صفحة مطوية من تاريخ بغداد في اوائل القرن الماضي..ثورة البغداديين على شركة بيت لنج 1909

Sunday 24th of December 2017 06:09:30 PM ,

ذاكرة عراقية ,

علي مدلول راضي الوائلي
تعود فكرة دمج الادارة النهرية العثمانية مع شركة لنج إلى عهد السلطان عبد الحميد الثاني الا ان المفاوضات التي اجراها الصدر الاعظم كامل باشا مع البريطانيين توقفت بسبب الاحتجاجات التي حصلت في بغداد واستانبول. بعد سقوط السلطان عبد الحميد الثاني طلبت الحكومة البريطانية من الحكومة العثمانية مجدداً دمج الإدارة النهرية مع شركة لنج لاسيما وان الاخيرة اعلنت استعدادها لدفع مبلغ مائة وعشرون الف جنية استرليني إلى الحكومة العثمانية

مقابل دمج الشركتين ثم عادت شركة لنج ورفعت المبلغ إلى مائتين وخمسون الف جنيه الا ان هذا العرض قوبل بالرفض من قبل خليجان افندي وزير الاشغال العامة العثماني الذي كان يرى ضرورة منح امتياز الملاحة في نهري دجلة والفرات إلى شركة عثمانية تتألف من افراد عثمانيين فقط الامر الذي دفع وزير الخارجية البريطاني ادوارد غراي ان يلتمس من حقي باشا سفير الدولة العثمانية في لندن ان يبلغ حكومته بضرورة حسم مسألة دمج الادارة النهرية وشركة لنج لاسيما وان عدداً من وزراء الحكومة العثمانية كانوا يؤيدون عملية الدمج.

دارت مفاوضات بين البريطانيين والعثمانيين حيث تم الاتفاق مبدئياً على دمج الادارة النهرية وشركة لنج وتشكيل شركة جديدة للملاحة في دجلة والفرات وشط العرب بأسم شركة الهند التركية على ان تكون الشركة الجديدة عثمانية وترفع العلم العثماني على بواخرها وتكون خاضعة للقوانين العثمانية وان يكون للشركة الجديدة حق احتكار الملاحة بين البصرة والموصل في نهر دجلة وبين البصرة وبيلوس على نهر الفرات واتفق ان لايعطي امتياز اخر لشركة اخرى طوال مدة الاحتكار البالغة خمسة وسبعين عاماً مع اعطاء الحكومة العثمانية الحق في الغاء الامتياز بعد مرور سبعة وثلاثون عاماً مقابل دفع تعويضات مناسبة اما اذا الغت الحكومة العثمانية الامتياز بعد مرور خمسين عاماً فانها لاتدفع أي تعويضات للشركة المحتكرة. قدم مشروع الاتفاق على دمج الادارة النهرية مع شركة لنج من قبل الصدر الاعظم حسين حلمي باشا إلى السلطان محمد رشاد فصدرت موافقته بمقتضى فرمان سلطاني كما وافق على الاتفاقية مجلس المبعوثان بعد جلسة شهدت مناقشات حادة.

عندما عزمت الدولة العثمانية على بيع بواخر الادارة النهرية العاملة في نهري دجلة والفرات ومنشآتها في بغداد والكوت والعمارة والبصرة إلى شركة لنج للملاحة قوبل هذا الاجراء بمعارضة شديدة من العراقيين لان هذا الاجراء سيؤدي إلى احتكار شركة لنج للنقل النهري وستصبح وسائط النقل محصورة في ايديها، الامر الذي يضر كثيراً بالتجارة نتيجة لارتفاع اجور الشحن، وشهدت بغداد في كانون الأول عام 1909 مظاهرات وتجمهر الاهالي في ساحة باب المعظم حيث القيت الخطب الحماسية التي تندد بالامتياز الجديد وكان من بينها خطبة لكاظم الدجيلي اثارت مشاعر المتظاهرين الذين نادوا بسقوط وزارة حسين حلمي واعتبروا اقدامها على بيع بواخر الادارة النهرية لشركة لنج للملاحة اجحافاً بحقوق العراقيين وترجيحاً للبريطانيين على اهل البلاد، ورفع المتظاهرون في النهاية عريضة احتجاج وانتدبوا جعفر ابو التمن لتقديمها إلى والي بغداد ناظم باشا، كما شكل المتظاهرون لجنة لتمثيلهم تألفت من خمسة اشخاص من بينهم التاجر عبد القادر الخضيري الذي وصفه البريطانيون بانه المحرض الرئيسي للاحتجاج ضد دمج الادارة النهرية العثمانية مع شركة لنج والتاجر محمود الشابندر الذي اتهم شركة لنج بتهديد الملاحة الوطنية من خلال تزويد بعض العشائر بالبنادق وعبد الجبار خياط.
بعث عبد القادر الخضيري باسم المتظاهرين ببرقيات إلى اهالي البصرة والموصل يحثهم على التعاون مع اهالي بغداد لمنع دمج الادارة النهرية مع شركة لنج التي كانت تقبض على التجارة والملاحة في العراق بايدي من حديد وحولت التجارة العراقيين إلى وسطاء وسرت شائعات بين الأهالي في بغداد بان الحكومة العثمانية باعت العراق وتسلم ناظم باشا برقية اخرى وقعها عدد من الوجهاء جاء فيها ان ثلاثين الفاً من اهالي بغداد سيتظاهرون ضد بيع الادارة النهرية إلى شركة لنج وفي العشرين من كانون الأوّل عام 1909 كان ممثلو المتظاهرين في انتظار الوالي ناظم باشا وبناء على طلبهم سار معهم الوالي إلى دائرة البريد واتصل من هناك بالصدر الأعظم حسين حلمي ورجاه تلبية مطالب الجماهير البغدادية وعدم بيع الإدارة النهرية إلى شركة لنج للملاحة، اما وزير الداخلية العثماني فقد بعث ببرقية إلى ناظم باشا نفى فيها بيع البواخر إلى شركة لنج واعلن ان المشروع المقترح هو تكوين شركة مشتركة يكون في ادارتها اربعة من العثمانيين وتجار من بغداد واضاف الوزير العثماني ان اهالي بغداد اذا كانوا يخشون من وقوع اسهم الشركة الجديدة بيد شركة لنج للملاحة فلا مانع من بيعها في بغداد.
لم يقتنع اهالي بغداد بهذا الرد وظل ممثلوهم في دائرة البريد حتى صباح اليوم التالي الحادي والعشرين من كانون الأوّل 1909 وسرت شائعات بينهم ان ثلاثة من الوزراء العثمانيين تلقوا رشاوى من شركة لنج قدرها خمسون الف ليرة عثمانية لتأييد بيع الادارة النهرية وقد تأكدت شكوك الاهالي بعد ان اكد السفير البريطاني في استانبول ان اربعة من الوزراء العثمانيين يؤيدون بيع الادارة النهرية إلى شركة لنج. في الكاظمية اعلن الاهالي الاضراب العام واغلقت الاسواق وتعطلت الاعمال مطالبين بوقف بيع الادارة النهرية إلى شركة لنج وارسل عبد القادر الخضيري ومحمود الشابندر برقيات شديدة اللهجة إلى الصدر الاعظم وغيره من المسؤولين العثمانيين اتهموا فيها شركة لنج بانها تدبر اموراً مع بعض العشائر ومطالبين بالحد من الامتيازات الكبيرة التي منحتها الحكومة العثمانية لشركة لنج والتي ادت إلى زيادة النفوذ البريطاني والذي بدأ بتفاقم وبنذر بالخطر بعد ان استفحل في خليج البصرة فقد اخذ المهندسون البريطانيون في البحث عن المكان المناسب لانشاء ميناء في البصرة.

كان رأي المعارضين في البداية في مسألة بيع الادارة النهرية ان تترك شركة لنج على ماهي عليه مع السماح لمن اراد ان يؤسس شركات ملاحية وطنية تسيير بواخر في نهري دجلة والفرات لكن الحكومة العثمانية رفضت هذا الرأي لانها كانت تخشى اعتراض البريطانيين الذين يمتلكون وثائق رسمية لشراء الادارة النهرية.
لم تعرض الحكومة العثمانية الاتفاق مع شركة لنج على مجلس المبعوثان استناداً إلى المادة المائة من الدستور التي تنص على عدم عرض الامتيازات التي لاتكلف الدولة اعباءً مالية على مجلس المبعوثان الا ان الحكومة وتحت ضغط مجلس المبعوثان وافقت على رفع الاتفاق مع شركة لنج إلى المجلس وقد تلقى مجلس المبعوثان تقريرين من نائب الديوانية محمود شوكت باشا ومن نائب بغداد إسماعيل حقي بابان طالبا فيهما بالاستفسار من الصدر الاعظم حسين حلمي عن سبب عدم عرض اتفاق الحكومة مع شركة لنج على المجلس خلافاً للمادة الخامسة والخمسين من الدستور التي توجب على الحكومة عرض أي مشروع على مجلس المبعوثان كما استفسر النائبان عن اسباب منح الحكومة امتياز بيع البواخر إلى شركة لنج الذي يضر بمصالح العراق ويقوض تجارته ويؤدي إلى تنافس بريطاني ألماني على أرضه.
كان على الحكومة ان ترد على استفسار النائبين العراقيين ففي الثامن والعشرين من تشرين الثاني 1909 وقف الصدر الاعظم في مجلس المبعوثان واعرب عن الم حكومته من اللهجة التي استخدمها النواب ضدها وادعى ان منح الامتياز إلى شركة لنج لايضر بمصالح الدولة خلافاً لما جاء في تقارير النواب العراقيين واكد ان الامتياز يحقق فوائد عديدة، وقال ان الحكومة اذا
سحبت امتياز شركة لنج فان بريطانيا ستحتج على ذلك واذا اسست شركة عثمانية للملاحة فانها لن تستطيع منافسة شركة لنج لذا رأت الحكومة دمج الشركتين وان الوزارة لم تعرض الاتفاق على المجلس لانه لايكلف الدولة ضماناً مالياً.
حصل تطابق في المواقف بين النواب العراقيين والعرب وبعض النواب الاتراك حول مخاطر امتياز شركة لنج وشهد اليوم الأوّل لاجتماع مجلس المبعوثان تزايد اعداد النواب المعارضين للاتفاق مع شركة لنج. وكانت فكرة نائب البصرة طالب النقيب وغيره من النواب احراج مركز الوزارة واسقاطها فاذا نجحوا في مسعاهم قضى على مشروع بيع بواخر الادارة النهرية إلى شركة لنج، وكانت وسيلة النواب لاسقاط الحكومة هي التمسك بضرورة الحصول على تفسير رسمي عن الاسباب التي دفعت الحكومة إلى عدم عرض الاتفاق مع شركة لنج على مجلس المبعوثان رغم انها تحمل الدولة اعباء مالية مثل اعفاء لوازم سفن الشركة البخارية من رسوم الكمارك عند استيرادها.
طلب خليل بك رئيس جمعية الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثان من الحكومة ارسال اوراق الاتفاق مع شركة لنج لمناقشته ورأى خليل بك ان الايضاح الذي قدمته الحكومة كان كافياً غير ان كلام خليل بك هذا جوبه بمعارضة شديدة من قبل النواب العراقيين فقد قال إسماعيل حقي نائب بغداد”ان الحكومة تسيء صنعاً اذا حصرت الملاحة في شركة خصوصية انكليزية عثمانية لانها تضر بالبلاد والاهليين ومستقبل بلاد العرب”اما محمود شوكت باشا نائب الديوانية فقال”انني لا افهم الاسباب التي تدعو الوزارة إلى عدم تقديم الامتياز لمجلس المبعوثان”اما طالب النقيب نائب البصرة فقد حذر الحكومة من مغبة الاستمرار في موقفها من الاتفاق مع شركة لنج وقال”اذا تمسكت الحكومة برأيها ومنحت الامتياز فسيكون ذلك فاتحة المصائب الكبرى”وتحدثت الصحافة التركية عن موقف النواب العراقيين المعارضين لامتياز شركة لنج لاسيما بعد ان نظم نائب بغداد ساسون حسقيل حملة اعلامية في الصحف التركية حذر فيها من مشروع دمج الادارة النهرية مع شركة لنج.
حدد النائب إسماعيل حقي مطالب النواب العراقيون بتوجيه السؤال التالي إلى مجلس المبعوثان للتصويت عليه”هل كان على الحكومة ان تقدم الامتياز إلى المجلس ام لا”وقد صوت معظم النواب على ضرورة عرض الامتياز على مجلس المبعوثان وكان الصدر الاعظم حسين حلمي يعتقد بان التصويت سيكون إلى جانب حكومته لذلك احرج موقفه كثيراً وكان عليه تقديم استقالته لان اغلبية النواب قد خذلوه ولكن رئيس مجلس المبعوثان أحمد رضا بك اراد تفادي استقالة الحكومة فاعلن رفع الجلسة.
اعتقد رجال تركيا من جمعية الاتحاد والترقي ان النجاح الذي احرزه النواب العراقيون في احراج موقف الحكومة من الاتفاق مع شركة لنج لايعتبر نجاحاً لمعارضة امتياز شركة لنج فحسب، وانما رأوا فيه مقدمة لانهيار سيطرتهم على الحكم، ولهذا فعندما انعقد مجلس المبعوثان في اليوم التالي الرابع عشر من كانون الأوّل عام 1909 لمتابعة مناقشة الامتياز احاط بالمجلس جمع غفير من الجماهير يقدر بخمسة الاف شخص وتبين ان هذا الجمع قد اعد للاعتداء على النواب الاتراك الموجودين داخل المجلس اذا ما صوتوا إلى جانب النواب العرب ضد الاتفاق مع شركة لنج.

كان لطفي فكري بك وهو من اقطاب المعارضة أول المتكلمين فهاجم الحكومة، وانهى كلمته بقوله”انه لايرى وسيلة للتخلص من هذه الازمة المعقدة الا بفتح الملاحة في نهري دجلة والفرات امام جميع الدول وكان النائب طالب النقيب اخر النواب العرب الذين صعدوا إلى منبر مجلس المبعوثان فأكد معارضته للحكومة والمشروع وبين بشكل واضح ان على الحكومة اما ان تتوقف عن المضيء في الاتفاقية مع شركة لنج أو ان تفتح انهار العراق امام الملاحة لجميع الدول ولم يكد طالب النقيب ينهي خطابه حتى وجد ان النواب الاتراك الذين وقفوا إلى جانب النواب العراقيين قد انقلبوا من معارضين للاتفاقية مع شركة لنج إلى مؤيدين لها وبذلك وقفوا ضد التطلعات العراقية في وضع حد للاحتكار البريطاني للملاحة في الانهار العراقية وعند ذاك وجد الاتحاديون ان حركتهم في ارهاب النواب الاتراك قد نجحت فطلبوا عقد جلسة سرية لمناقشة الاتفاق مع شركة لنج واشتد الجدال بين النواب إلى ان قبل الصدر الاعظم حسين حلمي الذي حضر بنفسه إلى مجلس المبعوثان للضغط على النواب المعارضين للاتفاق مع شركة لنج للتصويت لصالح الاتفاق اقتراح خليل بك القائل”ان المجلس يعرب عن ثقته بالوزارة الحاضره على شرط ان لايكون في الاتفاق مع شركة لنج ضمانة مالية ولايطالب المجلس بحق النظر في الامتيازات الخالية من الضمانات المالية ريثما يتم التصديق على المشروع الذي وضعه مجلس الاعيان بخصوص الامتيازات”وجرى التصويت على الاتفاق مع شركة لنج ففاز باغلبية مائة وسبعة وستين صوتاً ومعارضة ثمانية اصوات فيما امتنع خمسة وأربعون نائباً عن التصويت وبهذا الاتفاق وهبت الدولة العثمانية حقوقها الملاحية في الانهار العراقية في مقابل الوعود البريطانية بمساعدتها على زيادة الرسوم الكمركية والحصول على القروض المالية.
حققت وزارة حسين حلمي نصراً في مواجهة المعارضين للاتفاق وحتى تحمي الحكومة نفسها من الاعباء المالية التي قد تثقل كاهل خزينة الدولة في حالة مطالبة شركة لنج بالتعويضات في حالة انخفاض مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات فقد وضع الباب العالي شروطاً جديدة في الاتفاق مع شركة لنج للملاحة نصت على انه في حالة توقف الملاحة في نهري دجلة والفرات بسبب مشاريع الري فان شركة لنج تفقد أي حقوق لها عند الحكومة العثمانية وبعد وصول نبأ موافقة مجلس المبعوثان على الاتفاق مع شركة لنج عقد عدد من وجهاء مدينة بغداد اجتماعاً في نادي جمعية الاتحاد والترقي وبدأوا في اجراء اتصالات مع المسؤولين العثمانيين مؤكدين فيها عزمهم على الدفاع عن حقوق العراق وتخليص الملاحة فيه من ايدي البريطانيين كما اعلنوا استعدادهم لان يقبلوا امتياز الملاحة في الانهار العراقية ويقدموا المبلغ الذي تدفعه شركة لنج الا ان الحكومة العثمانية رفضت طلب وجهاء مدينة بغداد وبدأت بتسليم الادارة النهرية العثمانية إلى الشركة الجديدة اعتباراً من 13 آذار عام 1914 مبتدئة من البصرة.

عن رسالة (شركة لنج للملاحة 1861-1914-دراسة تاريخية)