في ذكرى رحيل السياب 24 كانون الاول 1964 من ذكرياتي مع السياب في سنواته الاخيرة

Sunday 24th of December 2017 06:06:24 PM ,

ذاكرة عراقية ,

عبد اللطيف اطيمش
أديب عراقي مغترب
كان ذلك في أواخر عام 1957 حين دعونا السياب، أنا وزملائي في اللجنة الثقافية بدار المعلمين العالية، لإقامة أمسية شعرية، ونشرنا إعلاناً في الصحف العراقية عنها، لتكون دعوة عامة للجمهور. لبى السياب الدعوة بكل ترحاب، وقال إنها فرصة له لتذكر أيامه في الكلية.

جاء بصحبته الشاعر محمود الريفي وصديقه الشاعر راضي مهدي السعيد، صاحب ديوان ‘رياح الدروب’ الذي كان صادراً لتوه بمقدمة لبدر شاكر السياب. إستقبلناه بباب الكلية مرحبين أنا وأعضاء اللجنة الثقافية وفي مقدمتهم حميد الهيتي (المذيع الذي صار بعد ذلك عميداً لكلية الآداب بالجامعة المستنصرية) إضافة الى عدد من المعجبين من الطلبة والطالبات.

كان فرحاً بهذا الاستقبال، وبدا عليه شيء من الخجل والارتباك، ربما لأنه لم يكن يتوقع هذه الحفاوة من الطلبة ومحبي الشعر من الجيل الجديد. وحين قدمني له صديقي الشاعر راضي مهدي السعيد، ذاكراً إسمي، قال السياب: ‘أنا أعرفك’ فدهشت وقلت له: ‘كيف تعرفني يا أستاذ بدر’؟ قال:’أعرفك من خلال الريبورتاج الذي نشرته في الأسبوع الماضي جريدة ‘البلاد’عن شعراء دار المعلمين العالية.

ثم أثنى على القصائد المختارة. تذكرت ساعتها ذلك التحقيق الأدبي الذي أعده الكاتب والصحافي أحمد فياض المفرجي لجريدة ‘البلاد’ التي كان يصدرها (رفائيل بطي)عن الشعراء الشباب في ‘العالية’ مع صور ونماذج من القصائد.ثم سألني: هل كنت تنشر في جريدة البلاد؟ قلت: نعم، بعض القصائد أرسلتها من ‘الناصرية’وأنا في الثانوية. قال: أتذكرك أيضاً من تلك القصائد. فأيقنت أن السياب كان متابعاً لما يدور في الصحافة الأدبية، لا يفوته شيء من أخبارها وما تنشره من شعر وأدب، وخاصة ما يتعلق منها بالنشاط الثقافي في دار المعلمين العالية آنذاك، فهي مكان ذكرياته وبداية تفتحه الأدبي.

ما زلت أذكر تلك اللحظة التي اعتلى السياب فيها المنصة، مرتدياً بدلة رمادية فضفاضة، لم تكن مناسبة أبداً لجسمه النحيل، أخرج مجموعة أوراق من جيبه الأيمن الكبير، بدأ يرتب صفحاتها. وبدلاً من أن يضعها فوق الطاولة الخشبية أمامه ويقرأ بارتياح، فضل أن يمسك الأوراق بيديه تاركاً الطاولة، متقدماً قليلاً على خشبة المسرح وبدأ يقرأ وهو واقف، رغم الألم الذي كان يتعب ركبتيه، والذي تطور لاحقاً بسبب إصابته بالسكري.

ألقى السياب مجموعة من قصائده، وعلى رأسها قصيدته المشهورة عن بورسعيد، وهي آخر قصائده الطويلة التي كتبها عام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر :
من أيما رئةٍ، من أي قيثار
تنهل أشعاري
وكان من بين أبياتها بيت فيه مديح لجمال عبدالناصر:
‘يا أمة تصنع الأقدار من دمها لا تيأسي إن عبدالناصر القدرُ ‘

حيث كان عبدالناصر يومها في أوج مجده وشهرته، بطلاً للقومية العربية وسط احتدام الشعور الوطني في العالم العربي، ونهوض الحركات التحررية ضد
الإستعمار وخاصة في العراق، أيام حلف بغداد، ونوري السعيد، وتشكيل الجبهة الوطنية التي ضمت كافة الأحزاب الوطنية العراقية.. لاحظت أن السياب كان يتحرك حول المنصة ويمشي بصعوبة ويغالب ألماً في رجليه، ولكنه كان متماسكاً وواثقاً غير متهيب من الجمهور، يقرأ قصائده بانفعال صادق في قاعة مكتظة بالحاضرين والمدعوين ومحبي الشعر.

كان صوته واهناً ولكنه عميق تحس فيه حرارة المشاعر النابعة من صميم الوجدان، إستمر يقرأ بطريقة مسرحية، ربما بدت غريبة وغير مألوفة للحاضرين الذين لم يعتادوا على رؤية شاعر يتمايل يميناً وشمالاً.. يروح ويجيء وسط خشبة المسرح، يمشي ويؤشر بيديه الممدودتين، رافعاً رأسه يديره من جهة الى أخرى، كان يبدو كما لو كان هو وشعره فقط، ناسياً الجمهور أو كأنه خارج المكان والزمان. لاحظت بعض الطلبة يتهامسون مستغربين،ولكنهم كانوا يحسون بأنهم يسمعون شعراً عظيماً وأن داخل هذا الكيان الناحل الذي أمامهم لا بد أن تكون موهبة شعرية كبيرة.

ذكرني منظر السياب هذا، بمنظر الشاعر الروسي المشاكس الشهير «يوجين يفتشينكو» وهو يلقي قصائده بجامعة الجزائر عام 1981، حين جاء بدعوة من اتحاد الكتاب الجزائريين، سألته يومها: ‘لماذا تستخدم هذه الطريقة التمثيلية الغريبة في الإلقاء؟’ لماذا لا تقرأ بهدوء، فالشعر هدوء الروح ومناجاة الوجدان؟’
فأجاب:”نحن الروس لا نلقي الشعر، بل نمثله مثل شعراء الإغريق القدامى، فالشعر مسرح تراجيدي، هكذا علمنا مايكوفسكي الذي كان لا يمثل فقط حين يقرأ قصائده بل يكاد يرقص على المسرح، وأنا أرقص كذلك أحياناً حين أقرأ أشعاري. قاعتكم هذه صغيرة فأنا أعتدت قراءة أشعاري في الميادين العامة، وملاعب الرياضة حيث تتسع لمئات الألوف من العمال والطلبة لسماع قصائدي. وكنت أُمثّل شعري أمامهم وأنزل أحياناً من المنصة وأمشي بينهم وأنا أنشد أشعاري".

وفعلاً كان يفتشينكو ينزل عدة مرات من المنصة ويمشي بين ممرات القاعة بين الطلبة المستمعين، وهو يلوح بيديه ويتمايل بجسمه ويترنم بصوت عال بقصائده التي يحفظها عن ظهر قلب.

حين انتهى السياب من القراءة، كان التعب بادياً عليه، يتصبب عرقاً وما زال منفعلاً، فقد بذل جهداً كبيراً كي يحتفظ بتوازنه، كنت مشفقاً عليه وهو يروح ويجيء
على المنصة، وكأنه شجرة آيلة للسقوط. ربما لم يكن الطلبة يستوعبون فهم تلك الصور الشعرية العميقة المتداخلة والكنايات المركبة في ثنايا القصائد الحرة الجديدة، لكونها غير مألوفة لديهم أو هي فوق ما يسعفهم إطلاعهم المحدود على ماهية الشعر وأجوائه الداخلية، ولكنهم دون شك يحسون أنهم استمعوا إلى شعر ليس كالشعر، وأن خلف هذا الجسم المتهالك روحاً عبقرية قل نظيرها. فقد برز بجسمه النحيل أشبه بقصبة ريفية تهزها ريح النخيل فتعزف أعذب الألحان.

كانت تلك الأمسية حدثاُ ثقافياً وتاريخياً نادراً، لم يتكرر طيلة حياة السياب، فقد حضرها جمهور غفير من أدباء ومثقفي بغداد، وجمع من الطلبة الذين حضروا من كليات أخرى إلى جانب قسم من أساتذة الكلية (لم تحضر نازك الملائكة التي كانت مدرسة معيدة لمادة النقد الأدبي المقارن والعروض في نفس الكلية، ولم تحضر الشاعرة عاتكة الخزرجي أستاذتي في قسم اللغة العربية).

في نهاية الأمسية تقدم عميد الكلية الدكتور محمد ناصر وسلم على السياب، وكذلك أساتذتي: الدكتور علي جواد الطاهر، الدكتور الشاعر عبد الرزاق محيي الدين، والدكتور صفاء خلوصي. إضافة إلى بعض المدعوين. كان السياب يصافح الجميع ويسلم عليهم بأدب جم وبشيء من الخجل الظاهر، وهما الصفتان اللتان تميزان شخصيته العامة وتربيته الريفية. حين خرجنا من القاعة، كان هناك جمع من الطلبة والطالبات ينتظرون السياب لتحيته والتعرف عليه. إزداد ارتباكه حين وجد نفسه محاطاً بهذا العدد الذي لم يكن يتوقعه من طلبة الكلية. السياب فيه خجل خاص من المرأة لا سيما حين تكون قريبة منه، ربما يحبها بعيدة، حيث يحسن مناجاتها ومخاطبتها، وتستهويه مكاشفاتها بعواطفه والتغزل بها، لكنها حين تكون قريبة منه تثير فيه الارتباك وقد تفقده أحياناً قدراته البلاغية الكامنة في التجاوب وحسن المخاطبة.

لاحظت فيه ذلك وهو يحاول بتواضع وحياء محاورة الطالبات اللواتي أقبلن عليه يسألنه عن الشعر الجديد، وبعضهن رومانسيات يسألنه بجرأة عن بعض قصائده الغزلية التي كانت شائعة بين الطلبة آنذاك، مثل قصيدته المعروفة التي مطلعها :

ديوان شعري كله غزلُ بين العذارى بات ينتقلُ

أدركت أن السياب بدأ يتعب والإعياء باد عليه بعد جهد الأمسية والأسئلة الكثيرة التي إنهالت عليه من الطلبة، فالتفت وحاولت تدارك الموقف قائلاً: ‘أرجوكم.. الأستاذ بدر متعب ولا بد أن يرتاح ويحتاج إلى فنجان قهوة ويرتاح قليلاً في النادي’ إرتاح للفكرة، وقال خذوني للنادي، فاصطحبناه أنا وحميد الهيتي ومحمود الريفي إلى نادي الكلية الذي كان يقع خارج المبنى، في الجهة اليسرى وراء السد الترابي الذي يخترقه خط سكة حديد قطار البصرة ـ بغداد. في هذا المكان كادت أن تقع حادثة خطيرة تودي بحياة السياب وحياتنا معه. لن أنسى تلك اللحظات المروعة التي حدثت كلمح البصر، بل ستظل تلازمني ما حييت. فحين تركنا الطلبة وأخذنا السياب معنا متجهين نحو النادي، مشينا وهو في وسطنا، كان على يميني وكنت ممسكاً بيده اليسرى، وكان هو على يسار كل من حميد الهيتي ومحمود الريفي،

كان يمشي ببطء وكنا نسنده، حيث كان يعاني من ألم في رجليه. كنا مستغرقين في الحديث عن الأمسية، وهو مستغرق بشيء من الانشراح عن ذكرياته في الكلية.

بدأنا نمشي صعداً متسلقين درجات السد الترابي، هادئين مبتسمين مقتربين من السكة الحديد، وإذا بالقطار يندفع نحونا بلحظة جنونية خاطفة. كان على مسافة أمتار قليلة، لا ندري من أين جاء، كأنه بسرعة أسطورية خرج لنا من باطن الأرض دون أن ننتبه لصوت عجلاته أو صافرة إنذاره التي ربما أطلقها دون أن ننتبه لها حين يمر عادة. كان هذا القطار يمر مرة واحدة كل مساء في هذا الوقت قادماً من البصرة متجهاً إلى وسط بغداد، ودون وعي مني بلحظة غريزية، كمن يواجه الموت جذبت السياب بقوة الى الخلف، سحبته بشدة من يده النحيلة التي ما زال يمسك بها يدي، تدحرجنا الى الوراء وتدحرج أيضاً صاحباي: الريفي والهيتي وسقطنا متكومين تحت تراب السد. بعد لحظات التفت إلى السياب بعد أن عبر القطار فوجدته ممتقع الوجه، مصفر الملامح، والتراب يعفر وجهه، قلت له بقلق: أستاذ بدر هل أنت بخير؟ تمتم بصعوبة وهو يحدق في وجهي بذهول: ‘الحمد لله.. لقد أنقذت حياتي. شكراً لك، قلت له: ‘الله أنقذنا جميعاً.. ما حدث شيء لا يصدق، أقبل صاحباي على السياب ليطمئنا عليه، وصرنا نتساءل بذهول كيف حدث هذا؟ بعدها. سرنا الى النادي ونحن نسند السياب الذي كان يمشي بيننا بألم ظاهر، عبرنا السد الترابي مرة أخرى ودخلنا النادي. إخترنا طاولة في الزاوية اليسرى في نهاية النادي، جلسنا متحلقين ومنهكين، جلس السياب قبالتي، بدأ يهدأ ويلتقط أنفاسه، لاحظت بعض الغبار فوق شعره وسترته حين سقط على الأرض، مددت يدي لأنفضه،لكنه رد بمزاح: ‘لا عليك.. فهذا، كما قال الشاعر: غبار المعارك ‘وضحكنا. أدركت حب المرح وربما خفة الدم في شخصية السياب، فقلت له مداعباً: ‘الحمد لله إن معركتك مع الأمسية انتهت بنجاح’ فرد مبتسماً: إن معاركي لا تنتهي.. معاركي القادمة ستكون هي الأصعب..’ لم أسأله عن معاركه القادمة لكنني فكرت في سري: تراه يقصد معاركه مع الحزب الشيوعي الذي بدأت خلافاته معه، وأدت به في ذلك الوقت إلى تغيير انتمائه السياسي ووقوف اليساريين ضده والذين لم يحضروا الأمسية؟

سألته ماذا يحب أن يشرب.. فقال : شاي بالحليب بدون سكر، قلت له: هل أطلب لك قطعة من (الكيك)؟ فقال: أنا ممنوع من أكل الحلويات بسبب السكري، فقلت له: كيف وضعك معه؟ قال: هو في بدايته كما يقول الطبيب وأنا أواصل العلاج وملتزم بنصائحه ‘ ذهبت لأجلب له الشاي بالحليب والقهوة لي ولصاحبي اللذين تركتهما يتحاوران معه حول ذكرياته في ‘العالية.

عندما عدت وجدته محاطاً بطلبة من قسم اللغة العربية من محبي الأدب،جاءوا يسألونه عن الشعر فكان ينصحهم قائلاً:’ عليكم بالتراث، ولا تنسوا الآداب الأجنبية (كان السياب خريج قسم اللغة الإنجليزية في العالية) انتهزت فرصة حديثه مع الطلبة وبدأت أتأمل ملامحه وهو يشرب الشاي ويتحدث، أتفرس في تفاصيل وجهه الطفولي الشاحب، وعينيه الغائرتين المتعبتين، بدا لي مهذباً متواضعاً، لا يشعر جليسه بحرج معه، ودوداً وعلى جانب شديد من الحياء الذي يزيده وقاراً، يتحدث وهو مطرق في الغالب، يكثر من استعمال يديه حين يهم بشرح فكرة ما،وقد أثار إنتباهي طول أصابعه المفرط، وهي تمسك بكوب الشاي، فقد بدت معروقة وبادية الزرقة بشكل ملحوظ وقلت مع نفسي : أهذه هي الأصابع التي تكتب كل تلك القصائد المدهشة؟ وهومن جانب آخر عاطفي مع أفكاره يتحمس ذاتياً للدفاع عن خواطره، حين يحدثك ينظر إليك ويبتسم في وجهك، فتحس نحوه بالإلفة وتجده قريباً من نفسك.

حين تسأله لا يجيبك بسرعة، يفكر ملياً بما سيقول، وهذا جزء من الحذر والترقب في شخصيته، وربما إنعكس هذا على أسلوبه المتأني في كتابة القصيدة التي يقلبها ملياً ويتفحصها مراراً قبل أن يدفع بها الى النشر. حين تنظر الى السياب وهو هادئ النفس، متطامن المشاعر، مطرق، تحس أنك امام إنسان (خيرّ) بكل ما تحمل الكلمة من معان، تماماً مثلما كان يردد قول الشاعر ‘كن خيراً لا كاتباً وحسيبا’، فتعطف عليه وتتعاطف معه فهو عميق البراءة، لا يمكن أن يؤذي أحداً أو يقترف شراً، وقد كشفت الأحداث في السنوات اللاحقة أن هذه البراءة عند السياب، وربما الغفلة (غفلة المؤمن) كما يقال هي التي جعلت منه ضحية سهلة لأصحاب السوء والنوايا الخبيثة من زملائه الشعراء الذين يحسدونه ويكيدون له ويغارون من موهبته الكبيرة، فهو لم يعرف كيف يداور أو يتحايل أو يتزلف، ولم يعرف حتى كيف يكشف عن قدراته الشعرية الهائلة، أو يسوق قصائده بحثاً عن الأضواء والشهرة كما يفعل الآخرون. بادر السياب بسؤالنا عن الأمسية فهو بطبيعته شديد الحساسية إزاء شعره ورأي الآخرين فيه، وهو أيضاً كثير التوجس والخوف من وجود هؤلاء الآخرين، ويخشى النقد ولا يحتمل المجابهات لأنه إنسان مسالم، ولكنه قد يثور ويفقد صوابه حين يحس بالغبن أو ينتقص أحد من قيمته أو يستهين بقدراته.

عن كتاب (بدر شاكر السياب في أيامه الأخيرة)بتصرف