمدُ الرواية الشفاهية مثلما فعل الركابي في اعتماد مرويات بدر الشفاهية مصدراً من مصادر السرد التاريخي لحقبة ما بعد الاستعمار الانكليزي. ويعتقدُ بدر، بوجهة نظر يتبناها الراوي، أنّ الاحتلال وجهٌ آخر للاستعمار الانكليزي:"إنها فترة حاسمة في حياتي جعلتْني أعيشُ تلك الازدواجية التي لم أستطع التخلّصَ منها إلا في شيخوختي وبعدما أيقنتُ من أنّ الأمريكيين بصدد تكرار التجربة البريطانية باستعمارنا من جديد ممهدين بفرض هذا الحصار غير المعقول».
إنّ الأسلوب الذي كتبَ فيه عبد الخالق الركابي روايته، هو أسلوب الواقعية التاريخية مفصحاً عن ذلك في هذه العبارة:"كانت ثمة شكوك، لم أستطع التنصّل منها، أتلمّسُها في قرارتي لنماذج من الفلسفة المعاصرة، فبرغم عشقي لها إلا أنّ ما كان يصدمُني فيها تمثّلَ بتلك (العدمية) التي كانت تنظر لها إيماناً منها بأنّ (الإنسان) أمسى ظاهرة حديثة موشكة على الاندثار». فالإنسان المنسحقُ بأقدام السلطات المتتابعة وبأقدام التدخلات الأجنبية، هو موضوع هذه الرواية.