طرائف وحقائق في سيرة الاديب والمؤرخ والوزير يوسف غنيمة

Sunday 14th of January 2018 05:51:01 PM ,

ذاكرة عراقية ,

بيداء علاوي الشويلي
مربوع الخلق، قصير القامة، أسمر البشرة مشربة بحمرة، مكحول العينين واسعهما، كثير الحركات والإشارات، فصيح اللهجة، فتق اللسان، يدخن ويشرب القهوة بإفراط اثناء عمله، يطالع كثيراً ويكتب كثيراً، وكانت تغلب عليه غفوات النعاس نتيجة لكثرة القراءة، وهو رجل موسوعي، وشخصية متعددة المزايا في حقول التجارة والاقتصاد والصحافة والتاريخ والسياسة .

وعرف عنه بأنه رجل مهذب، بعيد النظر، ومن أسرة كلدانية جليلة القدر.
وفي التقرير السري الذي رفعه السفير البريطاني في العراق، السر آرجيبولد كلارك كير (Sir Ar-Gebold Clark Care) إلى وزير الخارجية المستر انتوني آيدن(Anthony Eden) عن الشخصيات الرئيسة في العراق عام 1935 وصف يوسف غنيمة بأنه ذكي وشغول ويختلط بحرية مع المسلمين .

ووصفته مجلة الحرية بأنه : ((كاتب مفكر، ومؤرخ بحاثة، ورجل عامل، تنظر إليه فترى الذكاء يلوح في عينيه، والنشاط يتدفق من وجهه، وتتخيل أن وراء هذه النظرات المتقدة والهمة المجسمة قريحة فياضة وفكراً نابهاً. وإذا جلست إليه تجلى لك فكره بما تسمعه منه من الحديث الذي يتضمن أحياناً نكتاً من المعاني الرائعة تحليها دماثة في طبعه وسعة في خلقه. تبادره في أمر فيجيبك على الفور بعبارة مسكتة، يجلس في مجلس حافل فلا يكثر من القول لكنه حين يريد الكلام يتكلم بما يرفعه في نظر جلسائه، وإذا أشرفت عليه في مكتبه القيته ينقب ويبحث في تاريخ بلاده وأحوالها السالفة والحاضرة)).
كان شخصاً هادئاً لا يتملكه الغضب بسرعة ومتسامحاً حتى مع المسيئين إليه، ففي أحد الأيام أزعجه أحد معارفه ممن كان قد أحسن إليه في أكثر من مناسبة وما مضت أيام معدودة على ذلك الحادث حتى قصده المسيء إليه ملتمساً منه أن يقضي له حاجة عرضت فصفح عنه واستجاب إلى طلبه، ولما سأله بعض الأشخاص الذين أصابتهم الدهشة عندما علموا بالحادث عن سر ذلك أجابهم على لسان الشاعر الطغرائي:

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلى من طبعه الغضب
كان يوسف غنيمة يميل إلى تغليب الجوانب الإنسانية وليس أدل على ذلك من معاضدته للقسم القروي من الطائفة الكلدانية في الخلاف الذي حدث بين الكلدان القرويين والبغداديين عام 1913 .
امتاز يوسف بالعمل الصامت، والنشاط الوفير، والتعاون (، وتشهد له بذلك دوافعه وأعماله الانسانية في أي مشروع انساني أو وطني حيث ساهم في عام 1924 بجمع الإعانة لتعمير المسجد الأقصى ، واشتراكه بهمة في مساعدة منكوبي كرمليس من بيادر الحريق الذي حصل في قرية كرمليس في 29 حزيران 1927، فبادر يستحث الحكومة والأهلين لمساعدتهم عن طريق النداء، وتوصل إلى تأليف (جمعية مساعدة منكوبي كرمليس) التي كان يوسف عضواً عاملاً وبارزاً فيها وأميناً لصندوقها، فقام بجمع الإعانات لتوزيعها على أهالي كرمليس. كان يهتم بعمله أكثر من اهتمامه بمظهره، وقد أشارت أحد الوثائق الأنكليزية إلى هذا الجانب من صفاته، بأن مظهره الشخصي لا يدل على أنه ذا أهمية .
وكان رجلاً متواضعاً، ودؤوباً في العمل، وحريصاً على الالتزام بالنظام)، وبهذا الصدد وصفه جميل المدفعي قائلاً : ((أنه عضوٌ عاملٌ نافعٌ، ووطني مخلص في أداء واجباته في جميع حقول الخدمة التي تولاها في الدولة، وكان إلى آخر لحظة في حياته على الرغم من الأمراض التي انتابته حريصاً على أن يقوم بواجبه على أفضل وجه، فما تخلف عن جلسة، ولا تأخر عن لجنة من اللجان ولا توانى عن دراسة لائحة أو مشروع وابداء ما يعن له في ضوء تجربته)).
كان يوسف غنيمة ظريفاً خفيف الروح يفضل الحياة الاجتماعية المختلطة وله أحاديث طلية وكلامٌ منمق بطعمه بأبيات من الشعر أو بمأثورات وقصص كما كان سريع البديهية إلا أنه كان قليل الكلام عن وقائع عمله الرسمي.
وامتاز بالنظام والالتزام والتمسك بالمواعيد والتقيد بأوقات الدوام الرسمي وكثير ما كان يقضي الساعات الطوال في مكتبه الرسمي قبل أوقات الدوام أو بعدها حسب مقتضيات عمله .
كما أتصف بمنطق دفاق وأصالة في الرأي وكثير من الآراء التي كان يطرحها كان يؤخذ بها وقد شهد له بذلك ياسين الهاشمي، إذ قال : ((أنني كنت أحترم كل الآراء التي كان يرشدني بها على الدوام لما كنت رئيساً للجنة المالية)).
وكانت مناقشاته واقعية، تأبى التفريط في حقوق العراق، غير أنه إذا اعتقد أن المنافع التي يكسبها العراق في قضيةٍ ما هي أقصى ما يمكن انتزاعه من الآخرين في تلك الظروف، وافق عليه بجرأة من غير التفات إلى لوم، وإذا أبدى رأياً، شفعه بالأرقام، وإذا تلقى انتقاداً فيصدر رحب، ويرد عليه بجرأة وأدب .
وكانت له نفس طموحه للمعالي، فحين أنتخب نائباً في مجلس النواب تقدم منه أحد الأصدقاء وهنأه لفوزه بالنيابة فأجابه يوسف ((بل هنئني لما أصير وزيراً)) وقد صار وزيراً فيما بعد.
امتاز يوسف غنيمة بثقافته الواسعة التي انعكست على أفراد عائلته أولاً، وعلى ادارته ثانياً، كما أنه تميز بالتحري المستمر والتدقيق الدائب لانتقاء مصادر الكتب الثمينة، والدليل على ذلك، أنه ترك مكتبة كبيرة في داره، ضمت الكثير من الكتب التاريخية والأدبية واللغوية المنشورة بلغات مختلفة العربية والتركية والانكليزية والفرنسية والارامية .
كما كان له مجلس يعقده في داره المعروفة في بغداد يجتمع إليه العلماء والأدباء والوزراء فتدور بينهم أحاديث العلم والأدب وتناقش على بساط البحث وقائع التاريخ والأخبار، وكان يوسف موصوفاً بجليل الصفات ومشهوراً بمكارم الأخلاق جعلته بحق ينال الثقة التامة عند المسؤولين العراقيين ، ويتمتع باحترام عشرائه من أبناء المدن العراقية من آل جميل وآل نقيب وعبد المجيد الشاوي وغيرهم .
وكان نزيهاً، زاهداً بالمال في حياته، ولم يكن ميالاً لاقتناء المجوهرات والأملاك، فقضى في المناصب الرفيعة عهداً طويلاً وهو يسكن في دار قديمة ولا يملك سيارة، وقد سأله في ذلك بعض أصحابه فأجابهم ((يخال لي أن راتبي لا بركة فيه)) وكان يوسف يشبه وضعه بقول الشاعر :
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول

وفي الواقع لم يفقد يوسف غنيمة خصلته هذه المتمثلة بالأمانة والنزاهة حتى أيامه الأخيرة التي عمل بها في مؤسسات الدولة ودوائرها، وفي إطار مقارنته بأقرانه، ومن كانوا دونه نفوذاً بما لا يقاس لكنه، بالمقابل، لم يتردد في صرف أموال الدولة بسخاء أثناء عمله الوزاري، ولما استقال من وزارة المالية في 27 كانون الثاني 1948، منحته الوزارة راتب يومين زائدة، فقام على أثر ذلك بتقديم طلب إلى وزارة المالية يعلمها فيه بأنه قد قبض راتب يومين أضافيين، رجا الوزارة إعادته إلى خزينة الدولة).
من خلال ما تقدم يمكن القول، بأن يوسف غنيمة كان انسانياً في تعامله، كثير الاهتمام بمصالح بلده، مواظباً ونزيهاً في عمله، فساعده كل ذلك في الوصول إلى تلك المكانة المرموقة التي طمح كثيرون في الوصول إليها.
أشتغل يوسف بالتجارة منذ نشأته، فأسس محلاً تجارياً باسمه عام 1906 وأتخذ التجارة مهنة للاكتساب فراسل أوربا وأميركا والأستانة وفارس والهند، وحصل على وكالات لاستيراد المضخات والمحركات، واشترك عام 1912 مع أولاد عمه نجيب شكر الله ، وغانم شكر الله بتأسيس مصلحة للنقل بالسيارات وللتجارة بين العراق وفارس، ومنذ ذلك الوقت ظهرت بوادر النجاح اللامع في حياته العملية، إذ استطاع أن يقيم علاقات صداقة ودية مع التجار بشكل عام سواء من المسلمين أو من غير المسلمين، وقد دشن ذلك بداية لصلاته الوثيقة بالمسلمين الذين ظل على اتصال بهم طيلة حياته.
وبعد مرور ثمانية أيام على احتلال القوات البريطانية بغداد، أي في 19 آذار 1917، قام يوسف بالاشتراك مع أولاد عمه أيضاً نجيب شكر الله، وغانم شكر الله بتأسيس فندق عصري منظم ومركزه في الدار الواقعة في جادة خليل باشا في بغداد ويدعى هذا الفندق بالفندق الأنكليزي (English Hotel).
في 22 تموز 1917 خطب يوسف، فيكتوريابنت فتح الله أندريا، وهي بنت خاله، وأقيمت له حفلة حضرها جمع غفير من وجوه النصارى ورجال الدين، وألقى خلال الحفلة داود صليوا قصيدة هنأ فيها الخطيبين، وفي 18 تشرين الثاني من السنة نفسها زفت إليه .و داود صليوا : وهو صحفي مشهور، وأحد الأدباء والشعراء الموصليين، ولد في الموصل في 7 تشرين الثاني 1852 من أسرة فقيرة الحال ومن أبوين كاثوليكيين وكان جده من المدافعين عن المذهب الكاثوليكي، واحتل داود صليوا عدة مناصب إدارية حيث كان مديراً للمدرسة الكلدانية البطريركية لمدة أربع سنوات، ومدرساً في مدرسة الأليانس لمدة عشرة سنوات، ومدرساً في المدرسة الأرمنية لمدة خمسة عشرة سنة، وقضى في المدرسة الكلدانية البطريركية البغدادية ثلاثون سنة مدرساً، وتولى إدارة المدرسة البريطانية البروتستانتية لمدة خمس سنوات. كان صديقاً حميماً ليوسف غنيمة، وقام بإنشاء مجلة الغرائب في البصرة عام 1913، ونفي في عام 1914 من قبل والي بغداد (جاويد باشا) إلى القيصرية بسبب مدحه طالب النقيب ذلك السياسي الذي وقف ضد اعداءه الأتراك وفي اثناء نفيه فقد احدى عينيه، وتوفي عام 1921،
ولدت زوجته، فيكتوريا، في 6 نيسان 1896 م، وتنتسب إلى عائلة ثرية، ذائعة الصيت، فهي بنت فتح الله بن ريشا بن حنا بن اندريا (أخذت العائلة لقبها من اسمه) بن يوسف بن بشارة الذي انتقل من حلب إلى بغداد في النصف الأول من القرن الثامن عشر ، وقد ورد اسم يوسف بشارة في قائمة العائلات الكاثوليكية التي نظمها الآباء الكرمليون في عام 1753 (عدد العائلات بلغ 86 عائلة)، أما أمها فهي زوهي بنت صولون كالوتي اليوناني الأصل الذي تزوج تاكوهي بنت بطرس أوراها غزالة التاجر الموصلي .
درست فيكتوريا في مدرسة راهبات التقدمة، وتعلمت اللغة العربية والفرنسية ومبادئ العلوم الأخرى، وامتازت باخلاقها الفاضلة وبتقواها وتواضعها، وساهمت في تدعيم النهضة النسائية في العراق وخدمت في جمعية الهلال الأحمر العراقية (الفرع النسائي) سنوات طويلة وتقديراً لخدماتها فقد صدرت الإرادة الملكية في شباط 1947 بمنحها نوط الهلال الأحمر من النوع الفضي، وفي عام 1945 أسست مع عدد من النساء جمعية خيرية باسم (جمعية أخوات الرفق بالفقير) ومقرها في بغداد، وكانت غاية هذه الجمعية إعانة الفقراء بمختلف الوسائل المتيسرة لديها، وتعدّ هذه الجمعية من أرقى الجمعيات النسائية في العراق لأنها من الجمعيات ذات النفع العام، هذا وبقيت فيكتوريا ترعى الجمعية وتنظمها وتديرها برئاستها إلى أن توفيت في 7 آب 1963.

وفاته:
اعترت يوسف غنيمة امراض أواخر ايام حياته، فقل نشاطه واقتصرت اعماله على تسيير شؤون الدولة كما هي الحالة مع أكثر رجال الدولة في تسيير الاعمال حسب الاصول الروتينية، وكما هي الحالة الغالبة في الوظائف الحكومية ، الا انه كان عضواً فعالاً في مجلس الأعيان ويواصل حضور جلساته بانتظام ، حتى كانت آخر جلسة حضرها في مجلس الأعيان في 28 حزيران 1950 ونوقشت في هذه الجلسة لائحة قانون الميزانية العامة لسنة 1950 المالية والقى فيها يوسف كلمة وهي تعد آخر كلمة له، وهي كالآتي:
“سادتي فتشت عن كلمة افتتح بها خطابي هذا فلم أجد قولاً منطبقاً على الموقف الا قول عنترة العبسي”هل غادر الشعراء من متردم”نعم لم يترك أعضاء مجلس الامة شاردة ولا واردة لم يذكروها تحت سقف البرلمان العراقي منذ أكثر من ربع قرن واكثر القول مذكرين ومطالبين بالاصلاح فسقط بعض هذا الكلام على ارض جيدة فأينع وانتج وسقط بعض هذا الكلام على ارض غير ملائمة ففسد واختنق بين اشواك الداخل وصخور الخارج. مهما كان الامر فواجبنا لن نقول ثم نقول”.
وذكر سالم الآلوسي الذي كان يلتقي به في مكتبة المتحف العراقي بانه اصيب في اواخر ايامه بالشلل الارتعاشي (Parkinson) وكان يردد في كثير من الاحيان قول الشاعر:
رفقاً بقلبٍ قد مات اكثره وتقاسمت فضلاته العللُ

ولما اشتد مرضه اقترح عليه الاطباء والاهل والاصدقاء بالسفر خارج العراق لغرض العلاج، وبعد حصوله على اجازة امدها (15) يوماً من قبل موافقة رئيس مجلس الأعيان (جميل المدفعي) ابتداءاً من يوم 29 حزيران 1950 ، غادر بغداد برفقة زوجته متوجهاً إلى لندن بالطائرة، ودخل إحدى المستشفيات الجيدة في لندن، وكان يشرف عليه في المستشفى عدد من الأطباء المختصين وعلى رأسهم الطبيب جيمس”James وهو رجل يبلغ من العمر الخامسة والخمسين، وكان قد خدم خلال الحرب العالمية الثانية لمدة ثلاث سنوات ونصف في مصر وشمال افريقيا، وكان يوسف يلتزم بوصفة الطبيب التي تحتوي على جدول يومي في دواءه وغذاءه الذي يتضمن ثلاث بيضات مع عصير الربتقال والكلوكوز. وكان يتمنى أن يموت في بلده العراق حتى انه طلب من الاطباء العودة إلى بغداد فلم يسمح له بالنظر إلى عدم امكان نقله وهو بهذه الحالة، لذلك بقي في المستشفى نفسها حتى وافاه الأجل في لندن مساء يوم الخميس المصادف 10 آب 1950 في المستشفى في لندن ، ثم حنط جثمانه حسب الاصول ووضع بداخل تابوت من الخشب ونقل بالطائرة من لندن إلى مطار البصرة، ومن البصرة إلى بغداد بالقطار.

عن رسالة (يوسف غنيمة حياته ونشاطه)