الدكتورة سانحة

Wednesday 17th of January 2018 06:19:13 PM ,

عراقيون ,

إنعام كجه جي
بعد أن تجاوزت السبعين، جلست الدكتورة سانحة أمين زكي أمام الكومبيوتر لأول مرة لكي تكتب مذكراتها. وقد أنهت المهمة، وهي على عتبة التسعين. وصدرت المذكرات في 800 صفحة، ثم ترجمت إلى الإنجليزية. تكتب في المقدمة أن صديقًا من عمر أبنائها أهداها كتيبًا حول استخدام الحاسوب. فضحكت وسألته: «هل سأتعلم مع طلاب رياض الأطفال؟».

هل تعرفون سيدات تسعينيات عربيات كثيرات من هذه الخامة الراقية القادرة على التعلم من المهد إلى اللحد؟
كتابها ليس تأريخًا لها وللإنجازات الكبيرة التي حققتها، فحسب، بل لموطنها، وبالأخص لمجتمعه ولنسائه. فهي قد ولدت عام 1920، يوم كانت بغداد، حسب قولها، نائمة في أحضان العصور المظلمة، والمرأة حبيسة دارها. وبعد ميلادها بسنة واحدة تُوّج فيصل الأول ملكًا على العراق. وهو العهد الذي تصفه بقولها: «بداية جديدة عصرية ومباركة انفتحت أمام البلد كله، وخصوصًا أمام النساء. فقد انتشر تعليم البنات وتحولت المرأة من شخص طفيلي عاجز إلى سيدة متعلمة تكسب رزقها بنفسها كما يفعل الرجال».
تتوقف عند معلماتها اللواتي «كن على درجة كبيرة من الأناقة العصرية في الملابس والاعتناء بالشعر وأسلوب الكلام المهذب"لتقول إنهن كن يتقاضين أجورًا متساوية مع الرجال. والمساواة بين الجنسين في الأجور أمر لم يتحقق في بلد مثل فرنسا حتى اليوم. ومن أولئك المعلمات صبيحة الشيخ داود، أول طالبة تدخل كلية الحقوق. وبعد ذلك أول قاضية في العراق. وإذا كانت كل صفحات الكتاب شهية مثل خبز باب الأغا، حار ومُقصّب، فإن مقطعًا واحدًا يمكن أن يعطي فكرة عن الزمن الذي عاشته المؤلفة في صباها، وكم هو مختلف عن الزمن الحالي.
تكتب عن مناسبة شهدتها، عام 1930: «دخلت الست صبيحة إلى الصف، وقالت إن فرقة فاطمة رشدي وصلت بغداد، وإن الرواية ستكون (مصرع كليوباترا). وهي مسرحية شعرية من تأليف أمير الشعراء أحمد شوقي. وكان لا يزال حيًا يومها. اشتريت بطاقات الحفلة النهارية التي تقام بعد الظهر للسيدات، وذهبنا مع الوالدة، وفهمت معظم ما دار من حديث بين الممثلين. بدت فاطمة رشدي، ملكة جميلة جدًا. ترتدي التاج والجواهر. تأمر فتطاع. وبشارة واكيم بدور القيصر أنطونيو وروعة شخصيته العسكرية. والرومان بخوذهم المعدنية وسيوفهم اللامعة. يقابلهم المصريون بملابسهم الفرعونية وآلهتهم الغريبة. والمؤامرات تحاك حول الملكة والقيصر. والمغني يغني شعرًا: أنا أنطونيو وأنطونيو أنا.. ما لروحينا عن الحب غنى. وعشق الناس هذه الأغنية، وأصبحنا نسمعها في كل مرة نمرّ قرب أحد المقاهي في البلد. ولما ماتت كليوباترا بأفعى حقيقية تتلوى بين أصابعها، بكت الحاضرات لموتها. وقد اشترك في التمثيلية حقي الشبلي، وكان فنانًا عراقيًا شابًا يدرس في مصر، قام بدور أوكتافيوس. وقام عزيز عيد بدور رئيس الكهنة. وهو ممثل قدير لكنه كان كبير السن، قصير القامة، أصلع الرأس، وفي كل مرة يظهر على المسرح تسري بين النساء المفرجات همهمة أسف مسموعة لكونه زوج فاطمة رشدي الجميلة، ويقلن: حيف هذا رجلها».
نكتشف أن المؤلفة كانت ذات أفكار يسارية في شبابها، رغم أنها سليلة أسرة مرفهة مقربة من العائلة المالكة. وتنقل، في هذا الصدد، حوارًا جرى في جلسة عائلية بينها وبين رئيس الوزراء نوري السعيد. كان يتحدث عن المشاريع المقررة للري والتعليم والصحة. فاعترضت على كلامه، وقالت إن البلد لا ينمو بالسرعة المطلوبة. واشتد في كلامه ورد عليها: «انظري إلى نفسك، هل كنت تجلسين وتناقشين الرجال الكبار قبل عشرين عامًا؟ أي امرأة كانت تفهم في السياسة وغيرها في ذلك الوقت؟ بغداد كانت قرية كبيرة ليس فيها مدارس ومستشفيات ولا بنات يجادلن الكبار». ورغم هذه المواجهة، فإن المؤلفة لا تخفي إعجابها بشخصية «الباشا» وبالعهد الذي كان يتولى المقاليد فيه.
أقرأ كتاب سانحة أمين زكي، هذه المرأة الاستثنائية، وأتساءل: «لماذا يحنّ كثير من العراقيين إلى زمن الملكية؟». إنها تهدي مذكراتها إلى أحفادها الخمسة الذين هاجروا مع آبائهم ودرسوا في الخارج. وتقول إنهم يسألونها «عن العراق في القرن العشرين. وعن 14 يوليو (تموز)، حين تحول العراق من الحكم الملكي إلى الجمهوري خلال دقائق قليلة، بواسطة البيان الأول في الراديو من قبل ضابط، ومعظم الناس يغطون في نومهم. وقد أعقب ذلك الانقلاب خمسة انقلابات عسكرية. ماذا أقول لأحفادي إذا رغبوا في العودة إلى العراق؟ هل أسألهم أين ترغبون السكن، في شيعستان أم سنيستان أم كردستان؟».
عن الشرق الأوسط