حصار في عالم قاسٍ لا يشجِّع على الحب.. (بلاد الثلوج) تحفة كاواباتا الأدبية

Tuesday 20th of February 2018 06:31:38 PM ,

منارات ,

عدنان حسين أحمد
صدرت عن «دار المدى» رواية «بلاد الثلوج"لياسوناري كاواباتا، ترجمة لطفية الدليمي التي سبق لها وأن ترجمت عدداً من قصصه القصيرة. وأشادت «بأسلوبه الأدبي الفريد، ولغته الوجيزة، وابتعاده عن استخدام الصفات، وتركيزه على جوهر العلاقة الإنسانية». وجدير بالذكر في هذا الصدد، أن جملة كاواباتا القصصية أو الروائية هي جملة مُقتصدة،

تذهب إلى الصميم مباشرة، ولا تميل إلى الإسهاب أو الإطناب، وأكثر من ذلك فهي جملة شعرية، وشاعرية ملفعة بغموض مستحب. لا يخطئ قارئ "بلاد الثلوج" ملامسة عزلة الشخصيات التي تبدو وكأنها محاصرة فعلاً في عالم قاسٍ تحيطه الثلوج من كل جانب، كما تطوّقه برودة العواطف الإنسانية التي تضاءلت إلى درجة كبيرة أو شُلّت لأسباب كثيرة توضحت في بعض المواضع، لكنها ظلت عصية على التأويل في مواضع أخرى من هذا النص الروائي الفاذ الذي اعتبره المترجم والناقد الأميركي إدوارد جورج سيدنستكر «تحفة كاواباتا الأدبية» التي نال بسببها جائزة نوبل إضافة إلى روايتيه المهمتين اللتين أشارت إليهما لجنة الجائزة وهما «الغرانيق الألف» و«العاصمة القديمة».

وقد جاء في قرار لجنة التحكيم أن كاواباتا مُنح هذه الجائزة"لبراعته السردية التي تعبّر بحساسية كبيرة عن جوهر العقل الياباني".
لا بد من الإشادة بالمقدمة المركّزة التي كتبتها لطفية الدليمي مسلطة فيها الضوء على حياة كاواباتا الغامضة، وعلى تجربته الأدبية التي تفتحت وهو لما يزل طالباً في جامعة طوكيو الإمبراطورية عندما بدأ بنشر صوره القلمية التي أطلق عليها تسمية «قصص بحجم راحة اليد"فحققت له بعض الشهرة، لكن حضوره الأدبي سرعان ما ترسّخ إثر نشر سيرته الذاتية المثيرة للجدل "راقص الإيزو"سنة 1926.
تشير الدليمي في مقدمتها، إلى أن كاواباتا قد كتب أكثر من مئة قصة قصيرة بأسلوب نثري مركّز، خلافاً لأقرانه الروائيين الذين بدأوا حياتهم الأدبية بكتابة الشعر. ثم انتقل إلى كتابة النصوص الروائية التي حققت شهرة واسعة فيما بعد، مثل «سيد الغوّ»، «البحيرة»، «صوت الجبل»، «جمال وحزن»، «يد واحدة"و"بيت الجميلات النائمات".
كان كاواباتا قبل فوزه بجائزة نوبل يحب العزلة كثيراً لأنها تمنحه فرصاً نادرة للتأمل والاستغراق في المواضيع التي يكتبها، لكنه ما إن خطف الجائزة حتى اقتحمت مختلف وسائل الإعلام حياته الخاصة وظلت تلاحقه مثل «لعنة أبدية» فهو كارهٌ للشهرة التي جاءته «سعياً على الرأس لا مشياً على القدم» لتنبش في تفاصيل حياته الشخصية، وتبحث في المواضيع التي يكتب عنها علّها تعثر على جديد لا يعرفه القرّاء غير النزعة الحسيّة، والحرب، والعزلة، والافتتان بالطبيعة، والجوانب الإيروسية الغامضة، خصوصاً أنه تشارك مع الكاتب التجريبي الحداثي يوكو ميتسو ريتشي، في إصدار مجلة أدبية أصبحت صوتاً خاصاً للنزعة الحسيّة التي أُطلق عليها «جماعة الإدراك الحسي الجديدة» وقد سبق لكاواباتا وأن أنشأ مدرسة أدبية حملت اسم «الحساسية الجديدة» التي تعتمد، كما يذهب النقاد،"على رهافة النفس اليابانية".
لا تضجّ رواية «بلاد الثلوج"لكاواباتا بعدد كبير من الشخصيات، ولو دققنا النظر فيها لوجدنا لا تتجاوز الأربع شخصيات رئيسة يرتكز عليها النص الروائي برمته، مع بعض الشخصيات التي تمر مروراً عابراً. لا يمكن بطبيعة الحال تناول شخصية شيمامورا من دون ربطها بالحرب العالمية الثانية، ذلك لأنها من نتائج تلك الحرب البشعة التي دفع الشعب الياباني ثمناً باهظاً لها. ومع أنه لا توجد أي إشارة عابرة إلى الحرب، فإن هذه الشخصية الإشكالية هي من نتائجها الطبيعية كونها تحمل شعوراً مزدوجاً تجاه الموروثين المحلي والغربي. فشيمامورا هو «ثري متبطل، لكنه عاجز عن الحُب. كما أنه نصف متشائم ونصف ساخر، وخبير في فن الباليه الغربي، لكنه لم يشاهد عرض باليه طوال حياته»، فما الهدف من التخصص في فن البالية إذن؟ يقوم شيمامورا برحلة من طوكيو إلى شمال اليابان، حيث الثلوج تحاصر تلك المنطقة على مدى ستة أشهر. وهناك في منتجع أحد ينابيع المياه الحارة يلتقي بـ«كوماكو»، فتاة الغيشا، «النقية الطاهرة الروح في عالم فاسد ولا يشجِّع على الحب. يحاول كلاهما أن يثوّر غريزة الحب في الطرف الآخر، لكن الحب، على يبدو، لا يأتيهما قط، وكلما اقتربا من بعضهما بعضاً يزدادان ابتعاداً وعزلةً»، وحين يقرر شيمامورا العودة إلى طوكيو، تغرس كوماكو جذورها في الجبال القصيّة.
تكشف أحداث النص الروائي، أن شيمامورا منجذب إلى «يوكو"من خلال كوماكو، تلك الفتاة غريبة الأطوار التي تومض في مخيلة شيمامورا مثل ضوء مشع في ظلمة الجبل. ثم نفهم أن المرأتين قد تنافستا في الحب مرتين، مرة مع «يوكيو» الذي مات، ومرة مع شيمامورا الذي لم يصرح إلاّ بالحد الأدنى من هذا التنافس. وحين احترق متجر شرانق الحرير، لم نعرف إذا كانت يوكو حيّة أم ميّتة لأن ساقها كانت تتحرك حركة واهنة إثر تشنج ربلة الساق.
إن أجمل ما في هذه الرواية هو أسلوبها المتدفق بغض النظر عن طبيعة الأحداث غير المعقدة التي أوضحت لطفية جانباً منها، كما تعمّق في شرحها مترجم النص سيدنستكر. إن الجمل القصيرة الخالية من الصفات هي جمل روائية دقيقة تذهب إلى الصميم ولا تعرف اللف والدوران، غير أن هذا الوضوح لا يعني نبوّ الكاتب تماماً عن الاستعارة والمجاز، فثمة أشياء كثيرة تدور في فلك الرمز واللغة المجازية بدءاً من عنوان الرواية وانتهاء بتجلياتها التي تتعلق بالفوارق الطبقية، وينابيع المياه الحارة، وفتيات الغيشا اللواتي يترجحن بين المنزلتين الفنية والإيروسية العابرة.
تجدر الإشارة إلى استغراق كاواباتا في الجوانب المحلية بدءاً بالآلات الموسيقية كالساميسن التي تحيل إلى اليابان تحديداً، مروراً بنساء الغيشا، وانتهاءً بالفنون الدرامية الكلاسيكية كـ«النوّ» و«الكابوكي» وغيرهما.
يشعر القارئ وهو يمضي في قراءة هذه الرواية، بأن يتجول بين أناس أحياء يعبّرون عن مشاعرهم الإنسانية ضمن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي تحيط بهم، بل إن المتلقي يشعر غالباً، بأنه من شخصيات هذه الرواية وأن الثلوج تحاصره مثلما هي تحاصر شخصيات النص جميعاً، الأثرياء منهم والفقراء على حد سواء.