السنين إن حكت.. ابتسام عبد الله في (ميسوبوتاميا!)

Wednesday 1st of August 2018 08:12:39 PM ,

عراقيون ,

زيد الحلي
هي والإبداع توأم، فمنذ أن بدأت مشوارها الثقافي، ترجمة وكتابة في مختلف الفنون"المقال، النقد، القصة القصيرة، الرواية"كانت محط اهتمام وإعجاب في الذاكرة الجمعية للعراقيين، فأحبوها.. إنسانة فيها كل جوانب الانسانية، فهي مرهفة الحس بشكل عجيب، ومتّقدة الخيال، مشّبوبة بالعاطفة، وتتمتع بخاصية فطرية صلبة، تلتقط حوداث ومصائب وطنها، بعيون متنبّهة ونظرة ثاقبة، وملاحظة كاشفة، تبّصر الجميع بمعنى الحياة وغاية الوجود، وتنفذ في دقة وعمق إلى جوهر الأشياء.

لم تجمعني بها، ظروف العمل الوظيفي أو الصحفي، لكن العمل المهني النقابي جمعني بها لأربع سنوات حين اصبحتُ عضواً في مجلس نقابة الصحفيين العراقيين، فزاملتها من عام 1986 لغاية عام 1990، وهو تاريخ مغادرتها العمل النقابي وبقيتُ أنا مستمراً... عرفتُ خلالها السيدة ابتسام عبد الله، عن قرب فوجدتها من أشد الناس حساسية، وأقلهم قدرة على تحمل الأذى، وهي ذات ذكاء ثاقب غير أن العاطفة الإنسانية، كانت هي المسيطرة على مسيرتها المهنية، فلم أسمعها يوماً وهي تغتب أحداً، أو تناور في كلماتها..
وهي لم تكن مجرد كاتبة ومثقفة ومترجمة مقتدرة وصحفية وإعلامية متميزة، إنما هي وجه من وجوه أسطورة المرأة العراقية، شريكة في صنعها، وضحية من ضحاياها، كونها تمتلك ضميراً يقضاً لا يرضى بهوان ولاتقبل بظلم يقع عليها أو على غيرها، وهنا، اتذكر موقفها الشجاع، حين تعرض صحفيون عراقيون في منتصف تسعينات القرن الماضي، الى وضع مأساوي تمثل برميهم أمام زملائهم، وهم على مسرح ساحة الاحتفالات ببغداد بالطماطم والبيض وما شابه ذلك... عندها صاحت بصوت هز القاعة، (لا... لا) وهي التي لم يُسمع لها صوت إلا بالهمس، وكادت هذه الـ (لا) أن تعصف بها وبمستقبل عائلتها، لولا رعاية الله.. لقد رأيتها هلعة لطريقة المسخ الإنساني لزملائها، ومازلت ذاكرتي تلحظ دمعتها الممتزجة بقشعريرة الرفض في ذلك المساء، داكن السواد، وبذلك أكدت ابتسام، بأن الشجاعة هي مظهر من مظاهر الثقة بالنفس.. وبالشجاعة يمكن تقليص مساحة الشر، ووعي الإنسان هو شرارة الخير، وموقفها المتفرد ذاك، سجلته بأسمها بامتياز.

من اللفظ إلى معانيه..
وهنا، يمكنني التأكيد من خلال تجربتي المهنية كزميل لها في مجلس نقابة الصحفيين، أن ابتسام تؤمن بأن العلاقات الإنسانية النبيلة هي تلك التي لا تتحكم فيها المصالح، ولا تسيطر عليها المنافع، وهي إنسانة حضارية، تعرف معنى الإنسانية وتحترمها.. ومتوازِنة الشخصية، وتتعامل مع الأشياء بعقل علمي وموضوعيّ، وفي نقاشاتها المهنية، بعيدة عن الأنانية، جريئة، صريحة صادقة مخلصة، لا تجرح أحداً، لكنها عنيدة في الموقف الصحيح.
في كتاباتها، تنطلق من الكلمة الى الكلمة، ومن اللفظ الى معانيه، ولا تحدق في ما وراء الكلمات والألفاظ، هي تكتب وفق منظورها الخاص، معبرة عن دواخل ما تريد بيسر آخاذ، من دون أن تتقيّد بهواجس الأصداء التي ربما يطلقها من يريد المناكدة والنقد، وأظن أن وراء تلك الثقة بالنفس التي تمتلكها ابتسام عبد الله، شعور مبني على قناعة بأن كل مبدع حقيقي، هو شجرة شامخة، باسقة، وترى في نفسها إنها تلك.. الشجرة.
إنها تؤمن بأن الحياة اكبر من أن يحتويها العقل، وأن الحقيقة ليست مجرد إدراك عقلي بحت، وقد دفعها حبها للحياة بما فيها من ثراء الى السفر في عالم الإبداع وهو عالم واسع جداً، وأثمر هذا السفر عطاءً ثراً في مجال الترجمة والصحافة والتأليف القصصي..

ميسوبوتاميا.. أسطورة الحقيقة
في منتصف ثمانينات القرن المنصرم، أصدرت ابتسام عبد الله روايتها المهمة (فجر نهار وحشي) التي تتحدث عن الحركة المسلحة التي قادها عبد الوهاب الشواف للإطاحة بنظام عبد الكريم قاسم، وما تبعتها من أحداث مؤلمة. وقد وثقت الرواية تأريخ الموصل الحديث، ثم صدرت لها رواية (ممر الى الليل) وأعقبتها رواية (مطر أسود... مطر أحمر) ولها مجموعة قصصية مهمة بعنوان (بخور) وأصدرت مجموعة قصصية أخرى بعنوان (بغداد... الليل والبستان) ورواية"ميسوبوتاميا"التي صدرت مؤخراً بطبعة ثانية في عمان، بعد أن طبعت للمرة الأولى في بغداد 2001 وقد تُرجمت العديد من قصصها الى اللغات الأنكليزية والفرنسية والسويدية.
وساهمت في إغناء المكتبة العربية بالعديد من ترجماتها لأبرز الكتّاب العالميين، مثل (في انتظار البرابرة) رواية"ج.م. كوتزي الحائز على جائزة نوبل»، و (سوناتا الخريف) لإنغمار برنمان ومذكرات"انجيلا ديفز"وحياة"د.ه لورنس"لكيت ساغار و»البساط الذهبي"لساغار أيضاً، و"يوميات المقاومة في اليونان"لميكس ثيودور اكس.
وما تقدم، صورة مجتزأة عن ابداعات"ابتسام عبد الله»، ولعل الذاكرة العراقية تحتفظ لها بالكثير من الألق الثقافي، والريادة في المجال التلفزيوني حين أعدت وقدمت برنامجها الشهير"نافذة على العالم"ثم تميّزت ببرنامجها الأثير"سيرة وذكريات"في ثمانينات القرن المنصرم، والذي كانت تستضيف فيه شخصية فكرية أو ثقافية أو فنية وتتحاور معه حول المحطات البارزة في حياته ويستغرق البرنامج قرابة ساعة. وقد أثبتت أنها محاورة ممتازة، وقد استحوذت على إعجاب المشاهدين، ويمكن الاطلاع على بعض حلقاته في (اليوتيوب(.
وفي عملها الصادر حديثاً في طبعة ثانية وهو رواية (ميسو بوتاميا) وهو الاسم الأغريقي للعراق، استطاعت ابتسام عبد الله أن تصهر العنصرالانفعالي المتمثل بالحصار الأسود الدي جثم على صدور العراقيين في تسعينات القرن المنصرم، بحدث مستوحى من اللوح الأول من ملحمة"كلكامش"أقدم نص أدبي محفوظ في التاريخ الإنساني.. صهرتهما في موضوع واحد، فاصبحت جميع عناصرهما مزيجاً واحداً، يوحي بالعمق والإنسانية.. فيه لفتات الذهن الحاضر وإشراق المعنى المقتنص.
وقد سعدتُ، وأنا اتسلم من المبدعة ابتسام عبد الله هديتي المتمثلة بنسخة من هذه الرواية، التي تناولت فكرتها المشهد الإنساني العراقي تحت آثار ذلك الحصار، لكنها لم تتعامل مع طرفي التناسب، الفقر والغنى بل تعمقت في دواخل أشخاص من الطبقة الوسطى والتغييرات التي طرأت عليهم، ليس فقط من الناحية الاقتصادية المنحدرة، إنما من المتغيرات النفسية والاجتماعية المتفسخة والمتعرية..

آثار في مهب الريح
تقول ابتسام عبد الله عن الرواية"عندما كتبتها كانت فكرة الاحتلال القادم متجسدة أمامي صورة ثابتة، علماً أني أنجزتها في أواخر عام 2001، لقد اخترت قصداً كلمة"ميسوبوتاميا»، اسم لمحل بيع الأنتيكات والتحف، وهي تعني بالنسبة لي، الأسم الذي أطلقه الآخرون على العراق وكأني بذلك أعيد ذلك الأسم الى الحياة والذاكرة، دلالة على الحدث القادم..»
وقد تنبأت الكاتبة بما حل بالآثار العراقية من سلب ونهب ودمار، ومن المؤلم أن الواقع أصبح أكثر سوءاً بعد الاحتلال، حيث تم تهريب العديد من القطع الآثارية العراقية المهمة وأتلف بعضها.
وفي تقديمها للرواية، قالت د. فريال جبوري غزول أستاذة الأدب الانكليزي والمقارن في الجامعة الأميركية بالقاهرة، ورئيسة تحرير (ألف) مجلة البلاغة النقدية"لقد كُتبت الرواية باستخدام وجهات نظر متعددة، وهو اسلوب اقترن غالباً بـلورنس دوريل"الرباعية الاسكندرانية"ثم اصبح متداولاً عربياً في روايات نجيب محفوظ"ميرامار"وفتحي غانم في"الرجل الذي فقد ظله».. الأسلوب السردي الذي انتهجته ابتسام عبد الله، مُنفذ بمهارة، وبما أن الأحداث كانت تروى من قبل شخصيات مختلفة، فإن القارئ يهيئ نفسه لتطور الأحداث من قبل شخصيات متعددة الأسلوب، واتجاهات متعددة وجهات النظر هي صيغة"ديمقراطية"للتقديم."

القاع والسطح..
وأنا، أقول بعد قراءتي للرواية، أن ابتسام في هذا العمل، تركت ذاتها برفقة قلمها، وذهبت الى عالم المستحيل، سافرت مع دورة الحياة لترسم صور المجتمع، بدأ من القاع صعوداً الى السطح.. مخترقة العلاقات السائدة بين الكلمات، حارثة في أرض الواقع، بحثاً عن النقيض والتضاد بهدف تقديم عمل أدبي وملحمي راق.. وهي بذلك استطاعت عبر هذه الرواية أن تتجاوز نفسها في تجربة بليغة، فأجالت برؤاها الفنية في ساحة الابداع بمختلف الاتجاهات.. وهي تدرك، أن مفتاح الإبداع في العمل الروائي هو جودة الاختيار للموضوع، لذلك عرفت كيف تنفذ برؤيتها وملحوظاتها الى ما وراء المظهر الذي يبدو كثيفاً لدى الأبصار السطحية العابرة، لكنه عندها قضية مهمة لذا فهي بذلت جهداً في تصوير موضوعها والايحاء بمكنونه، بجمل سريعة لماحة، خاطفة الدلالة وصور حركية متتابعة يواكب بعضها بعضاً.
وبلغت في هذه الرواية، حداً مثيراً من حيث سلامة الرؤية، وجرأة الطرح وحرارة الروح، وشعرية اللغة، وقوة التصميم على بلوغ الهدف، وقد اتسعت معنى الكلمة في"ميسوبوتاميا»، لتأخذ بُعداً رمزياً يتحول معها الى أن يكون موقفاً من الحياة بمجموعها من الماضي والحاضر وصياغة المستقبل، وفي هذا العمل، أغرت القارئ بالمتابعة، وسعت لشدّه الى القراءة، من خلال جمع المتعة الى الفائدة، وأجدها تطمح الى أن تجعل المتعة سبيلاً، الى اكتساب الفائدة..

ثقافة إنسانية..
وفي تحليلي لمضمون عملها الثقافي الأخير، لاحظت أن ابتسام عبد الله، تحاول جاهدة لأن تكون الثقافة الإنسانية، مستوعبة للكيان البشري بكل تفرعاته، في ماضيه وحاضره، وأن تسعى الثقافة للتعبير عن مدلولات المستقبل، على مستوى حي لا يتجرد ولا ينعزل، إنما بمشاركة حقيقية في غمار الحياة في شتى ارهاصاتها.. وتأكد لي وأنا أقرأ رواية"ميسو بوتاميا"أن الفكرة الروائية، تسهم في تدوين التاريخ دون أن تطوف في فضاء المخيلة، وهي خيال بملمس حرير يقتفي أثر الحقيقة ويلتصق بها.. ورغم الألم الذي تشيء فيه الرواية، وجدت الأمل يملأ قلب كاتبتها، وهو أمل بمثابة نور أقوى من كل الجراح والمصاعب وضربات الزمن، وهذا ما يؤكد، أن الرواية التي تكتبها ابتسام، تمر بميلاد صعب دائم لايصيبها العجز ولاتهزمها الأيام والسنين، لأن الإبداع هو مبكاها، وهو أفق حياتها.
وأهم ما لمسته في كتابات ابتسام عبد الله، هو دقة احاسيسها، وقدرتها على التقاط الجزئيات الموحية من مجرى الحياة الواقعية، لكي تخلق منها نسقاً أدبياً متكاملاً وهي تستطيع أن تلقف من الحياة صورة معينة وأن تستبطن هذه الصورة مستوحية منها كل ما يشع من المعاني والأحاسيس، وكل ما يفيد في تعبيرها الفني.
وفي هذه الرواية وغيرها من كتابات ابتسام عبد الله، نلمس نشوة جمالية، والمبدع المعطاء هو من يطيل زمن هذه النشوة في ذائقة القارئ.. وألمسُ أن مبدعتنا استمدت ثقافتها من الحياة أكثر مما استمدتها من الكتب رغم عشقها للقراءة والمتابعة.. والشيء المتميز في مسيرة ابتسام، إنها بقيت تستعيد الحياة ولم تتنازل لسنوات العمل الاعلامي الطويلة بمختلف صوره المرئي والمكتوب، فبقيت تحمل في ذروة تلك السنوات، حساسية الشباب والعنفوان.. وأصبحت للمختلف ضدها أو المتفق عليها، واحدة من ابرز علامات جيلها، ومن الأكثر شهرة والألمع اسماً في ذاكرتنا..
لقد اهتمت ابتسام عبد الله بقصصها في نقد الحياة، نقداً جدلياً، بأسلوب بارع تمثل في خفة الأسلوب وسرعته، مع التركيز والقدرة على الايحاء بتركيب ذكي لحوار شخصيات رواياتها وقصصها.. وهي تدرك أن الابداع القصصي غالباً ما يكون أن نصنع شيئاً من لاشيء، وقمة الفن في التعبير هو أن نقول اشياء كبيرة بألفاظ بسيطة وصور إنسانية أقرب الى السليقة منها الى الصنعة المعقدة التي توحي بالجهد والافتعال.. وأجدها تعرف وهي الصحفية المحترفة، أن الفن التلقائي اسمى بكثير من"الصنعة"المعقدة الخاوية، ودرّبت مشوارها الابداعي على التقاط الملاحظة الدقيقة، وحسن اختيار اللمسة الفنية المعبّرة، لذلك أراها تنتقل في قصصها بيسر من الحكاية البسيطة الى الحكاية المركبة، بأسلوب يجمع بين الروح الشاعرية وروح الابتسامة المؤثرة..