حقائق وطرائف عن الوضع الصحي في النجف في ايام العثمانيين

Sunday 11th of February 2018 05:41:37 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د.عبد الستار شنين الجنابي
كان الوضع الصحي في النجف لا يختلف كثيراً عن الوضع الصحي العام في العراق خلال فترة العهد العثماني الأخير، اذ كانت البلاد تعاني من خلل كبير في تنظيم و إدارة الصحة العامة للسكان لعدم وجود تشريعات رسمية تهتم بها. ومنذ سنة (1838) بدأت السلطات العثمانية بتطبيق نظام الحجر الصحي. وفي سنة (1840) اصدرت نظاماً خاصاً أسمته بـ (نظام الكورنتينا).

وفي سنة (1871) قامت بنشر اول نظام يتعلق بالصحة العامة وإدارتها في العاصمة والولايات وهو (نظام الإدارة العمومية الطبية) الذي اهتم بمجمل الأوضاع الصحية. وقد اوجب هذا النظام على كل بلدية من بلديات مدن الولايات العثمانية ان تعين طبيباً مع معاون له في المدن الكبيرة”ليعاين المرضى مجاناً مرتين في الأسبوع في محل يتعين ويعلن من طرق الإدارة البلدية”. كما اوجب النظام على بلدية المدينة ان تقوم ايضاً بفتح صيدلية عامة لتزويد الفقراء بالأدوية مجاناً.
كانت مديرية (كرنتينة) ولاية بغداد تشرف على دوائر (الكرنتينة) في المدن التي تقع على الحدود الشرقية للولاية، وفي مدن العتبات المقدسة، وذلك لكثرة الزوار الإيرانيين الذين يفدون لزيارتها. وكان الغرض من ذلك منع انتقال الأمراض والأوبئة السارية من مناطق ايران الى داخل العراق بواسطة المسافرين او الجنائز المنقولة للدفن في النجف.
وتصف لنا الرحالة الفرنسية (مدام ديولافوا) حالة دوائر الحجر الصحي الحدودية سنة (1881) حينما غادرت إيران قادمة للعراق بأنها كانت عدة أكواخ من الحصر اقيمت فوق ارض رطبة يلاقي نزلاؤه الأمرين فيها من حيث رطوبتها والطعام الرديء والماء العكر، اذ كثيرا ما كان يقضي المسافرون نحبهم فيها من جراء ذلك ان لم يصيبهم الطاعون نفسه بعدواه. وتشير الى ان الإجراءات القاسية التي كانت تتبع ما هي ألا وسيلة لكي يضطر المسافر الى دفع ما يمكن دفعه من المال، اذ يتم التحايل بكل الطرق لإفراغ جيوب المسافرين خلال الأيام العشرة التي يقضونها في الحجر.
وفي رواية اخرى يصف لنا الشيخ علي الشرقي موضوع المحاجر الصحية الحدودية ومصداقية فعاليتها في منع انتقال الأمراض السارية من إيران الى العراق، اذ يذكر انه ذهب الى مدينة كرمنشاه الإيرانية مرافقاً لخاله الشيخ عبد الحسين الجواهري الذي ارسله الملا محمد كاظم الخراساني المجتهد المعروف ليكون وكيلا عنه في جمع الحقوق الشرعية في إيران، وبعد مدة قصيرة انتشر وباء الكوليرا في المدن الإيرانية مما اضطرهم الى الإسراع بالعودة الى العراق. وكان في كل مدينة يمرون بها حجر صحي يجتازونه بالرشوة حتى وصلوا ابواب خانقين، وهناك نزع الشيخ علي الشرقي العمامة ولبس الكوفية والعقال واظهر نفسه وكأنه مكاري في يده عصى وفي الاخرى حفنة من التمر الكسب ليدلس على الطبيب الفاحص، بعد ان علم ان الموظفين يتشددون مع غير العرب، و بذلك اعرض عنه الطبيب. في حين ان خاله المعمم الشيخ عبد الحسين الذي كانت ترافقه زوجته وولداه ادخل الحجر الصحي اذ كان عليه ان يبقى فيه عشرة ايام للتأكد من خلوهم من المرض، وبذلك افترقا، ثم التقيا لاحقاً في الكاظمية، وعند سؤال الشرقي لخاله عن حاله وعياله، اجابه بانه بأسوء حال، اذ دخل المحجر الذي لم يكن سوى بؤرة للوباء فأصيبت الزوجة والأولاد بالكوليرا وتوفوا جميعاً.
لم تكن خلال هذه الفترة في النجف دوائر صحية أكثر من مأمورية الحجر الصحي(الكرنتينة) التي كانت تتبع مأمورية سنجق كربلاء. اذ ان اهتمامها كان منصباً على جباية رسم مقداره (50 قرشاً) عن كل جنازة يتم دفنها في النجف، بغض النظر عن كونها من داخل ولاية بغداد او من خارجها، وفي سنة (1911) أعفي أبناء ولاية بغداد من هذا الرسم. فضلا عن رسم اخر كانت تستوفيه دائرة الأوقاف في المدينة (رسم الدفنية)، وكان يتراوح بين خمسين الى خمسة آلاف بيزة ذهبية عثمانية حسب اهمية موقع الدفن وقداسته. لذلك كانت مهمة تقديم المستلزمات الصحية والحفاظ على الصحة العامة مناطة بالبلدية. وعلى الرغم من ان قضاء النجف كان يعتبر من الأقضية الكبيرة الا ان إدارة بلديته لم يكن فيها سوى كاتب وأمين صندوق ولم يكن فيها طبيب او صيدلي في حين كان هناك طبيب لبلدية مدينة كربلاء، وطبيب و صيدلي لبلدية مدينة الحلة. وفي سنة (1908) وبسبب أهمية مدينتي النجف وكربلاء وكثرة ما يرد عليهما من الزائرين شُرع بإنشاء مستشفى في كل منهما، وصدر الامر السلطاني بتسمية كل منهما بـ (المستشفى الحميدي) نسبة الى السلطان عبد الحميد الثاني. وفي الوقت الذي نجد ما يشير الى افتتاح مستشفى كربلاء في سنة (1914)، اذ يشير الشيخ محمد رضا الشبيبي في مذكراته الى هذا المستشفى الذي وصفه بأنه من انفس المعاهد الصحية الحديثة والذي أُنشىء على احدث طراز، اذ انفقت عليه أموال طائلة، الا ان جُهّال كربلاء قد تعرضوا له على اثر حوادث سنة (1915) فنهبوا ادواته وامتعته وفعلوا به ما لا يفعله العدو بعدوه. في حين اننا لم نجد ما يشير الى افتتاح مستشفى النجف او حتى وجوده. الا ان محمد علي كمال الدين يشير في مذكراته التي تعود بداية تدوينها الى سنة (1908)، الى وجود طبيب حكومي واحد مع صيدلية بسيطة، و ان الأهالي لم يكونوا مطمئنين في مراجعته او علاجه، لذلك كانت الايام تمضي والاسابيع من دون ان يرى مريضاً، على الرغم من كثرة انتشار الأمراض.
عن رسالة (التاريخ الاجتماعي للنجف)