عدسة الحقيقة..العراق كما لم تشاهدهُ مِنْ قبل

Wednesday 16th of May 2018 06:43:00 PM ,

عراقيون ,

لا تكتفي الصورة الفوتوغرافية بلمسة الجمال والدهشة التي تتركها أمام العين، إنها شاهدٌ حي لا يقبل التأويل، تماماً كما فعلت عدسة الفنان العراقي الرائد لطيف العاني وهي تستعيد شهادتها الحيّة من زمن متسق مع مكونات المجتمع آنذاك، عبر حزمة فوتوغرافية تجعل من" الأسود والأبيض" شاهداً على حضارة العراقيين المنفتحة، قبل أن يشوهها تطفّل السياسيين المراهقين الخارجين من زوايا" المساجد المظلمة" والمسكونين بالتاريخ الغامض والقادم من القرون الميتة!

العدسة في أعمال الفنان لطيف العاني في معرضه المتواصل بلندن إلى غاية السادس عشر من ديسمبر – كانون الأول، سبق وأن جُمِعت الصور التي التقطتها هذه العدسة في مجلّد صدر مؤخراً عن دار الأديب- شاهد إدانة على الزمن السياسي في العراق اليوم.
لنا أن نتصور ما الذي يحدث عندما تلتقط عدسة مصور معاصر ما يشبه الصورة التي التقطها العاني عام 1960 وتوسطت المجلد، طالبات من مدرسة الراهبات في بغداد وهن يمارسن التمارين الرياضية في ساحة المدرسة، حيث ارتدين" تنانير" بيض قصيرة وقمصاناً بنصف كم؟
هل بمقدور فوتوغرافي اليوم فعل ذلك حيال سياسة التحجيب والتكميم التي أعادت المرأة العراقية إلى الزوايا المظلمة؟ ثم من أين للمشهد أن يعاد اليوم؟
هذه الصورة تكاد تكون الشاهد على" عراقية" البلاد المتسقة مع ذاتها؛ فبحرّية وتلقائية ودون اكتراث لحركة العدسة تمارس مجموعة من الفتيات تمارين رياضية في ثانوية الراهبات (مبنى ثانوية العقيدة حالياً) في صف طويل وناصع، بينما وقفت المدرسات يتأملن المشهد الذي لا يحمل إلا مواصفات الزمن الناصع.
يقف سائحان أميركيان بجوار المعلم الأثري في المدائن (مبنى قديم بني في القرن الثالث، وأكبر مبنى من الطوب قائم بذاته في العالم) وهما يرتديان الملابس الفخمة المطعمة بالاكسسوارات، ينظران إلى عازف ربابة مسن، يرتدي الشال ويجلس على الرمال.
عام 1965 التقط هذه الصورة المصور لطيف العاني أبو التصوير الفوتوغرافي في العراق في ذلك الوقت.
هذه الصورة تُظهر التباين الشديد بين القدامة والحداثة، وتسلط الضوء على الثقافة الغنية والتاريخ العراقي، وهي من ضمن 50 صورة فنية بعدسة العاني معروضة الآن في معرض كونينغزبي في لندن.
تكشف محتوى الصور الوثائقية للمصور العراقي العاني عن" العصر الذهبي" للعراق، عصر ما بين الثورة المعادية للاستعمار في الخمسينات من القرن الماضي، وصعود نظام صدام حسين في أواخر السبعينات. كان عراقاً لا يعرف العنف والحرب والدمار، بل على العكس من ذلك يظهر العاني لنا من خلال صوره رؤى السلام والازدهار والتفاؤل بعراق يقول عنه" بلد متحضر معاصر».
بدأ العاني حياته المهنية في عام 1950، عندما تم تعيينه مصوراً من قبل شركة نفط العراق.
وأثناء عمله في الشركة شارك في عدد من الرحلات في جميع أنحاء العراق والشرق الأوسط، موثّقاً صناعة العراق المزدهرة والزراعة ومبادئ الليبرالية الاجتماعية.
وفي عام 1960، انتقل إلى وزارة المعلومات والإرشاد، حيث أسّس فيها قسم التصوير الفوتوغرافي، وبدأ يسافر لحضور المعارض الدولية، قبل أن ينتقل إلى وكالة الأنباء العراقية ليعمل فيها رئيساً لقسم التصوير الفوتوغرافي.
ولم تحظ أعماله بالشهرة إلاّ في عام 2015 عندما تم اختياره لتمثيل العراق في بينالي البندقية في الدورة الـ 56، في معرض بعنوان" الجمال غير المرئي" . وقد نشرت دراسة عن عمله في وقت سابق من هذا العام.
عكست صور العاني الجميلة مدى تأثره بالعمارة والآثار وعلاقتها بما هو جديد ومستحدث، فالعديد من صوره تبنّت فن التجريد الحديث، مع الحفاظ على الحنين إلى تراث الماضي.
وفي صورة" الرأس المسروق الذي لم يتم استرجاعه" عام 1970، يظهر تمثال عتيق بشكل مهيب من الإطار الصوري الذي التقطه العاني.
وفي مسجد الحيدر خانة 1961، تبيّن الصورة قبة المسجد المزخرفة، وداخله رجال يتجولون لتأدية الصلاة، فيما مواقف السيارات خارجاً، والإضاءة الكهربائية تملأ المكان.
يفخر العاني بالعراق، ويريد تثقيف الناس بشأن تاريخ هذا البلد الغني والرائع.
يقول العاني" افتخر بثقافة ومعالم السومريين والبابليين، وصولاً إلى العباسيين. إن للعراق تاريخاً رائعاً».
في كل ما التقطته عدسة لطيف العاني ليس ثمة أبرع من وجوه العراقيات نسوةً كنَّ أم شابات، يا الله على تلك المرأة العاملة في مصنع تعليب التمور، لم تتخل عن فوطتها وهي ترتدي بدلة العمل البيضاء، والأخرى في معمل الغزل عام 1961 بأناملها الرقيقة.
أما صورة الدارسات في مختبر جامعي وهن يفحصن شريحة بالمجهر، فتعبّر بدقة عن خصوصية المرأة قبل أن تكبّلها" الفتاوى" المظلمة، في مقابل ذلك حملت تلميذة آلة" الاركيديون" في درس الموسيقى، ووقفت أمام سبورة سوداء ثبّت عليها بالطباشير عنوان" النشيد والموسيقى تمرين.." .
هذه الصورة إدانة أخرى للزمن العراقي اليوم، فلا دروس للموسيقى في مدارس اليوم!
وفي صورة" بناء سد دربندخان" عام 1962، كانت هناك أسطوانة حديدية عملاقة يجلس بداخلها لحّام يرتدي خوذة واقية. تنعكس دوائر هذه الأسطوانة بصورة مركزة لتشكّل تحفة بصرية رائعة.
وتنعكس هذه الدوائر المركزة أيضاً في صورة" ثانوية العقيدة" ببغداد عام 1961، وهي تُصوّر صفاً من الفتيات وهن يرتدين التنانير القصيرة ويكشفن شعورهن ويبتسمن في شمس النهار الساطعة.
يقول العاني" الأناقة والجمال هما من ضمن المبادئ الأساسية في التقاط الصور، من أجل جذب المشاهد».
وكان العاني أول من قام بتصوير العراق جواً، عارضاً المساجد والجسور والطرق السريعة والأنهار والعجائب الأثرية التي تحتفي بثراء المناظر الطبيعية.
قام بتصوير بعض المواقع الأثرية مثل مسجد ميرجان ببغداد عام 1962، والحضرة الكاظمية ببغداد عام 1961.
وأضاف العاني" أوليت الآثار العراقية التي لم يتم تصويرها جواً -على الرغم من أهميتها بالنسبة إلى المواقع التاريخية والأثرية- اهتماماً خاصاً».
يقول العاني الذي يبلغ من العمر 85 عاماً ويعيش في بغداد" الخوف الذي أصابني هو ما نعيشه اليوم، هذا الخوف يقوم بحذف الماضي.. شعرت بعدم وجود الاستقرار، والخوف كان الدافع الرئيس لتوثيق كل ما كان، لقد فعلت كل ما بوسعي لتوثيق وحماية الآثار في ذلك الوقت».
تحكي هذه الصور قصة العراق الذي كان في الماضي، والذي يشتاق إليه العاني في حديثه عنه بقلب مكسور، ولكن عرض صوره مرة أخرى للعلن يجلب الأمل في نهاية المطاف.
يقول العاني" عندما يغادر شخص المعرض سيعرف أن العراق كان بلداً حضارياً. وبإرادة الله، سيعود كذلك مرة أخرى».
تجربة العاني المولود في كربلاء عام 1932 تكاد تكون مرت على المكان الظاهر أمام العين والمختفي عنها، إنه معني بالمكان إلى درجة أن الزمان يصبح هامشاً له، كما أنه معني في هذا التوثيق الفوتوغرافي بجغرافيا التاريخ، وليس بالتاريخ كأحداث.

عن صحيفة العرب