حوارٌ تأريخي عن حقائق وأسرار حركة حسن سريع عام 1963

Wednesday 4th of July 2018 06:34:15 PM ,

عراقيون ,

سنان البصري
توفي والدي قبل انقلاب 8 شباط 1963، بحدود الشهر وكان عضواً في اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي العراقي في بداية الاربعينيات عندما كان الشهيد يوسف سلمان (فهد) المسؤول الأول عن الحزب، وقد داهموا الحرس القومي دارنا باحثين عنه فاعتقلوا اخواني الاثنين وصديقهم الحميم وجارنا فاضل السوداني (وكانت أعمارهم بحدود عشرين عاماً).

واقتادوهم الى سجن خلف السدة، وقد أخذني أخي الأصغر سعد (16 سنة) لزيارتهم وعندما التقيتهم في السجن أخذني إخوتي وفاضل السوداني باحضانهم وقد اجهشت بحرقة في البكاء لما رأيت آثار التعذيب بادية على وجوههم، وبعفوية وشجاعة حملني فاضل السوداني واتذكر دموعه لامست خدي وأوقفني في ساحة مقابلة لعنابر السجن المكتظة بالمعتقلين وكان الحرس القومي يحيطون بتلك الساحة ولقنني بحماس لاهتف بأعلى صوتي (تسقط الفاشية) وأخذ المعتقلون يصفقون ويهتفون بحماس وقبلوني وقد كنت حائراً ومأخوذاً بهذا المشهد ولن أنساه طول حياتي بالرغم من صغر سني ورجعت من زيارتي لأسرد لوالدتي الحزينة ما شاهدته من آثار التعذيب للمعتقلين الأبرياء وتصرف فاضل الشجاع وقد ضمتني الى صدرها الحنون باكية.
وبقيت علاقتنا مع فاضل وعائلته متواصله لغاية الآن حتى تاريخه النضالي نعرفه عندما اعتقل في حركة حسن سريع وبعدها في قصر النهاية بعد عام 1968 وما لاقاه في السجن وكانت عائلتنا تكنّ له كل التقدير لوطنيته وطيبة قلبه، وخصوصاً والدتي التي تعتبره أحد ابنائها وعند زيارته المستمرة لبيتنا، كان دائم الحديث عن تفاصيل حركة حسن سريع عام 1963 منذ بداية الحركة حتى اعتقاله هو وزملاؤه ومحاكماتهم وآهات الحزن تعصفه على رفاقه الذين اعدموا وكيف نجا بعد سحب فايل التحقيق من قبل أحد أقاربه ولكثرة سرده عن أحداث تلك الحركة أطلقت والدتي وبفخر لقب (فاضل 63).
وبعد سقوط نظام صدام وعند اطلاعي على الكثير من الصحف والكراسات التي تحدثت عن تلك الحركة وجدتها خالية من التفاصيل الكثيرة ومعلوماتها سطحية، لأن أبطالها قد اعدموا وأنا أعرف ضالتي وهو فاضل السوداني الناجي الوحيد منها وتفاصيلها لديه، حيث كان في نفس قفص الاتهام مع الشهيد حسن سريع وزملائه، وللأسف الشديد، وجدته يعيش في حالة من الإحباط الشديد واليأس على ما جرى لبلدنا من دمار وأحداث دامية بعد سقوط النظام ولشدة إحباطه لن يراجع حتى يسترد حقوقه كسجين سياسي بالرغم أنه يعيش الآن في فاقة من الفقر والمرض وقال لي انني غير مستعد للحوار عن الحركة وهي موجودة في الجرائد وهنا تصرفت بصورة موضوعية لأنني أعرف مشاعره جيداً، وقلت له إنها أمانة تاريخية ليست لك ولكن لرفاقك الشهداء، يجب أن تعطيني تفاصيلها كاملة، ألم تلقبك والدتي (فاضل 63) وهي فخورة بك وهنا اهتزت مشاعره ودمعت عيناه، فوافق على طلبي بمرارة لأبدأ الحوار مع فاضل السوداني آخر فرسان حسن سريع.
س: كيف كانت بدايتك السياسية والمهنية
ج- انتميت الى الحزب الشيوعي العراقي عام 1959 ولم يتجاز عمري 18 عاماً بعدها تتطوعت في مدرسة الصنائع التابعة للقوة الجوية وتخرجت منها ونسبت الى السرب التاسع في المطار العسكري في معسكر الرشيد، وكان اختصاصي على طائرات ميك 19 وبقيت هناك الى قيام انقلاب 8 شباط 1963 وقد اعتقلوني مع بعض زملائي في المعسكر وبعدها نقلوني الى سجن خلف السدة.
س: كيف وجدت الوضع في سجن خلف السدة؟
ج- لقد كان الوضع في سجن خلف السدة مأساوياً، حيث اعتقلوا الكثير من العسكريين والطلاب والموظفين والكسبة بأعداد كبيرة وحشرونا في عنابر اكتظت بنا وقد مارسوا الضرب المبرح والتعذيب الجسدي من قبل الحرس القومي، وخصوصاً كوادر الحزب الشيوعي، فكانوا ينقلونهم الى غرف خاصة للتعذيب وبعضهم يلاقي الموت جراء التعذيب الوحشي، وآخرون ينقلوهم خارج عنابر السجن وبعدها عرفنا أنهم قد أعدموا من قبل الحرس القومي المجرم.
س: وكيف خرجت من سجن خلف السدة؟
ج- لقد أخرجوني من السجن لأنني لم أكن من كوادر الحزب الشيوعي، وأنا في العشرين من عمري وقد أرجعوني الى وحدتي في المطار العسكري في معسكر الرشيد على طائرات ميك 19 .
س: هل كنت تعرف حسن سريع شخصياً، وكيف انتميت إلى تنظيم حسن سريع؟
ج: لم أكن أعرف حسن سريع ولا أعرف أن هنالك تنظيماً، وبعد خروجي من سجن خلف السدة الى وحدتي، اتصل صديق لي في المعسكر العريف حسن شفيت، وفاتحني بوجود تنظيم في المعسكر فقال لي، التوجيه الرئيس للتنظيم هو قلب نظام حكم شباط الأسود فوافقت متحمساً وعلى الفور، وذلك ما قامت به زمرة الحرس القومي ونظام 8 شباط من جرائم لم تقتصر على اعدام كوادر الحزب الشيوعي والشيوعيين، بل طالت الشهيد البطل عبد الكريم قاسم ورفاقه والكثير من ثوّار تموز والجميع يعرف أنهم لم ينتموا الى أي حزب سياسي، حيث كانوا وطنيين أحبهم شعبهم، كذلك قاموا بأعمال لا أخلاقية وصلت لاغتصاب النساء من غير اعتقال الأبرياء حتى أن مقتل الشهيد جلال الاوقتي، قائد القوة الجوية أمام داره كان وقعه كالصاعقة علينا، لأن جميع المنتسبين يحبون هذا الانسان الوطني والشريف، وهكذا بعد موافقتي عرّفني حسن شفيت على حافظ لفتة الخيّاط وكان معنا في المعسكر وكان حافظ هو حلقة الاتصال بالتنظيم ليعطينا التوجيهات بالمحافظة على سرية التنظيم لقلب نظام الحكم.
س: هل كنت تعرف أن قائد التنظيم والحركة هو حسن سريع؟ وكيف ألتقيته؟
ج: كلا لن أعرف أن قائد الحركة هو حسن سريع، فبعد أن توطدت علاقتي بالتنظيم وكان عندنا اجتماع ومعي الزملاء جاسم هادي الأعرجي وهادي الشمري ومحمد حسن وصباح ايليا وصبري عبيد وعلي حسين وحافظ لفتة، جاءني شخص عرّفني بنفسه بأنه حسن سريع، حيث عقد الاجتماع بالتنظيم حينها عرفت حينها أنه هو قائد التنظيم والحركة، واعطاني حينها مسؤولية معسكر الرشيد بكاملها وكانت تسمّى قاعدة القوة الجوية في بغداد.
س: ما هي المهمة التي أوكلت إليكم من قائد الحركة؟ وهل قمتم بالمهمة؟
ج: كنت مسؤولاً عن وكر الطائرات في السرب التاسع الذي يحتوي على طائرات ميك 19 ومهمتنا إخراج 5 طائرات ميك 19 من الوكر، حيث قمنا بالمهمة أنا وزملائي بسرعة وهمة عالية، وقمنا بتجهيز الطائرات بالوقود كذلك صيانتها لتكون جاهزة للانطلاق منتظرين قدوم الطيارين للقيام بالانتفاضة.
س: هل أعطيت لكم مهمة أخرى من قائد الحركة؟
ج : نعم فقد كانت هناك 12 طائرة ميك 19 داخل الوكر وأعطانا التعليمات الشهيد حسن، برمي النفط الأسود على مدرج الطائرات في سبيل تعذر النظام استخدامها في قمع الحركة.
س: من أبلغكم عن ساعة الصفر (أي موعد الحركة)؟
ج: لقد ابلغنا الشهيد حسن شخصياً وأمراً مباشراً عن ساعة الصفر وهي 3 تموز 1963.
س: ماهو سبب فشل الحركة؟
ج: كانت الثورة ناجحة في معسكر الرشيد ومهمتنا أنجزت بالكامل منتظرين قدوم الطيارين، ولكن كنا نعرف أن هناك واجباً لمجموعة أخرى لإخراج الطيارين من سجن رقم واحد ليقودوا الطائرات، فتعذر إخراجهم من السجن، حيث أن الحركة كانت مرهونة بحركة الطائرات، ولكن المأساة لم يأت الطيارون وبقيت الطائرات جاثمة في المطار، وهكذا فشلت الحركة.
س: ألم تكن ساعة الصفر فيها مجازفة وهي تعويل الحركة على حركة الطائرات وهل ناقشتم تلك المجازفة مع قائد الحركة؟
ج: عندما اتذكر هذا الموقف يكاد الحزن يقتلني، فقبل يومين من ساعة الصفر، كنا في اجتماع حضره الجميع، وقد طلبت أنا والشهيد صباح ايليا، أن نقوم باغتيال قياديين من انقلاب شباط، وهم طالب شبيب (وزير الخارجية) وحازم جواد (وزير الدولة) هنا رفض حسن، بعدها طلب صبري عبيد وحافظ لفتة الخياط ومحمد حسن وبإلحاح اغتيال عارف عبد الرزاق قائد القوة الجوية حينها، ومنذر توفيق الونداوي وهو ضابط طيار وكان قائد الحرس القومي وهم يعرفون مساكنهم وتحركاتهم جيداً وباغتيالهم سوف يضعف النظام قبل الشروع بالحركة، فرفض حسن بشدة، وقال نحن لسنا قتلة ومجرمين ولا نريد سفك الدماء، ويوجد قانون ومحاكم تحاسبهم كمجرمين بعد حركتنا.
س: ماذا بعد فشل الثورة؟
ج: تم اعتقالنا في سجن القاعدة الجوية في بغداد وبعدها نقلونا موثوقين الى سجن رقم 1 وقد مارسوا هنا شتى أنواع التعذيب الوحشي واستشهد الكثير جرّاء التعذيب ولم يعترف أحدنا بشيء عن رفاقه، وكما ترى هذا أثر الطلق الناري في رجلي أثناء تعذيبي أطلقه القتلة.
س: وماذا حدث داخل المحكمة؟
عندما أخذونا الى المحكمة كانت آثار التعذيب الشديد بادية على الجميع، ووضعونا في قفص الاتهام، وكان الشهيد حسن رغم التعذيب الوحشي الذي تعرض له وقف وحيداً أمام الحاكم وتكلم بجرأة وشجاعة ما اقترفته طغمة شباط الأسود والحرس القومي بحق الشعب العراقي حتى أنه أنّب رئيس المحكمة عندما سأله الحاكم كيف ترتدي رتبة ضابط وأنت عريف، فقال للحاكم، عندما ارتديت رتبة ضابط كنت أقود حركة ثورية ضد نظامكم المجرم ولم ارتديها للفخر والتبجّح كما فعلها الصعلوك عبد السلام عارف (رئيس الجمهورية) بارتداء رتبة مشير وهو عقيد وكان جوابه أذهل الجميع.
س: وما هو قرار المحكمة؟
ج: لقد أعدموا مجموعة كبيرة من الشهداء وعلى رأسهم الشهيد حسن سريع والشهداء حافظ لفتة الخياط وصباح ايليا وصبري عبيد وعلي حسين ومحمد حسن وحسن اجفيت وآخرين، وقد فصلت من الجيش في 9-10-1963 بعد أن تم سحب ملفي من التحقيق.
س: أنت آخر فرسان حركة حسن سريع هل لك موقف لن تنساه عن الشهيد حسن؟
ج: لقد كان ذلك الموقف تاريخياً لآخر كلمة قالها الشهيد حسن أمام الحاكم وهو يشير إلينا ونحن في قفص الاتهام، قال، هؤلاء أبرياء وأنا اتحمل المسؤولية الكاملة للحركة (وهنا اجهش فاضل بالبكاء) وقال لي: سنان، لقد أثرت كل مواجعي وأعطيتك كل التفاصيل فاتركني الآن.
فتعانقنا بشدة ولم تبق سوى الدموع.