طه سالم والمسرحية العراقية الحديثة

Wednesday 4th of April 2018 06:50:02 PM ,

عراقيون ,

د. عقيل مهدي
استدرجت طه سالم في عام 1947 مسرحية"أهل الكهف"لتوفيق الحكيم إلى مصير مسرحي محتم حينما أذهلتهُ خيمة مرسومة مثل كهف على مسرح متوسطة التفيض، التي يمثل فيها: فخري الزبيدي، وحامد الأطرقجي، هذان الممثلان كانا يبدوان آلية وكأنهما كائنات عجائبية يستحيل العثور على شبيه لهما في الحياة. استفزت هذه المسرحية قدراته على التخيل بعوالمها السرية الملغزة.

كان يرعاه في هذه المدرسة مدرّس الرياضة الحاج ناجي الراوي، الذي بات فناناً معروفاً في درس الماكياج، ويدربهُ على الملاكمة. وينتقل طه سالم إلى (الإعدادية المركزية) ليمثل مع أقرانه، في حفلة مدرسية يتبرع لهم فيها جلالة الملك بمبلغ مئة دينار، فتحول هواه التشكيلي هذه المرة، من رسام تعلّق لوحاته على الجدران، إلى (ممثل) يخترق الجدران والكواليس، ليعرض لعبة الحياة وهي تتأمل نفسها، بلغة دلالية شارحة للناس. وفي عام 1951،1952 إلى عام 1957 ينقلب الحال جذرياً في قبوله بمعهد الفنون الجميلة في بغداد. وفي لقائه بأستاذ الأجيال القدير الفنان (حقي الشبلي).
سنوات مرت في المعهد، وهو ينهل من معلمه الشبلي، الخلق والمعرفة المسرحية (حتى أنه أعانه على الوظيفة، لتأمين لقمة العيش). وجد أن منهاج عروض المعهد تجمع مكونات نوعية مختلفة في إطار إنشائي محدد، وبارز المعالم: الكلاسيكي مع الواقعي مع الرمزي والتعبيري المحدث (مثل: دوريان جراي وصورة الفنان، أو»الأستاذ كلينوف"وعقده النفسية) وسواها من عروض.
كان يعجب من حقي الذي يراه أنيقاً، كيّساً، واهن الصوت، كيف يتحول بلحظات فوق الخشبة، إلى مارد عملاق، يرج بصوته القاعة!! هكذا تخيل. كذلك لفت نظره إلى انفتاح الفن المسرحي على البعد البصري، وتأكد له ذلك حين رأى كيف يصنع الفنان جواد سليم، خوذ الرومان، في مسرحية (يوليوس قيصر) أو ما تفعله أناملهُ من أعاجيب بورق الجرائد والمساحيق والعجائن. وحتى الأشياء لم تصمم جزافاً، فها هو الرائد التشكيلي الأستاذ حافظ الدروبي يقوم برسم تكويناتها وأشكالها وألوانها وملامسها، مستوحياً البعد التأريخي الروماني، ومقترحات مخيلته الإبداعية، وما يلزمه العرض من حلول مرئية. وبالتوازي مع المرئي، يكمل الفنان الموسيقي (فاضل) عناصر المسرح، بأصوات موسيقية لأبواق صادحة، وطبول، وصنجات ضاجة، تقتضيها يوميات القيصر.
ربما يتذكر طه سالم مقالة قيل إن كاتبها مخرج انكليزي، شاء أن يشاهد يوليوس قيصر التي أخرجها حقي ألشبلي، نشرها في (التايمز) اللندنية، ليشيد بروحها الشرقية، وبتقنياتها الجديدة، وبروعة تمثيل ممثليها غير المحترفين ولم يجد غضاضة بمقارنتها (بالفيلم) الذي مثّل فيه لويس كولهن، وجيلجود، وجيمس ماسون، ومارلون براندو. ويستمع طه سالم على مقاعد الدراسة إلى مدرس مثقف وهو (عمر العيدروس) الذي عمق تأمله بالمسرح اليوناني والروماني والانكليزي والألماني والفرنسي، ولا ينسى أيضاً تمثيله مع ممثلين عرب حينذاك بعد العدوان الثلاثي على مصر وهم لبنانيون، أما أستاذه (صفاء مصطفى)، فقد كانت لمحته الفنية، وكيف لايذهب بكليته إليه، ليصغي إلى محاضراته، واستبصاراته، وهو يدرج مسرحية يوليوس قيصر لشكسبيرية ضمن عصر النهضة، من خريطة معرفية، يخطط فيها تاريخ المسرح العالمي، ويقسم إلى عوالم زمنية متتالية وأمكنة متنوعة، متباعدة منذ فترة الإغريق إلى يومنا الحاضر. وتفصل فيه مخططات البنية الدرامية هندسياً، تفحص فيها الكيفيات التي تتحدد فيها العناصر الدرامية من شخصيات وأحداث وحوارات وصراعات وأفكار وتميّزه من سواه، هذه التقنية الكتابية تعلمها على يد أستاذه (صفاء مصطفى). وكذلك بقي راسخاً في ضميره الفني ما أودعته لديه السيدة الأميركية (مارجريت) زوجة العبودي، في درس الماكياج، وما يتطلبه من معرفة تخص تشريح القوام البشري، وعضلات الوجه لصيغة قناع مرن أو جامد للشخصيات، حينئذ، أدرك أن الماكياج ليس تزويقاً، بل عملية صياغة وإعادة صياغة أو تركيب للشخصية، بمعنى درامي محدّد، يدخل ضمن سياق العرض، ومنظومته الجمالية والفكرية والعاطفية. إنه فن خلاق ينفتح على فن التشريح وعمليته وعلى التمكن من فنون التشكيل وقوة المخيلة. على هذا المهاد المعرفي (النوعي) زرعت بذور (الاشتراكية) بمعناها المثالي في نفسه متلاقحة مع روحه المضطهدة، ليدخل عالم الكتابة، بمسرحيات عبرت عن مخاض تأريخي مر به مسرحنا مثل: طنطل، فوانيس، ورد جهنمي، الكورة، البقرة الحلوب، مدينة تحت الجذر التكعيبي وغيرها. وشاء حُسن الطالع أن يتبنّى نصوصه مخرجون متمرسون مثل: إبراهيم جلال، سامي عبد الحميد، محسن العزاوي، وخالد سعيد، كل حسب اجتهاده الإخراجي. ويحلل طه سالم عناصر النسق العائلي، والمكونات الاجتماعية تارة تستوقفه الوصولية في مدينة تفسخت مثل جثة يحاول فيها الآباء أن يصلحوا ما تخرب فيها من علاقات (مسرحية ورد جهنمي) وتارة أخرى يتمعن بالبنية لعائلة متوسطة وهي تتقوض بين أركان زوج عقيم، وزوجة توقع سائقها ببراثنها ثم تلفظه بضراوة (فوانيس) ويكتب نصاً آخر يجسم فيه خرافة متداولة، تجرجر العالم إلى بيت من الأشباح (طنطل) ويبحث في نص مختلف عن علاج لإبنة ملك، يتآمر التاجر عليه، فيأتون برجل من العامة يتلاعبون به مثل (بيدق) شطرنج، فيثور مع أمثاله على جلاديه بعد أن أدرك المؤامرة (قرندل) ويعيش الكاتب أجواء عمال خمسة يصارعون الأرض لاستخراج مكنوناتها وما تزخر به من كنوز يخطفها طفيليون يصادرون جهودهم مثل (بقرة حلوب) أو حين تشتبك على الأرض مصالح بريئة مع أخرى مخادعة (الكورة) ويرفض الكاتب أيضاً هيمنة عقول مقبرية فيكتب"مدينة تحت الجذر التكعيبي"ويستعير من (برتولد برخت) الاستثناء والقاعدة فيكتب"ما معقولة"ويحاول جانباً مهما للأطفال مثل"القنطرة"و"المزمار السحري»و"زينب والنمل"ويحاول إخراج"شرك الموت"وهو طالب في المعهد ليؤكد على حبكتها البوليسية وتوفرها على التشويق وفي نضجه يخرج"سكان المستنقعات».
حيث تلبث الخرافة فاغرة أشداقها مثل ثعبان ضخم لتلتهم ضحاياها من الزنوج وهم يقاتلون موروثاً من الاستلاب الفكري والمادي في عوالم مهومة بالفانتازيا في إفريقيا الكاتب الحائز على جائزة نوبل (ول سوينكا) حرص الكاتب طه سالم على موروثه الشعبي فأفاد من: الخرافة والحكاية الشعبية والقصص الواقعية والأمثال والأغاني والرقصات وجدها"مادة"تصلح للكتابة، بما يضفيه من قيم تقدمية ومن معالجات مسرح اللا معقول الذي جاء ينعى على المسرح عقلانيته وانضباطه وتماسك تكويناته البنيوية، وإن اختلطت نصوصه وماجت بمنهجيات: يونسكو، بيراندللو، برخت من الزمن المعاصر، أو من زمن أبعد مثل خرافات القرون الوسطى، ومخلوقات شكسبيرية خارقة إن الكاتب الحقيقي لا يغفل جنون الشارع. يرفض أبطال طه سالم الايجابيون واقعهم الطبقي الذي يراه الكاتب واقعاً ظلامياً ضارياً يسلب كرامة الإنسان العادي أمثال: البطل الشعبي (حسن) في قرندل حين يتحرر مع الخادمة (بدرية) أو البطل (طلبة) في طنطل حين يفضح بروحه المقدامة خرافة الأشباح أو الأبطال العمال الخمسة الذين لا يرضون أن تبدد الثروة وتنهب على يد زمر انسلخت طبقياً لتخدم المتسلط المستغل في (البقرة الحلوب) أو التي أرادت أن تضع ملكيتها على الإنسان وعلى وسائل الإنتاج معاً (الكورة) أو ثورة الأب على تداعي مجتمعه في (ورد جهنمي).
الكاتب يمزج اللامعقول مع فكاهة مرة وجادة قال عنها بول فاليري مرة:"يعتقد الحمقى أن الفكاهة ليست من الجد في شيء"كما جاء مكتوباً في مطوية العرض المسرحية (ورد جهنمي) إذ وجد فيها المخرج خالد سعيد خلاصاً من (واقعية) لم تعد تواكب الحياة كما يزعم. تنعكس على سلوكيات إبطاله: التجريد، النمطية، الكاريكاتورية، تفكك الحوارات لكنها في الحالات جميعها تفتك بالسحر والشعوذة رصدت العقلية النقدية في نصوص طه سالم أبعاداً شمولية كالتي عثر عليها الناقد (خضير عبد الأمير) في (طنطل) حين تداعت خواطره عن حوادث كافكوية، وشخصيات مثل فاوست الذي يبيع جسده للشيطان من اجل امتلاك المعرفة وكذلك على ساحرات مكبث. أما إخراجياً، فوجد في تقديم محسن العزاوي تأثيراً في المسرح الأسود الجيكي، ونضيف نحن أن العزاوي أفاد –أيضاً- من المسرح الاشتراكي بمنطلقاته الجمالية التجريبية ومن المسرح الغنائي كذلك. ويرصد الناقد (حميد رشيد) من زاوية أخرى أن البطل (طلبة) يمثل شخصية هاملت العالمية بروح محلية (بغدادية) ويخاطبه بمثل ما فعل (أناتول فرانس)"أنت هو نحن إنسان وسط الشر الشامل"في إطار إخراجي بأسلوب تجريدي ينصهر فيه الإنسان المحلي ويتركب مع العالمي في زمن تخشبت فيه الأنفس مثل جذوع أو أعجاز نخل خاوية فتتفيقه وتتنطع بلغو سفسطائي تافه دماء الأبرياء باسم شعارات إنسانية زائفة لفظية»لا وجود حقيقي لها على الأرض». وحين ينتقد (سامي عبد الحميد) الطليعية فإنه يجدها عند طه سالم الذي بات لديه النص لا يمثل نفسه، إنما يمثل وجود الإنسان ومصيره في العالم بلغة طقسية تكشف عن جوهر موضوعها وتعمم زمانها ومكانها نصوص تتنزل حواراتها إلى رتبة ثانوية تختلط فيها الأجناس الدرامية وأنواعها أراد أن يكشف عن مرحلة ويعريها وانصب جهده في (قرندل) من اجل خلق مسرح عراقي متميز كما يقول. وابتغى محسن العزاوي تحقيق رسالة تنويرية والتنديد بمناطق الخداع والغش في المجتمع، ووجد الفنان يوسف العاني في (طنطل) أنموذجاً للمسرح الطليعي الآتي. وكان المخرج البارع إبراهيم جلال، قد اسند دور فتاة لطه سالم في مسرحية (عنترة) حين كان فتياً، ولما استوى عوده في الكتابة ونضج اخرج له مسرحية (فوانيس) بجمالية رشيقة ورؤية إخراجية وأطروحات فكرية متقدمة، ليقدمها عام 1967 في الكويت، ثم في بغداد، لفرقة المسرح الفني الحديث.
مازال طه سالم في عمره الثمانين المديد يشكو من غمط حقوق روّاد كبار وهو منهم وتختزن ذاكرته بالأسماء الرصينة التي غيبتها النرجسية، وغباء المنافسة غير الشرعية والعملقة الفحولية الزائفة وما انفك يجتمع مع حلقة أثيرة من الأصدقاء المبدعين مثل الفنان الفذ عبد الوهاب الدايني، والمبدع فاضل قزاز، والنبيل خالد سعيد، والكاتب الكبير عادل كاظم، والديكورست جابر العزاوي، والمخرج التجريبي محسن العزاوي، والممثل الأديب عزيز عبد الصاحب، وأحياناً الكاتب القدير محيي الدين زنكنة...يتقلص هذا الرهط ويتمدد تبعاً لمتغيرات مجتمعنا المأساوية.