مِنْ تراث عبد الكريم العلّاف..العلاف يؤرخ لمدينته بغداد

Wednesday 23rd of May 2018 06:11:08 PM ,

عراقيون ,

إعداد : عراقيون
كتب الأستاذ مجيد الدليمي: بعد أن حكم العثمانيون بغداد، قرابة 400 سنة حتى يوم احتلالها من قبل الانكليز يوم 11 آذار من عام 1917، مر أهل بغداد خلال تلك الفترات العصيبة بأحداث ومآسٍ ومعاناة، سجل تفاصيلها المؤرخون والأدباء وكتّاب التراث، وبهذا الصدد حدثنا الباحث الفلكلوري والناقد والشاعر الغنائي والمؤرخ، الموثّق للحياة البغدادية من جميع نواحيها ضمن الفترة من أواخر العهد العثماني حتى وفاته عام 1969،

الأستاذ عبد الكريم العلاف في كتابه الموسوم (بغداد القديمة) عن اوضاع بلادنا في جيل مضى، كيف كانت حياة الناس المعيشية والاجتماعية والسياسية في ظل الحكومات العثمانية والانكليزية؟ حيث يصف الأستاذ العلاف، أغلب الشعب بأنهم كانوا طيلة فترة الحكم العثماني كالبقرة يستدر لبنها ويُؤكل لحمها لا إرادة لها في شؤون السياسة ولاسلطان لهم في حكم أنفسهم ولا يرتفع لهم صوت إلاّ في النادر، وكل من يدعو الى الاصلاح والتحرر، فإن مصيره يكون السجن والنفي.

ونشير هنا الى أن الأستاذ عبد الكريم العلاف كان حيّاً يرزق وشاهد عيان على اوضاع بغداد ليلة سقوطها بيد الانكليز عام 1917 حيث يقول: هكذا شاءت إرادة الله أن تذهب بغداد (دار السلام) عاصمة العباسيين ضياعاً ويحتلها الأعداء عنوةً، فأمرت الحكومة العثمانية بنقل ما لديها من سجلات مهمة ونقود الى مدينة سامراء.
وفي يوم 17 جمادى الأولى سنة 1335هـ يقابلها سنة 1917م صدر الأمر للموظفين بالنزوح عن بغداد، وكنت أنا من النازحين مع الجنود (الخستة خانة) المستشفى وعندما وصلنا الى سامراء وشاهدت تلك المدينة الصغيرة وهي تموج بالموظفين العسكريين والملكيين والجنود، أيقنت أن بغداد قد ضاعت من أيدي العثمانيين وبقيت في المستشفى والجرحى والمرضى ينهالون علينا وغصت المستشفى بهم وكثرت الوفيات منهم ولعدم وجود كفن (خام) لتكفينهم كنا ندفنهم بملابسهم الملطخة بالدماء"رحمهم الله تعالى وأسكنهم فسيح جناته مع الشهداء الأبرار».
ويواصل عبد الكريم العلاف حديثه قائلاً: بأنه في يوم الأحد المصادف 17 جمادى الاولى سنة 1335هـ يقابلها 11 آذار عام 1917م فوجئنا بخبر سقوط بغداد على أيدي الجيوش الانكليزية، فوقع وقوع الصاعقة علينا وبعد ساعات ظهرت طائرات في سماء سامراء ورمت القنابل على محطة القطار، ومن فزعنا لذنا بضريحي الإمامين العسكريبن علي الهادي والحسن العسكري"عليهما السلام»، وذهبت انا ولذت (بغيبة) الإمام المهدي"عليه السلام"ووقفت وقلت والدموع تذرف من عينيّ:

فقم لها يا امام المسلمين فقد
آن الأوان وخذ في كفك العلما
واصرخ على الشرك واعلن الجهاد وقل
وأحمداه ترى الغبراء تفيض دما.
وبعد احتلال بغداد اخذت الجيوش العثمانية تنسحب من مدينة سامراء ووجهتها مدينة الموصل غير ملتفة الى جنودها ابناء العرب فصارت لاتعبأ بهم وصاروا يفرّون من ساحة القتال ومن مدينة سامراء، أما أنا فلم يطب لي الالتحاق بهم وفضّلت العودة الى بغداد ودخلتها يوم 16 أذار سنة 1917م ولما شاهدت وضع الاحتلال فيها قلت: ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً. انتهى حديث المؤرخ والأديب الكبير عبد الكريم العلاف! وبودنا أن نقول هنا، إن بغداد ستبقى برغم مامرت به من فترات الاحتلالات المظلمة الصعبة، عامرة وعصية على الاعداء وشامخة بتاريخها المجيد وشعبها الصابر الأصيل، خرجت بغداد الحبيبة من كل محن الاحتلالات الغاشمة التي أرادت النيل منها، كما يخرج الطائر العنقاء من الرماد... وسيبقى العراقيون والعرب يتغنون باسمها وبتاريخها وبرجالها الوطنيين الأبطال كما تتغنّى السيدة كوكب الشرق أم كلثوم بأغنيتها الشهيرة (بغداد يا قلعة الأسود يا كعبة المجد والخلود).
وفاة أم العلاف
نشرت صحيفة الزمان في عدد يوم الثلاثاء 6/ أيار/ 1945 نبأ وفاة المرحومة أم عبد الكريم العلاف، فراح يتلقى المراثي من اصدقائه الشعراء، حيث كان لوفاتها أثر حزين في نفسه، فظل يذكرها الى آخر أيامه رحمها الله. بعد سنة من وفاة والدته تزوج من سيدة فاضلة من أهالي (طويريج) اشتهرت بـ (العلوية) وقد عاشت معه حيث سكن في محلة (عزات طوالات) وفي محلة (العزة) من وراء دار الشيخ عبد الكريم القادر يحيي الدين الشيخ قمر، وبعد وفاته عادت الى أهلها. وقد هنأه بهذا الزواج صديقه الشاعر عبد الرحمن البناء كما نصّت ذلك جريدة الزمان في عدد يوم ٥ ٢ / أيار 1946، ولكن الشاعر حُرم من ذرية البنين والبنات، وسرى الشلل الى إحدى يديه فراح يكتب بالأخرى وكان يأمل في أن تقوم احدى دور النشر بطبع مخطوطاته وهي كثيرة اهدى بعضها الى قريبه الوجيه المعروف المرحوم (عبد الجبار مهدي صالح العزاوي) وقد رأيتها في مكتبته.

العلاف والملا منفي
عبد الكريم العلاف شاعر بغدادي معروف كانت له علاقة بمغنيات بغداد منذ أواخر العشرينات من القرن الماضي.. وكان ينظم لهن الأغاني وما كان يسمّى بـ"البستات"التي يلحنها بعض من عازفي الأجواق الموسيقية.. يقول الأستاذ فاضل مهدي في مقالة نشرها في جريدة الاتحاد (البغدادية)، وفي العدد الصادر في (18 كانون الأول 1988) إن شاعرية العلاف لم تكن من النسق العالي المتين. وصادف أن نافسه شاعر من أهل الكفل جاء بغداد وأسمه (الملا منفي الشيخ عبد العباس) وكان شاعراً جنوبياً فذاً.. وكثيراً ما أتهم العلاف بأنه يسرق أفكاره حتى أنه ألف كراساً بعنوان :"الفراتيات"ضمنه بعض ما أخذه العلاف من شعره ونسبه لنفسه ونشر قصيدة في الكراس يهجو بها العلاف، فما كان من العلاف، إلاً أن أقام دعوى قذف ضد الشاعر الملا منفي لعلّه ينسحب من ميدان المنافسة... حكايات من الزمن الماضي ما أعذبها.

مع الرصافي وحبزبوز
بينما كان الصحافي والناقد الساخر نوري ثابت (حبزبوز) صاحب الجريدة اللاذعة الموسومة بـ (حبزبوز)
يسير برفقة صديقه الحميم الشاعر المعروف والمغمور بنفس الوقت عبد الكريم العلاف في زقاق محلة (الحيدر خانة) وكما هو معروف عن غالبية تلك المحلات بأزقتها الحلزونية ودرابينها الضيقة، فإذا بهما يصادفان أمامهما مجموعة من (الحمير) تسير بعكس اتجاه سيرهما ولما كان الشاعر العلاف يسير ببطء بعكازه متقدماً صديقه نوري ثابت فقد تجاوز بسلام الاصطدام والاحتكاك بتلك الحمير بينما أصابت (حبزبوز) بـ(دعجة) قوية عندها لم يستطع الأخير السكوت على هذه (الدعجة) من دون إن يشملها بإحدى تعليقاته اللاذعة لذلك قال لصديقه العلاف وكان في تلك الحقبة يعمل (أي العلاف) ببيع التبن والعلف في محلة خام لاوند:
(مولانة.... هسه أفتهمنه الزمايل تعرفك أتبيع أشعير وتبن أو مدعجتك هسه مواني صديقك أو جان ألخاطرك ما دعجني) وخلال حديثهما هذا كانا قد وصلا مقهى (حسن عجمي) حيث كان يجلس فيها الشاعر الكبير معروف الرصافي، فما إن سمع ما حدث لهما مع تلك (الحمير) حتى قال موجهاً كلامه إلى (حبزبوز) :
(شوف أبو ثابت أنت لازم تفتح (دورة لتدريس الحمير) طريقة السير بالشارع ابنزاكة حتى تتخلص من الدعجات).
فضحك الجميع لهذا التعليق.