26 نيسان 1869..مدحت باشا في بغداد

Sunday 22nd of April 2018 06:02:51 PM ,

ذاكرة عراقية ,

إعداد : ذاكرة عراقية
في السادس والعشرين من نيسان 1869 وصل الى بغداد واليها الجديد مدحت باشا خلفاً للوالي نامق باشا (الكبير) إذ عيّن في شباط عام 1869م، مدحت باشا والياً على ولاية بغداد ووصل إلى بغداد يوم 20 محرم من عام 1286هـ الموافق 26 نيسان عام 1869م، فقد شهدت ولاية بغداد أبان وجود مدحت باشا فيها تقدماً كبيراً في المجالات كافة.

لم تحقق الاصلاحات الادارية العثمانية في ولاية بغداد أيّ نجاح حقيقي إلاّ في ولاية مدحت باشا بين 1869 - 1872، التي تعتبر نقطة تحول مهمة في تاريخ العراق الحديث نظراً لإنجازاته العديدة خلال فترة ولايته القصيرة جداً.

ولد مدحت باشا عام 1822 في الاستانة وكان والده قاضياً. تعلّم التركية والعربية والفارسية ومبادئ العلوم الحديثة وأصبح موظفاً في العاصمة. وبعد أن تدرج في الوظائف نقل الى ولاية دمشق ومنها الى قونية، حيث برز اسمه كموظف اداري قدير في شؤون الولايات الاوروبية.وعندما حصل عام 1861 على لقب"باشا"استدعاه فؤاد باشا ليشارك في وضع بنود نظام الولايات. ثم تولّى ادارة ولاية"الطونة"وبدأ بتطبيق نظام الولايات الجديد فيها، الذي نجح فيه نجاحاً باهراً مما شجّع الصدر الأعظم على تطبيقه في بعض الولايات مع ادخال بعض التعديلات عليه، واسناد رئاسة مجلس الدولة اليه.وعند مجيء عادل باشا خلفاً للصدر الأعظم، قدّم مدحت باشا استقالته، بسبب خلافات حادة نشبت بينهما، فقبلت استقالته وصار والياً على بغداد. وفي طريقه الى بغداد اصطحب معه عدداً من الاداريين الاكفاء لإدارة شؤون الولاية وتطبيق نظام الولايات الجديد فيها.
ولم يكن مدحت باشا والياً عادياً شأن الولاة الاتراك الذين حكموا العراق. ففي فترة حكمه القصيرة في العراق (ثلاث سنوات) انجز مدحت باشا اصلاحات جذرية، شكّلت نقطة تحول ليست بسيطة في تاريخ العراق الحديث وأرست أساساً متيناً لما حدث من تحولات بنيوية. ومن الممكن القول، إن مدحت باشا استطاع تغيير تاريخ العراق بإصلاحات ادارية واجتماعية وثقافية ادخلت العراق في تيار المدنية الحديثة.
ومع محدودية ثقافة مدحت باشا وانبهاره بمظاهر المدنية الاوروبية، إلا أن خبرته وثقته الكبيرة بنفسه وطموحه اللا محدود وشغفه بالتحديث دفعه الى تقليد عناصر المدنية الحديثة واقتباس ملامحها، في زمن كان العراق يرزح تحت وطأة ركود اقتصادي وتخلف اجتماعي وثقافي منذ تفكك الدولة العربية ـ الاسلامية وانهيار الحضارة في بغداد على يد الرعاة السلاجقة ومن بعدهم غزاة المغول.
وصل مدحت باشا الى بغداد في 30 نيسان 1869. وفي خطابه الأول في دار الحكومة في بغداد (القشلة) حدّث الناس على العمل المتواصل في سبيل تطوير الزراعة والتجارة والصناعة واشار الى الخراب الذي حلّ بالعراق بعد مجدها التليد ووضع اللوم على العراقيين الذين قصروا في بلوغ التقدم مثل الأمم الراقية، وأكد على ضرورة انقياد الرعية والتسليم للحكومة من اجل اعادته الى مكانته السابقة، كما أشار الى أن العراقيين عرفوا بعدم الطاعة للسلطان وعدم خضوعهم للسلطة وتمردهم على الحكومات، قصد بذلك العشائر العراقية التي لا تدين بالولاء لأية حكومة كانت. وحارب مدحت باشا الرشى وحاسب الموظفين الكبار. وبعد أربعة أشهر، اعلن التجنيد الإجباري واخضع العشائر لسلطته. كما فتح المدارس الرسمية. ونشأت في عهده أيضاً مدرسة الصنايع والرشدية الملكية والرشدية العسكرية الى جانب اول مستشفى حديث وأول شركة ترامواي ربطت بين بغداد والكاظمية، ومعامل حديثة لإصلاح البواخر وصنع الطحين والمشروبات الغازية وغيرها.
كان يتمتع الوالي مدحت باشا بالصدق والاخلاص والامانة في أداء أعماله، وكذلك امتاز في القدرات الإدارية المتميزة والمواهب الشخصية المتعددة. فقد كان عهد ولاية مدحت باشا لبغداد هي نقطة تحول في تاريخ الدولة العثمانية (ووصف مدحت باشا بأنه أعظم والي عثماني أرسل إلى بغداد).
وشرع مدحت باشا في إدخال الإصلاحات في ولاية بغداد منذ أول يوم لوجوده، فأوّل عمل له قام بتطبيق نظام الولايات الصادرة سنة 1864م، حيث قسم الولاية إلى سناجق والسناجق إلى أقضية والأقضية إلى نواحٍ وفق نظام الولايات، وقد استمر هذا التقسيم إلى نهاية العهد العثماني.
وقام الوالي مدحت باشا بتعيين موظفين إداريين على رأس كل وحدة من تلك الوحدات الإدارية، وانشأ العديد من الإدارات الحكومية وشيّد أبنية لعدد من دوائر الدولة.
أهم الدوائر الحكومية التي قام بإنشائها الوالي مدحت باشا هي :
1ـ دائرة الطابو أو (الدفتر الخاقاني) التسجيل العقاري حالياً.
2ـ دائرة نفوس (الأحوال المدنية) حالياً.
3ـ دائرة النافعة (الأشغال العامة) حالياً.
4ـ دوائر البلدية في مدن الولاية.
5ـ تشكيل مجلس المعارف.
6ـ تنظيم دوائر الإدارة النهرية التي كانت تعرف بـ (إدارة عمان ـ العثماني).
7ـ تنظيم محاكم الولاية وإعادة تنظيم أعمال مجلس إدارة الولاية، مؤكداً على أعضائه ضرورة قيامهم بأعمالهم وفق ما تمليه عليهم مصلحة الولاية العليا دون خوف أو مجاملة.
8ـ إنشاء مجالس إدارة في الوحدات الإدارية وفق ترتيب الذي نص عليه نظام الولايات لسنة 1864م والمجالس الولاية والإدارة ماهو معمول اليوم بنظام (مجالس المحافظات) و (مجالس البلدي للأقضية والنواحي).
واهتم مدحت باشا بتأمين طرق المواصلات الداخلية والخارجية البرية منها والنهرية، وعمل على توطين العشائر بتمليكها الأراضي الزراعية من خلال تطبيق قانون الأراضي ونظام الطابو الصادر سنة 1858م.
أهم أعمال الوالي مدحت باشا خلال فترة ولايته مدينة بغداد هي :
1ـ إصلاح الجهاز الإداري ومؤسساته.
2ـ إصلاح النظام المالي والإدارة المالية للولاية وإلغاء بعض الرسوم والضرائب المحلية مثل رسوم (الاحتساب) وهي رسوم متنوعة منها الرسوم التي تؤخذ عند أبواب المدن على المنتجات التي تدخلها لتباع في أسواقها.
وضريبة (الطالبية) وهي ضريبة تفرض على المواكب التي تعمل في النهار.
وضريبة (خمس الحطب) وهي ضريبة تفرض على الوقود مثل الأخشاب والفحم ومقدارها 20% من القيمة.
وضريبة (روس البقر) وهي ضريبة تفرض على الأراضي الزراعية وتسمى بـ (النواعير). وكذلك إعفاء بذور قصب السكر الواردة إلى الولاية من الرسم الجمركي بغرض تشجيع زراعة وإنتاج السكر.
3ـ تقوية الجيش وتنظيمه وتطبيق الخدمة الإلزامية لأول مرّة في العراق.
4ـ الاهتمام بطرق المواصلات ووسائطها وفتح عدد من الطرق البرية ونظم أعمال البواخر الحكومية التي عرفت بـ (الإدارة النهرية) وتطهير نهري دجلة والفرات.
5ـ انشأ المدارس الحديثة مثل المدرسة الرشيدية المدنية والمدرسة الرشيدية العسكرية ومدرسة الصنائع وفتح جميع هذه المدارس في مدينة بغداد. والمدارس الرسمية لم تؤسس إلا في عهد الوالي مدحت باشا.
6ـ تأسيس أول مطبعة آلية في بغداد وإصدار أول صحيفة باسم (زوراء).
7ـ بناء مستشفى عام في الجانب الغربي من بغداد (جانب الكرخ) عن طريق جمع التبرعات من الأهالي، وسمّي المستشفى بـ (مستشفى الغرباء) وهيأ له الأطباء والمستلزمات الطبية اللازمة.
8ـ إقامة مصنع للنسيج لإنتاج الملابس والبطانيات للجنود.
9ـ ربط مدينة بغداد بضاحيتها مثل قضاء الكاظمية بواسطة خط (الترام) الذي كانت تجره الخيول.
10ـ إنشاء صندوق (الأمنية) وهو مؤسسة مصرفية حكومية تقبل الودائع المالية وتمنح أصحابها فوائد محددة وتقوم بإقراض المزارعين وغيرهم بفائدة معينة أيضاً.
11ـ العناية بمدينة بغداد وبعض مدن الولاية الأخرى، وقام بتبليط بعض الشوارع وأضيئ بعض شوارعها وفتح حديقة عامة عرفت بـ (الحديقة الوطنية) أي (ملت باغجه سي).
وفي 13 مايس/ أيار من عام 1872م، قدّم الوالي مدحت باشا استقالته للصدر الأعظم (محمود نديم باشا) فقُبلت على الفور استقالته وغادر بغداد عائداً إلى اسطنبول.