فرج الله الحلو و نجيب سرور ومأساة العصر

Tuesday 19th of December 2017 06:29:02 PM ,

منارات ,

اسماعيل خليل الحسن
ماذا في وسع الغستابـو
لمناضل َ غير الموت ْ
الآن َ تذكرت ُ الكلمات ْ:
< نحنا ودياب الغابـاتْ ربينـا
بالليل الدَّاجي العتماتْ مشينــا
للغاب ليالينا.. للريــح غنانينا
هيك.. هيك.. نحنا هيك ربينا)

(القـرنُ يُــقالُ العشــرونْ
والعـام التاسـعُ والخمسـونْ
وحدي أنتظــرُ الغستابــو
وحدي.. وحدي؟!
ومئاتٌ من حــولي
ومئاتٌ من قبــلي
ومئات من بعــدي
وألوفُ ألوفُ العمـــَّالْ
في الخارج لا بل في قلبـي
ورفـاقي كلُّ الشرفاءْ
في وطني يحضنهمْ شعبـي
أأنا وحدي؟)

القرن يقال العشرون, أي مرارة وسخرية ينطوي عليه باطن هذه الكلمات؟ وماذا أيضا؟ العام التاسع و الخمسون أي أن العصر قد انتصف, هل انتقلت المجتمعات صعودا إلى أنوار الحضارة وقد بددت خلفها دياجير الظلام؟
من هذه الأرض انطلقت إشعاعات هامة ترصّع هام التاريخ :
قبل ميلاد المسيح بألفي عام, قررت شريعة حمورابي فردية العقوبة , بدلا من العقوبات الاعتباطية و الجماعية , فلا عقوبة إلاّ بنص , ولا تسري العقوبة إلاّ بحق الفاعلين, وكان في العصر الذي أسموه الجاهلي , أشهر حرم , حيث يتوقّف سفك الدماء و تترك فرصة للتوالد والتكاثر, في حين لا نرى الآن حرمة حتّى لرمضان في بلاد الحرم , ثم جاء الإسلام ليضع الحدود والتعزيرات , حيث لم تكن هنالك حدود لدى الأمم المجاورة جغرافيا أو زمنيا , وهي حدود دنيا على الإنسان أن يتابع تطويرها و إثرائها لا تقديسها و تيبيسها كما يفعل فقهاء التخلف.

إن نجيب سرور يدين القرن العشرين , انطلاقا من سيرة فرج الله المروعة, حيث كانت ولم تزل تمارس فوضى الحكم بدلا من حكم القوانين , وحيث العقوبة مشخصنة , يقررها من يمارس العقاب مستندا إلى معلوماته الشخصيّة عن الضحيّة وهي ضحلة في العادة , و إلى مزاجه النفسي وهو غالبا ما بكون ساديّا صفراويّا , و إلى ثقافته الحقوقية و السياسيّة الضحلة مع صلاحيات غير محدودة تصل إلى حد تصفية السجين ووضع نهاية لحياته فهو الذي يحيي ويميت , أليس هو الملاك الحارس للحكم؟ فعليه ألاّ يغفل , و إلاّ فتك الناس بالحكم.
وعندما نتحدّث عن القوانين لا نعني بها تلك التي يفصّلها المستبدون على مقاسهم ثم لا يلبثون أن يمطّوها أو يقصّروها وفق أمزجتهم.

(كنت أسيرْ
وســْط َ دمشـقْ
والساعة ُ منتصفُ الليـ لْ
والبرد رصاصٌ مسمـو مْ
والـريح تنـوح كما بومْ
والشارع خـالٍ من نسمةْ
ودمشقُ
تلفـِّحــُها الظــلمةْ
والليل ضريرْ
لم تبسمْ حتى نـَجمةْ
ويجيءُ نـُباحُ الغستابــو:
“يحيــا القائـدْ
هايـل الرائـدْ"
أذكرُ أذكــر ْ
يذكر ُمثـلي فوتشيـك ْ
يذكر تيلمــان ْ
“يحيـا الفوهرر ْ
هايــل هتلر ْ"
أذكر ُ أذكــر ْ
“يحيا الحسنــي
والحنـــَّاوي
والشيشكــلي"
أضحك ُ... أضحك ْ
يضحك ُ كـل ُّ العالـم ْ
تضحك ُ كـل ُّ دمشق ْ
يضحك ُ كـلُّ الشرق ْ
أيـن الفوهرر ْ؟
صـِرت ُ أفكـِّر ْ:
أكبادي.. زوجي.. بيروت ْ
وأبـــو زعبـل ْ
أكبادي في كل العالم ْ
يابيروت ُ
من مات َ ومن سوف يموت ُ
أو يحيا من أجل الشـَّعب ِ)

يقدّم سرور تقريرا سياسيا يمزج فيه صورا مختلفة متنافرة يجتمع فيها الطغاة و المطبلين الوقتيين لهم و ضحاياهم الشهداء و الأحياء في شريط سينامائي يمر في خيال فرج الله قبل موته بلحظات كما ستمر أسماء من رحلوا قبله فيتماهى فيهم وهم من بلاد مختلفة أو من بلد واحد هو العالم

(سألوني من زمن ٍ مااسـْمـُك ْ
تيلمـانْ
أو شــهدي
أو فوتشيـك
أو قولوا الحلــو
ماشئتـم قولـوا أيَّ اسْـــم ِ
عســَّافٌ إسمـي عسـَّـاف ْ..)

ثم يقدم تقريرا عن مسيرته إلى الموت , ويذكر وسائل التعذيب المختلفة, التي يمارسها الجلاد باسم مبادئ عليا , يبررها خطاب النصر الظفراوي الذي انفضحت هشاشته أمام الهزائم تترى في كلّ شيء وكأنّ أيدي الحكام هي يد (ميداس) تحول كل ّشيء تلمسه إلى تخلّف.

(جـُنَّ الغستابو وانفجرت ْ
في وجهي آبـارُ الــَّدمِّْ
فبصقت ُ دما ً ملءَ الفـمِّ
فـي وجه الغستابو الجَهم ِ
وأنا أضحك
ركـْـلـه ْ...!
زعقوا... مااسـْمـُك ْ؟
إنســـان ٌ
أيُّ إنســانْ..
إبــن ُ العمـَّال ْ
من رأسي حتى قدمـي ْ
من أغور أغـوار القـلب ِ
جندي ٌّ في جيش الشـعب ِ
قربان ٌ من أجل الحـزب ِ
في مصرَ أنا في سوريا
في لبنــان ْ
في العالم في كل مكــان ْ
أنا وطني كـلُّ القـارَّاتْ
أمشي في زحف العمـَّالْ
عســَّافٌ إسمـي عسـَّـاف)

(ضربـوا.. ضربـوا..
آه ٍ.. لكأني أركب ُ أرجوحة ْ
تعلو تهبط ْ..... تعلو تهبط ْ
غابت ْ عنـِّي الرؤيـا
أسقط ْ... أسقط ْوأعـاد الغستابو الكــَّرة ْ
لا أدري في هذي المـرَّة ْ
من أيــن الآبارُ الثـَّرَّة ْ
في جسمي ْ كانت ْ تتدفـَّق ْ
حاولت ُ كثيرا ً أن أبصـُق ْ
جاهدت ُ
ولكن لم أبصـُق ْ
وتـدور الأرض ُ
والسقف ُ الصخري ُّ يدور ْ
وتدور الجـدران ُ تدور ْ
ويلفُّ الأشياءَ ضبــاب ُ
وتغيب وجوه ُ الغستـابو
و أغيب أنا....)

(يُــقال ُ العشــرونْ
والعـام ُ يُــقال ُ الستــُّونْ
وأنا في الجب ْ
عيناي َ على البـاب المغـْلق ْ
أذنـاي َ على الصَّمْت الأخرس ْ
من باب ِ فـُضول ْ
ماذا في وسع الغستابو؟
خلـع ُ أظافر ْ؟
خلعـوها من أول ِّ يــوم ِ
خرجت ْ باللحـم ِ وبالـدَّم ِّ
لن تنبت َ لي بعـد ُ أظافـر ْ
ماذا في وسع الغستابو
فوق التعذيب ِ الوحشـي ّْْ
فوق الكـي ّْ
أو صب ِّ الماءِ المغلي ّْ
فـوق َ البارد ِ
والبارد ِ فـوق َ المغلي ّْ
أسناني....!
هل بقيت سـن ٌ في فكي؟!
عقب ُ السيجارة في اللحم ِ؟
حرقوا لحمي
هل يـُغرس ُ عقب ٌ في العظم ِ؟
قطـع ُ لسـاني؟
هم أحـوج ُ مني للساني
ماذا في وسع الغستابـو
لمناضل َ غير الموت ْ
الموت ُ لعيـن ٌ ورهيب ْ
لكن..)
(قلبي يتخطى الأسوار ْ
ويغافـِل ُ كل َّ الحرَّاس ْ
ليعانـق َ أعضاء َ اللجنـة ْ
ويقبـِّل َ أنصار َ الجبهـة ْ
لا تخشـَوا لن أتكلـَّم ْ
لا لن أتكلـم ْ
لنجـَرِّب ْ فيه المنفـاخ ْ
حـِيـَل ُ الغستابـو الملعونة ْ
أأنا أُنفـخ ُ كالبــالونة ْ؟
أأنا أُنفـخ ُ كالبالونة)

قيل أن فرج الله ابتسم قبل أن يلفظ آخر أنفاسه, ذاك أن المشروع الوطني و الإنساني الذي حمله, كان تفاؤليا و مليء بالوعود وهذا سر سعادة توفرت لديه, بينما افتقدناها نحن في زمن النكوص.

(صمتا ً يا غستابـو
الشعب ُ هو الثورة ْ
الشعب ُ هو الثورة ْ
لكن ما كلمات ُ الغـِنوة
أنا لا أذكر ْ
أسمع ُ صوتا ً وزعيقا ً في الظـُّلمة ْ
حارس ْ، هايل هتلر ْ، هايل هتلر ْ
أسمع ُ صوت َ المزلاج ْ
تيمورلنـك ْ
يا زكريـَّا
يا سـرَّاج ْ
أهلا ً أهلا ً
ماذا في وسع الغستابـو
لمناضل َ غير الموت ْ
الآن َ تذكرت ُ الكلمات ْ:
< نحنا ودياب الغابـاتْ ربينـا
بالليل الدَّاجي العتماتْ مشينــا
للغاب ليالينا.. للريــح غنانينا
هيك.. هيك.. نحنا هيك ربينا)

لعلّ التقريريّة في القصيدة , ساهمت في ضعفها فنيا , كما لتأثير القصيدة العامية المصريّة دوره في ذلك , و تعبر سرعة إيقاعها, جريا على منوال القصائد الحديثة حينذاك , عن حجم الانفعالية التي استبطنها الشاعر حين كتابته القصيدة , لكنّها بحق قصيدة تاريخيّة و آنيّة في وقت واحد , لا تلخص مأساة رجل بقدر ما تلخص مأساة العصر الذي نعيش، كتبها شاعر مأساوي , لحياته قصّة أخرى.

عن الحوار المتمدن