الصراع من أجل الديمقراطية في العراق.. من محاكمات الصحافة الوطنية في الأربعينيات

Sunday 10th of June 2018 06:03:50 PM ,

ذاكرة عراقية ,

وسام هادي التميمي
الجادرجي أمام القضاء

أقامت وزارة أرشد العمري ثلاث دعاوى على كامل الجادرجي صاحب صحيفة صوت الأهالي، ومديرها المسؤول، لنشرها ثلاث مقالات؛ الأول بعنوان (الغاية الخفية وراء خطة الحكومة الحاضرة) في (10 تموز 1946)، ومقالاً في حقل بريد الأهالي، بعنوان: (إطلاق الرصاص على المتظاهرين)، في (18 تموز 1946) والمقال الثالث بعنوان (الحادث المؤسف في كركوك ـ بيان الحكومة يكشف عن أعمالها الاعتدائية)، في (25 تموز 1946)،

وقد زعمت الحكومة أن هذه المقالات تدعو إلى تشويش الرأي العام واستفزازه ضد الحكومة، وإضعافها لغايات غير حسنة وإثارة الكراهية بين الطوائف، وتحريض الشعب على التمرد والعصيان، وتحريضهم على عدم الالتزام بالقوانين.
بدأت محاكمة كامل الجادرجي بتاريخ (11 آب 1946)، في محكمة جزاء بغداد الأولى التي ترأسها القاضي خليل أمين، وأصدرت المحكمة حكمها في الجلسة الثانية في (13 آب 1946)، بحبس كامل الجادرجي لمدة ستة أشهر، على وفق المادة السادسة من الباب الثاني من (ق.ع.ب)، كما قررت تعطيل صحيفة"صوت الأهالي"بصورة دائمية على وفق المادة العاشرة من قانون المطبوعات (وقررت أيضاً وضع الجادرجي تحت مراقبة الشرطة لمدة سنة بعد انتهاء محكوميته).
كانت محاكمة كامل الجادرجي أشبه بمناسبة وطنية، حيث تكفَّل للدفاع عنه ثلاثة وثلاثون محامياً معظمهم من رجال المعارضة، وكان عزيز شريف من ضمنهم، وقسّم وكلاء المتهم دفاعهم على ثلاثة أقسام الأول وموضوعه، (إخلال محكمة الجزاء بحق الدفاع، وبطلان إجراءات المحكمة)، وألقى الدفاع فيه المحامي قاسم حسن، والثاني وموضوعه (الناحية العامة للقضية) وألقى الدفاع فيه المحامي حسين جميل، والثالث وموضوعه (التطبيقات القانونية للقضية)، وألقى الدفاع فيه بالنيابة عن هيئة الدفاع المحامي عزيز شريف (واستهل دفاعه مستبشراً بوجود قضاة متمسكين بسلطتهم القضائية، لأنهم خير ما يحمي الأفراد والجماعات من جور السلطات الإدارية والسياسية، مبيناً دور القضاء العراقي في الدفاع عن القوانين والحريات التي ضمنها الدستور.في ضوء ما تقدم به عزيز شريف، وزملاؤه في هيئة الدفاع، قررت محكمة جزاء بغداد الأولى، تخفيف مدة محكوميته إلى شهرين، وإلغاء مراقبة الشرطة، وتقليص مدة تعطيل الصحيفة لمدة أربعة أشهر.

محاكمة عزيز شريف وتعطيل صحيفة الوطن

أُحيل عزيز شريف إلى القضاء في (25 آب 1946) لكونه المدير المسؤول لصحيفة الوطن، التي نشرت مقالاً في العدد 170 في (30 حزيران 1946) بعنوان: (مظاهرة سلمية تفرقها الشرطة بالنار، فتزهق أرواح بريئة وَيُجرَحُ كثيرون)، وقد رأت وزارة الداخلية، أن هذا المقال علاوة على عنوانه المثير، يوجد فيه عبارات تدلُّ على أنه حرر بقصد إثارة الرأي العام، ونشر الكراهية والبغضاء ضد الحكومة، وتشجيع الشعب على مخالفة القوانين، وقد طالبت وزارة الداخلية محاكمة عزيز شريف على وفق المادة (89 أ) والمادة 6 (و 12) من الباب الثاني عشر) من (ق.ع.ب)، ولكن تم تأجيل القضية إلى (4 أيلول 1946)، وفي يوم (5 أيلول 1946) عطلت صحيفة الوطن لأول مرة مدة عشرين يوماً، وكان آخر مقال كتبته كان بعنوان: (سياسة الوزارة الحاضرة تُمنى بالفشل فعليها أن تنسحب).
بدأت محاكمة عزيز شريف في يوم الأربعاء (4 أيلول 1946)، في محكمة جزاء بغداد الأولى برئاسة القاضي خليل أمين المفتي، وقد تطوع للدفاع عنه خمسة وخمسون محامياً، يمثلـون حـزب الشعـب والأحـزاب الأخرى، علماً أن قضية عزيز شريف ضمّت أكبر عدد من محاميي الدفاع عن إحدى الشخصيات الوطنية، أبان حكم وزارة أرشد العمري القمعية. وكان آخر محامي ألقى دفاعه في قضية عزيز شريف هو ناظم الزهاوي في (7 أيلول 1946)، أشار الى أن النصوص القانونية لا تنطبق على قضية عزيز شريف، ورأى أن القضية لا تتعدى كونها معركة بين الوزارة العمرية وبين الأحزاب، وقد طالب جميع محاميي الدفاع بإلغاء التهم وبراءة موكلهم، وعدم تعطيل صحيفة الوطن.
بعد أن استمعت المحكمة إلى طلب المدعي العام، وإفادة المتهم ودفاعه الذي قدّمه وكلاؤه المحامون، فقد أصدرت المحكمة في (7 أيلول 1946)، حكمها الآتي: الحكم على عزيز شريف بغرامة قدرها ثلاثون ديناراً، وفق المادة (26) من قانون المطبوعات، وعند عدم الدفع، فإنه يحبس لمدة شهر واحد، وتعطيل صحيفة الوطن لمدة عام واحدة، على وفق المادة العاشرة من تعديل قانون المطبوعات لعام 1934.
استأنف عزيز شريف قرار الحكم، مبيناً أن السلطة التنفيذية كثيراً ما تحاول استعمال القوانين الجزائية لشل عمل خصومها مفتخراً بأنه كان أحد أولئك القضاة الذين وقفوا في وجه السلطة التنفيذية، دفاعاً عن حريات الناس وحقوقهم، وبعد ثلاث جلسات أصدرت المحكمة قرارها القاضي، بتصديق التجريم والحكم بالغرامة، وفسخ الفقرة القانونية المتعلقة بتعطيل صحيفة الوطن.

محاكمة قادة حزب الاتحاد الوطني

قدّمت محكمة جزاء بغداد الأولى عدداً من قادة حزب الاتحاد الوطني للمحاكمة منهم ناظم الزهاوي، المدير المسؤول لصحيفة السياسة، لنشره مقالاً بعنوان (مذبحة كاوور باغي)، هاجم فيه وزارة أرشد العمري لضرب الشرطة العمال المضربين بالرصاص، أما موسى الشيخ راضي، وشريف الشيخ، حيث نشرا مقالات هاجما فيها سياسة الحكومة، وكانت التهم الموجهة إليهما أن مقالاتهما تشجع على كراهية الحكومة، بإقامة المحكمة دعوى أخرى على ناظم الزهاوي، وعبد الله مسعود، بسبب نشر الأخير مقالاً في صحيفة السياسة أثار الرأي العام بعنوان:(تحرج الحالة وأسبابها وموقف الأحزاب منها).
بدأت محاكمة هؤلاء المتهمين في (11 آب 1946)، فتكفل للدفاع عنهم تسعة عشر محامياً، يتقدمهم عزيز شريف، واقتصر دفاع عزيز شريف، أولاً على موسى الشيخ راضي، وناظم الزهاوي، متوجهاً بمجموعة من الأسئلة إلى هيئة المحكمة منها: لماذا يقف موسى الشيخ راضي، وناظم الزهاوي، في قفص الاتهام؟ ألأنهما سرقا أموالاً من الناس؟ أم لأنهما ارتشيا؟ أم لأنهما قتلا نفساً بريئة؟ أم اعتديا على أحد؟ فأجاب: بالطبع لا، أما في دفاع عزيز شريف،عن شريف الشيخ، الذي نشر مقالاً تطرق فيه إلى ما قامت به الشرطة في مديرية الميناء في البصرة، واضطهادها لعمال الميناء بعنوان: (اضطهاد نقابة عمال الميناء)، وعن عبد الله مسعود القريني الذي نشر مقالاً عن الثورة العراقية الكبرى عام 1920 بعنوان :(الثورة المنسية)، تساءل عزيز شريف، ما هو القصد الذي يقصد بهما نشر المقالين المذكورين، فمقال شريف الشيخ كان بهدف الدفاع عن نقابـة العمال والتنديد بما قامت به الشرطة في هذه النقابة؛ أما مقال عبد الله مسعود القريني، فكان هدفه التمجيد لرجال ثورة العشرين، الذين كانت دماؤهم وأرواحهم الطاهرة ثمناً لقيام حكم وطني، وختم عزيز شريف دفاعه مطالباً المحكمة بإلغاء التهم وتبرئة موكليه.
في إثر دفاع عزيز شريف، أعادت المحكمة الحكم مرة ثانية، فقررت الإفراج عن ناظم الزهاوي، وعبد الله مسعود، وتخفيف العقوبة على موسى الشيخ راضي، وشريف الشيخ، وتعطيل صحيفة السياسة إلى أربعة أشهر ابتداءً من (21 آب 1946)، علماً أن العقوبة السابقة كانت تقضي بحبس عبد الله مسعود وشريف الشيخ وموسى الشيخ راضي شهرين، وحبس ناظم الزهاوي لمدة شهر واحد، فضلاً عن تعطيل صحيفة السياسة لمدة سنة واحدة.