حسن سريع ابن الفلاح المُعدم الذي دخل التأريخ

Wednesday 4th of July 2018 06:31:24 PM ,

عراقيون ,

نعيم الزهيري
لم يهتم سكان الريف العراقي، عدا العاملين في دوائر الدولة، بتسجيل تاريخ الميلاد، فتراهم يدوّنونها عند الحاجة فقط، في دخول مدرسة، الالتحاق بالجيش أو في التعداد السكاني... أو غيرها من الأمور.

في إحدى القرى البعيدة عن مركز مدينة السماوة، في كوخ من القصب والبردي، كانت الصرخة الأولى تعلن ميلاد طفل جديد في هذا العالم المملوء بالتناقضات والأوهام.. إنه الطفل الثالث لعائلة فلاح مُعدم اسمه سريع من عشيرة بني حجام، حدث ذلك في أوائل عقد اربعينات القرن العشرين.. لقد كانت فرحة العائلة كبيرة جداً. إن سكان الريف وحتى سكان المدن عندنا يفرحون بالابن الذكر أكثر من البنت، وذلك للظروف الاجتماعية والاقتصادية، حيث أن مجتمعنا كان مجتمعاً عشائرياً، وبحاجة للرجال أكثر.
زُفّت البشرى لسريع وهو يعمل في الحقل بين الأدغال والطين فكانت فرحته لا تقل عن فرحة عائلته وأقاربه.
نما حسن كغيره من ابناء الريف المعدمين، ولم يكن متميزاً عن أقرانه من الأطفال، إذ له نفس البشرة السمراء، ونحافة الجسم والأنف الكبير والعينين السوداوين، لكنه نشط كثير الحركة... وعندما تصلب عوده أخذ يذهب الى الحقل مع والده وأخويه، وأحياناً يرعى البقرة أو يجلب لها الحشيش من المزارع المسموح بها.
كانت ظروف الفلاحين وبيئتهم مزرية آنذاك، بسبب عدم الاهتمام بالريف من قبل الدولة، وبسبب العلاقات الاجتماعية الاقتصادية قبل ثورة الرابع عشر من تموز 1958... فالفلاح يعمل بنظام المحاصصة لدى الاقطاعي أو السركال أو مالك الأرض وتكون حصته ربع المحصول؛ وغالباً ما يخرج مديوناً عند جني المحصول، فيخرج صفر اليدين من أتعابه، لأنه مثقل بالديون للمرابي أو لمالك الأرض أو التسليف على الأخضر!!
ومن مزايا النظام الجائر آنذاك هو ربط الفلاح بالأرض، وعدم أحقيته في الانتقال منها الى مكان آخر إلا بموافقة الملّاك وبحصوله على ورقة تسمّى بـ"الخلاصية"وذلك هو نظام القنانة بعينه. النظام الذي جاء وفقاً لقانون (حقوق وواجبات الزراعة) منذ ثلاثينات القرن الماضي (ألغي القانون في ثورة الرابع عشر من تموز 1958، وهذا أحد المكاسب الذي حققته الثورة..).
أما النزاعات التي تحصل بين الأشخاص، فالحاكم والقانون هما الإقطاعي نفسه!!
حدث شجار بين عائلة سريع وبين عائلة أخرى في نفس القرية، قتل فيها أحد ابناء تلك العائــلة (يبدو أن أحد أخوان حسن أو حسن نفسه قد قتل الصبي). اصدر الاقطاعي حكمه بطرد سريع وعائلته وترحيلهم لمدة سبع سنوات!! فرحلوا الى مدينة كربلاء وسكنوا في قصبة عين تمـر (شثاثـة).. وهناك دخل حسن المدرسة الابتدائية وأكمل الصف السادس.. ولعدم قدرة العائلة على تغطية نفقات الدراسة، تطوع حسن في الجيش ودخل المدرسة المهنية لقطع المعادن. ولمهارته وذكائه عيّن بعد التخرج معلماً في نفس المدرسة ورفّع الى رتبة نائب عريف مهني.
كان حسن مغرماً في لعبة كرة المنضدة، وبعيداً عن الانعزال والانغلاق على النفس، محبوباً غير متسرع في الكلام أو إعطاء الرأي...
حسن متوسط القامة نحيف ذو بشرة سمراء لوحتها شمس الجنوب. له عينان صغيرتان سوداوان، لا تفارق الابتسامة شفتيه رغم جديته في الحديث.تزوج حسن من إحدى قريباته وسكن كوخاً في ـ حي الشاكرية ـ في جانب الكرخ ببغداد، ورزقا بطفلة، كان عمرها ستة أشهر لدى استشهاده.
يبدو أن الأحداث التي مرّت بها عائلة حسن في السماوة وشظف العيش وتحكّم الإقطاع بمصير الفلاحين وفقرهم المدقع، حيث لا يحصلون مما ينتجون ما يسد ّ رمقهم بالكاد، هذا من جانب ومن جانب آخر، الانفتاح وما حققته ثورة الرابع عشر من تموز 1958 من مكاسب للشعب العراقي وللفلاحين بوجه الخصوص، برفع سلطة الاقطاع وسن قانون الإصلاح الزراعي.. وغيرها، أثّر ذلك في فكر وتصورات حسن سريع، وذلك كان مهماً جداً في كونه من الأسباب المهمة في مقاومته الانقلابيين...
وقد أثر في حسن أيضاً حكايات الفلاحين من كبار السن عن ثورة العشرين ومقاومة المحتل الانكليزي، وحفظه أهازيج الفلاحين الثورية، عندما كان يستصحبه والده للمضايف عندما كان صغيراً. كما أن بيئة الريف تجعل ابناء الفلاحين بعيدين عن الخوف، وتملأهم الجرأة والإقدام...
كان حي الشاكرية حياً كادحاً بمعنى الكلمة، وابناء الشاكرية معروفون بإقدامهم وفرقهم الصدامية، فمواقفهم في الفعاليات النضالية كمساندة الاضرابات العمالية وتظاهرات السلم في كردستان ومقاومة انقلاب الثامن من شباط الأسود في عام 1963، فعاليات بطولية سجّلها التاريخ بأحرف لا تمحى من تاريخ العراق المعاصر. وتلك البيئة الجديدة وانضمامه الى أحد التنظيمات الشيوعية في الجيش قد اضفت على حسن طابعاً ثورياً واعياً... التقيت الثائر البطل حسن لأول مرة يوم 26/6/1963 أي بعد فشل موعد التنفيذ يوم 24/6 الذي كان المقرر أن تنفذ فيه القطعات العسكرية والمدنية لدى سماعها البيان الأول من الإذاعة!! التقيته مع فاضل موسى الرماحي في اجتماعنا في بيت الصديق مزهر في منطقة الخندق، فاقترحت أن يكون التنفيذ في ساعة الصفر بدلاً من التنفيذ بالاعتماد على الإذاعة، وهذا أضمن، فوافقني حسن بقوّة قائلاً : سأطلق الرصاصة الأولى في ساعة الصفر التي سَتـُحَدد، وفي الاجتماع الآخر في 30/6/ كان تدقيق ومراجعة للخطة وكان معنا هذه المرة محمود الجايجي من مدينة الثورة.. كان أسلوبه في الحديث موزوناً ورصيناً وواثقاً من نفسه... وفي المرة الثانية ضمتنا زنزانة واحدة بعد فشل الانتفاضة، وكان يتمتع بنفس الهدوء والثقة بالنفس، حيث قال متندراً:"اذا عجز الحزب عن القيام بالثورة، فستكبر ابنتي وتقوم بها!"وكان معنا في نفس الزنزانة الرفاق كاظم فوزي والرفيق نزار الأعرجي والرفيق أحمد خضر ونائب ضابط من الناصرية وشخص مدني يسمى أبو سلام من الشبيبة صاحب أسواق السلام في ساحة الطيران.
كان حسن يقول للمحققين،"أنا وحدي اتحمل المسؤولية أنا أجبرتهم على رفع السلاح... وفي محادثة مع العريف البطل كاظم فوزي في نفس الزنزانة قال له حسن قل: حسن أجبرني على حمل السلاح، فرد كاظم: لكنني كنت معتقلاً في مقر الفوج وأنا ومن معي من المعتقلين كسرنا باب السجن وخرجنا واعتقلنا الضباط واستولينا على مقر الفوج وساهمنا في الثورة! قال حسن: قل أن حسن كسر الباب وأرغمنا على حمل السلاح وكفى.»
كانت شخصية حسن طاغية على كل من عرفه فحتى الذين يحملون رتباً أعلى من رتبته يكنّون له أعمق الاحترام ويمتثلون لرأيه وتوجيهه، وبعد اكثر من اسبوع نقل حسن الى السجن العسكري رقم واحد وضمته مع مجموعة كبيرة من ثوارالمعسكر المجموعة رقم (1) الى أن أعدم مع رفاقه في فجر يوم 31/ تموز/ 1963 وهو يتغنى :
السـجـن لـي مـرتـبــة والـقـيـد لـي خـلـخـال
والـمشـنقـة يـا فهــد مـرجـوحــة الأبطــال
لكم يا حسن وكل رفاقك الثائرين وكل شهداء شعبنا وحركتنا الوطنية الــمــجــد والــخلــود.